ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين المعارضين والشاب الذي نجح في تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات البلدية الأخيرة في بريطانيا يعلن أن حكومة توني بلير العمالية فقدت شرعيتها الحقيقية. أما عن التغيرات الواسعة التي أجراها توني بلير بعد الهزيمة النكراء التي لقيها حزب العمال فقد وصفها كاميرون بأنها انقلاب فارغ المضمون وليس محاولة لوضع سياسات جديدة. وليس كاميرون وحده الذي يقول ذلك فهناك مجموعة من أعضاء البرلمان من حزب العمال (75 عضوا) جمعوا توقيعات لحمل بلير علي الاستقالة من رئاسة الحزب بعد الخسارة غير المسبوقة التي تسببت فيها سياساته والمعروف ان النتائج النهائية لانتخابات البلدية حصل فيها حزب العمال علي حوالي 26% وخسر 300 مقعد في المجالس المحلية كما فقد سيطرته علي المدن الكبري وعلي غالبية مجالس الأحياء في العاصمة لندن والتي كانت تعد معقلا تاريخيا للعمال بينما حصل حزب المحافظين المعارض علي نسبة 40% من المقاعد أما الأحرار الليبراليين فقد حصلوا علي 27%. وعلقت صحيفة التايمز البريطانية علي التغييرات الوزارية الواسعة التي أجراها رئيس الوزراء المهزوم من أجل الحفاظ علي مركزه في مواجهة معارضة متزايدة في الشارع البريطاني وداخل حزب العمال نفسه ووصفتها بأنها إجراءات انقلابية شملت طرد وزير الداخلية تشارلز كلارك وسحب الخارجية من جاك سترو وتقليص مهام جون بريسكون وتعديل مناصب وزارية أساسية وهم ممن يعارضون تمادي بلير في تبني السياسات الأمريكية ويحاول رئيس الوزراء إحاطة نفسه بمعاونين أوفياء له مثل مارجريت بيكيت وزيرة الخارجية الجديدة وجون ريد وآلان جونسون. أما جوردون براون وزير الخزانة والذي كان ينظر إليه علي أنه خليفة براون فقد ألمح إلي أن احدا لم يستشره في هذه التغيرات واعتبرها أنصاره بمثابة اعلان حرب علي براون نفسه. وتجيء هذه الانقلابات والهزائم مع احتفال بلير بعيد ميلاده -53 عاما- وبالذكري الأولي لولايته الثالثة حيث كان قد أعيد انتخابه 2005 رغم ان الاغلبية التي حاز عليها كانت ضئيلة وأقل بكثير من سابقها الا انه اعتبر نصرا كبيرا امامها لعدة أسباب. منها انه ولأول مرة يتولي حزب العمال ورئيس وزارئه السلطة لثلاث فترات متتالية ولم يحقق ذلك من قبل سوي حزب المحافظين بزعامة مارجريت تاتشر المرأة الحديدية كذلك فان المعارضة الشديدة التي كان يلقاها بلير سواء في الشارع البريطاني أم داخل حزب العمال نتيجة تحالفه الوثيق مع إدارة الرئيس الأمريكي فشلت في منعه من تولي المسئولية الأولي في بريطانيا وهو ما اعتبر أمامها انتصارا له ولسياساته. ويقول فرانك وولسون وزير الصحة العمالي السابق انه قد آن الأوان لان يتنحي بلير عن قيادة السفينة التي تكاد تجنح مثل السفينة تيتانيك فبينما يعقب جراهام سترنجر رئيس مجلس بلدية مالسستر ان المطلوب وبسرعة ليس تغيير طاقم السفينة الجانحة بل تغيير القبطان الفاشل - بلير. جاء توني بلير وحزب العمال إلي السلطة في أعقاب فترة طويلة امتدت منذ منتصف الثمانينيات وحتي منتصف التسعينيات حكمت فيها بريطانيا المرأة الحديدية مارجريت تاتشر زعيمة حزب المحافظين واستطاعت تاتشر أن تعرض منهجا محافظا للغاية اتسم بما يشبه العداء لأي اتفاق اجتماعي مع عداء مستحكم للاتحادات العمالية ودورها التخريبي في الاقتصاد علي حد تعبيرها. واستطاعت تاتشر ان تواجه اتحاد العمال البريطاني القوي والذي ظل يلعب دورا مهما في السياسات الاقتصادية البريطانية طوال القرن العشرين ولأول مرة في التاريخ البريطاني الحديث تتحدي تاتشر الاضرابات العمالية وترفض تقديم أية تنازلات فيما يتعلق بالأجور وتجاهلت تماما الاضراب الذي قام به عمال الفحم والمناجم لأكثر من أربعة شهور وبالرغم من الخسائر المادية الكبيرة التي لحقت بالاقتصاد البريطاني إلا ان الخسارة الأكبر كانت بالنسبة لاتحاد عمال المناجم بل وبالنسبة للاتحاد العام للعمال الذي اضطر ولأول مرة ان ينهي الاضراب الطويل دون الحصول علي أية مكاسب. ولكن المرأة الحديدية وسياساتها الرأسمالية المحافظة والتي كسرت أنف اتحاد العمال البريطاني ارتكبت غلطة العمر حين حاولت التمادي في سياساتها الرأسمالية المتوحشة وحاولت المساس بالحقوق والخدمات الصحية للمواطنين الأمر الذي أثار عليها قطاعات جماهيرية واسعة بما في ذلك شرائح اجتماعية من المعجبين بالمرأة الحديدية. واضطرت تاتشر لترك منصبها لجون ميجور في الفترة الثالثة وكان ذلك ايذانا بغياب شمس المحافظين. وكان الانتصار الحاسم لحزب العمال ورئيسه الشاب توني بلير والذي كان في أوائل الأربعينيات هو رد فعل شعبي ضد سياسات تاتشر خاصة فيما يتعلق بأمرين: أولهما هو البعد الاجتماعي للتنمية والحفاظ علي المكاسب التي حققها العمال طوال قرن من الزمان بما في ذلك التأمين الصحي الشامل والتعليم المجاني وبدل البطالة والمعاشات المجزية. والثاني هو الارتباط بالسياسات الأمريكية والذي كان متمثلا في تحالف تاتشر/ ريجان والذي ساد في فترة الثمانينيات. ولكن الأحلام التي كانت معقودة علي حزب العمال ورئيس الوزراء الشاب والجماهير التي ساندته علي مدي ثلاث فترات سرعان ما اجهضت وخاب ظنها خاصة بعد التحالف الوثيق الذي جري بين توني بلير المفترض انه رئيس حزب العمال الاشتراكي وجورج بوش الرئيس الأمريكي الجمهوري المحافظ. وكانت حرب العراق والتحالف البريطاني الامريكي في هذه الحرب والعزلة الاوروبية التي عانت منها انجلترا هي أهم العوامل التي أجهضت الأحلام وكانت مظاهرة لندن المليونية الشهيرة وغير المسبوقة في فبراير 2003 ضد العدوان علي العراق بمثابة انذار لرئيس الوزراء ثم جاءت محاولات النيل من المكاسب الاجتماعية للطبقات الوسطي والعمالية لتؤكد ما يردده الجناح اليساري داخل حزب العمال بان بلير معجب للغاية بسياسات تاتشر ويحاول تطبيقها. ولكنه لن يكون الرجل الحديدي علي كل حال.