د.فتحي عبد الفتاح المعركة التي دارت في ميدان مصطفي محمود بالدقي بين قوات الأمن وبضعة آلاف من اللاجئين السودانيين هي مأساة بكل معني الكلمة. فهذه المعركة التي راح ضحيتها عشرات القتلي ومئات الجرحي لم يكن فيها ظالم ومظلوم فهي معركة خاطئة في ظروف خاطئة جرت بين طرفين مظلومين بينما الجاني الحقيقي يتفرج بل ويمعن في اشعال النيران. والجاني الحقيقي في كل ذلك هي بعض دول الشمال الغني التي تعمل علي تأجيج الصراعات العرقية والقبلية والدينية لتأكيد نفوذها وسيطرتها مثلما جري في حرب الجنوب في السودان تلك الحروب التي تواصلت علي مدي ثلاثين عاما راح ضحيتها الملايين من الثروة البشرية والمليارات من الثروات المادية. وكان من الطبيعي أن تتزايد الهجرات الجماعية في العقدين الماضيين من جنوب السودان ومن البؤر الملتهبة في العالم بحثا عن حياة آمنة مستقرة وبعيدا عن آلة الحرب اللعينة ودمارها، وكانت مصر بحكم موقعها الجغرافي طرفا لكثير من الهجرات الوافدة من معارك دامية في الأراضي الفلسطينية أو من جنوب السودان، وكان المهاجرون يعتبرونها محطة ترانزيت للنزوح شمالا خاصة إلي أوروبا وأمريكا وكندا. وتكمن المأساة الحقيقية في أن دول الشمال الغني التي تعتبر المصدر الأساسي لدفع الحروب والنزاعات الحدودية والاثنية والعرقية تأكيدا لمصالحها في افريقيا هي نفسها التي تزايدت فيها صيحات التحذير والشكوي حول ما أسموه بتدفق هجرات العاطلين وفقراء الجنوب والشرق بل أصبح ما يمكن أن نسميه بلوثة هجرة الجنوبيين والانزعاج الشديد لدي بعض الأوساط والأحزاب في أمريكا وأوروبا من هذه الهجرات التي أطلق عليها بعض الكتاب العنصريين في الغرب أنها موجات الاستعمار الجنوبي المتخلف الملوث للثقافة والبيئة. ولعل الاحصائيات والحقائق التي تضمنتها وثائق مفوضية الأممالمتحدة لشئون اللاجئين تكشف الكثير من الحقائق المؤلمة عن اتجاهات الهجرة العالمية، وتفضح في نفس الوقت تلك الدعاوي الزائفة التي تصدر من الغرب الأوروبي والأمريكي والتي بالغت كثيرا في اخطار الهجرة عليها وعملت علي اتخاذ المزيد من الاجراءات التي تغلق حدودها وأبوابها أمام المهاجرين واللاجئين. والاحصائيات تؤكد أن الدول النامية والصغيرة والفقيرة هي التي استقبلت ما بين 80 إلي 85% من اللاجئين والمهاجرين خلال السنوات العشرة الماضية وتؤكد تقارير الأممالمتحدة في هذا الصدر أن بلداناً مثل باكستان وايران وكينيا وتنزانيا مازالت تتحمل نصيب الأسد من هذه الهجرات الناشئة عن الحروب والصراعات التي تجري في آسيا وافريقيا وتلعب الدور الرئيسي فيها الولاياتالمتحدة وبعض الدول الاوروبية. ويقدر عدد المهاجرين واللاجئين بأكثر من 40 مليون لاجئ وهارب ومهاجر لاسباب سياسية واقتصادية اما هربا من فقر مدقع وبحثا عن حياة أفضل، وإما هربا من آلة الحرب الرهيبة التي تجري في تلك المناطق وتلعب فيها المصالح الاقتصادية والاحتكارات العملاقة دورا أسياسا في اذكائها تنشيطا لصناعة السلاح وتأكيدا لمناطق النفوذ والمصالح. وكان عدد اللاجئين سنة 1970 يقدر ب 3 ملايين لاجئ ومهاجر وسنة 1990 15 مليوناً، سنة ،1995 20 مليونا بينما ذهبت تقديرات سنة 2000 بأكثر من 30 مليوناً ويكشف التحليل الدقيق لحركة الهجرة واللاجئين أن افريقيا تستوعب أكبر عدد من اللاجئين في العالم (أكثر من 12 مليون لاجئ) يتوزعون بين عدد من الدول الافريقية خاصة كينيا وتنزانيا وزيمبابوي وجنوب افريقيا وان أكثر أربع بلدان خرج منها لاجئون في العقد الأخير هي افغانستان (حوالي 3 ملايين) والسودان (5.2 مليون) ورواندا (2 مليون). كما أن هناك 28 دولة أخري لدي كل منها أكثر من مائة ألف لاجئ، بينما يقدر عدد اللاجئين والمهاجرين إلي الدول العربية حوالي 4 ملايين منهم أكثر من 2 مليون من أصل فلسطيني. ان مشاكل الهجرة واللاجئين في العالم هي أحد المظاهر الواضحة والفاضحة للانقسام الحاد المتواجد علي الساحة الدولية بين شمال غني يعاني من أمراض التخمة والرغبة في السيطرة والهيمنة، وبين جنوب فقير مستنزف يعاني من الانيميا الحادة ويجري يوميا، ومن خلال عمليات الاستقلال المركزة وقوانين التجارة الدولية والشركات المتعددة الجنسيات نقل الدم والثروة منه إلي الشمال الغني. والواضح أيضا أن الجنوب الفقير المستنزف هو الذي يستضيف ملايين المهاجرين واللاجئين الذين تضربهم قسوة الحروب والنزاعات المسلحة التي تجري دائما بأسلحة من أمريكا ودول الشمال الغني وتتحسن مؤسسات الصناعات العسكرية في الغرب والتي تعتبر الآن أكثر الأنشطة الصناعية والتجارية التي تدر أكبر العوائد والدخول. وقد لاحظت التقديرات الأخيرة لمفوضية الأممالمتحدة لشئون اللاجئين ان المشكلة ارتبطت بتزايد بؤر الصراع والنزاعات في العالم وان الكثير من أزمات المهاجرين واللاجئين هي نتيجة مباشرة لسياسات اتبعتها وتتبعها بعض الدول الكبري المتنافسة،