انتفاضة أرباب المعاشات استعادة الفلسطينيين لأراضيهم المحتلة.. أسهل كثيرا من استعادة أرباب المعاشات لأرصدتهم من وزارة المالية. سمعنا جملة «التأمينات والمعاشات في أيد أمينة» عندما كانت أمينة الجندي تشغل منصب وزيرة التأمينات والشئون الاجتماعية. يومها أدرك أرباب المعاشات.. أن الحكومة تنوي اللعب في معاشاتهم لسد العجز في ميزانيات القنعرة.. وبدأت الفئران تلعب في عب كل واحد منهم.. لأنه ليس من المعقول أن تعلن الحكومة أن المعاشات في يدي أمينة الجندي.. وهي تقصد اسم السيدة الوزيرة.. وإنما هي تريد «تنويم» الرأي العام ليتسني لها الاستيلاء علي أموال المعاشات المودعة في بنك الاستثمار القومي.. التي تعد بمثابة الوديعة التي تخص أرباب المعاشات. وكانت وديعة التأمينات.. أيام أمينة الجندي.. تصل إلي 150 مليار جنيه، وقالت الوزيرة أيامها.. إنه لا خوف علي أموال التأمينات.. وكل ما في الأمر أن الجهود مركزة علي تحقيق أفضل استثمار لها من أجل الأجيال القادمة.. وأن الدولة تتحمل 70% زيادة سنوية لأصحاب المعاشات لمواجهة أعباء الحياة.. علاوة علي التأمين علي جميع المصريين في الخارج.. لصالحهم.. ولصالح أسرهم. ولم يصدق الناس الوزيرة.. ولا شعار «التأمينات والمعاشات في أيد أمينة».. لسبب بسيط هو أن حكامنا يستطيعون إقالة الوزيرة أمينة الجندي.. واختيار وزيرة أخري توافق.. بلا إضاعة للوقت ولا يكون اسمها أمينة. وبالفعل أقالوا الوزيرة .. التي كانت تقترح علي حكامنا تحويل جزء من أموال التأمينات لبنك ناصر.. لأنه يخدم صغار العاملين.. وفئات المجتمع والمرأة والفقراء.. باعتباره بنكا للفقراء.. وجاءوا بوزيرة اسمها «ميرفت».. وأصبحت أموال التأمينات في يدي ميرفت.. بدلا من أمينة. وبصعود ميرفت التلاوي لمنصب وزيرة التأمينات بدأ حكامنا.. يواجهون لأول مرة.. وزيرة أشد مراسا.. وأكثر ترفعا.. ولم يكن تشغلها في حياتها قضية اعتلاء المناصب والجري وراء أصحاب الحل والربط.. لتقبيل الأيادي.. وإهدار الكرامة الإنسانية.. وزيرة من زمن.. مضي. وقدمت ميرفت التلاوي سلسلة من المقترحات لاستثمار أموال التأمينات التي كانت قد بلغت في ذلك الوقت 150 مليار جنيه.. بعيدا عن استثمارها في بنوك أمريكية.. واكتشف حكامنا أنها «ليست متعاونة». وكانت التهمة التي تجري علي لسان وزير المالية يوسف بطرس غالي.. تتلخص في أن وزيرة التأمينات «غير متعاونة». وهي تهمة مبتكرة بالفعل.. وتعكس القدرة الفائقة علي قلب الحقائق.. لأنها تعني في النهاية تعاون الضحية مع القاتل.. وأن تقوم الضحية بتقديم السكين للقاتل.. هامسة له: أرجوك.. اقتلني.. اعمل معروف!. وهكذا سمع حكامنا.. كلمة «لا» من الوزيرة الجديدة.. كما سمعوها من الوزيرة القديمة ولم يكن أمامهم سوي الحل الجهنمي.. وهو إلغاء الوزارة برمتها. لم تعد هناك وزارة للتأمينات.. ولا وزيرة للتأمينات.. وبات من الطبيعي أن تصبح أرصدة المعاشات بين يدي وزير المالية.. يسد بها العجز.. ويضارب في البورصة.. ويغلق كل أبواب ومنافذ الإنتاج.. كي يفتح أبواب الاستيراد علي مصراعيها. ومعني هذا الكلام.. أن أرصدة أرباب المعاشات التي كانت بمثابة الوديعة تحولت إلي أموال سيادية.. تدخل خزينة الدولة وتخرج منها.. كيفما تشاء.. وأينما تشاء.. بلا حساب.. وينطبق عليها ما كان يسري علي الأموال العامة طوال الثلاثين سنة الماضية.. وفي مقدمتها المنح والمعونات والمساعدات التي حصلت عليها مصر من الدول الأجنبية في الفترة من سنة 1982 وحتي سنة 2007.. والتي يقول عاطف عبيد في اعترافاته التي سجلها بخط يده ونشرت في أول نوفمبر 2008 أنها بلغت 284 مليار جنيه (!!). ويعترف عاطف عبيد بأن مصر حصلت علي هذه المعونات بعد 30 زيارة قام بها الرئيس مبارك لأمريكا وأن أعداد الزيارات للدول الأخري كانت تقترب من هذا العدد «يقصد الرقم» تقريبا.. بما يعني أن الرئيس مبارك قام بما يقرب من 60 زيارة للخارج خلال 15 سنة من أجل الحصول علي المعونات التي بلغت «علي حد قوله» 284 مليار جنيه. مفهوم طبعا أن ال 284 مليار جنيه.. دخلت ميزانية الدولة وخرجت منها.. علي سنة الله ورسوله.. إلي أن اختفت وبدأ البحث عن معاشات كبار السن والأرامل. المهم أنه باختفاء وزارة التأمينات.. أصبحت وزارة المالية تقوم بدور الوصي علي أموال اليتامي.. وقامت بإعداد مشروع قانون جديد للتأمينات والمعاشات.. يجعل أرصدة المعاشات القديمة والتي بلغت 400 مليار جنيه في «خبر كان» واللي فات مات.. ونحن أولاد النهاردة.. إلخ. واستعادة البسطاء من أرباب المعاشات لأموالهم من يوسف بطرس غالي.. ليست سهلة.. فهي أشد صعوبة من استعادة الأراضي التي جري احتلالها سنة 1967 بل إن خروج الأموال من وزير المالية.. أكثر صعوبة من خروج الإسرائيليين من غزة. وما ينطبق علي الأراضي المحتلة سوف يسري علي أموال التأمينات والمعاشات.. وستشهد تشكيل الوفود من أرباب المعاشات للتفاوض مع الحكومات المصرية المتعاقبة.. لاستعادة أموالهم.. المغتصبة. وفي أثناء المفاوضات.. سيموت أعضاء وفد المعاشات الواحد تلو الآخر.. وستتغير الحكومات في القاهرة.. وتبدأ المفاوضات من جديد.. وسوف تتدخل «واشنطن» وتبعث بالوسطاء لتحريك عملية المفاوضات، إلي أن يموت آخر مسن كان يعتقد أن أموال التأمينات مثل ودائع البنوك.. ويؤمن بالنضال لاستعادة الحقوق. وعلي غرار المشروعات الإسرائيلية للتسوية السلمية.. من باب كسب الوقت.. قدمت وزارة المالية مشروع قانون التأمينات والمعاشات الجديد.. ومعه جداول التحريك التدريجي المقترح لرفع سن المعاش إلي 65 سنة.. والضمانات التي ستقدمها للحفاظ علي مستوي معيشي ثابت لا يتأثر بالتضخم بالنسبة لأصحاب المعاشات. أما بالنسبة لمعاش الشيخوخة فسوف تتم زيادة المعاشات المنخفضة بمنحها جزءا من المعاش الأساسي يتناسب مع الفرق بين قيمة تلك المعاشات وقيمة المعاش الأساسي. ويلاحظ القاريء أن المفردات المستخدمة.. أشبه بالمقالات الافتتاحية في صحيفة «الأهرام» والتي تعجز العفاريت عن فك طلاسمها. وكما تضرب إسرائيل بالقوانين الدولية عرض الحائط نجد أن وزارة المالية تمارس نفس السياسة.. وتخالف الدستور الذي ينص صراحة علي أن أموال التأمينات هي أموال خاصة بأصحابها.. ولا يجوز للدولة أن تتصرف فيها.. لأنها أموال خاصة، وليست أموالا عامة.. ومع ذلك فإن وزارة المالية تضرب بهذه القوانين عرض الحائط.. وتغير «ملامح» الأموال وتقيم المستوطنات.. وتطرد السكان القدامي.. وتستولي علي أموالهم. والمثير في الموضوع أن قانون التأمينات الجديد تضمن بعض الأفكار التي لم تخطر علي بال الإسرائيليين أنفسهم.. ومن بينها أن المعاش لا يورث. يعني زوجة وأبناء صاحب المعاش لا يرثونه بعد خروجه من الحياة الدنيا إلي الآخرة خروج السهم من القوس.. وهو ما لم يخطر ببال الإسرائيليين.. بإصدار قانون بأن أرض الفلسطينيين لا تورث. المعاش لا يورث.. ولا ينتقل إلي الأبناء والزوجات.. لماذا؟ لأن الحكومة عندما خصمت أقساط التأمينات لم تقدم وعدا لصاحب المعاش بالمزايا التي يتمتع بها بعد خروجه إلي المعاش.. أو بعد خروجه من الدنيا الفانية.. ومن بينها أن يتمتع أولاده أو زوجاته بالمعاش. ما الحل؟!.. الحل كما تراه وزارة المالية المصرية هو أن يقوم العامل حين يخرج إلي المعاش باستخدام المبالغ المجمعة في حسابه الخاص في شراء وثيقة معاش لورثته من إحدي شركات التأمين. أي أن يتوجه أرباب المعاشات وهم في سن 65 سنة إلي إحدي شركات التأمين المتخلفة عقليا.. لدفع أقساط هزيلة لمدة زمنية قصيرة.. لا يعرفها إلا الله «سبحانه وتعالي» ويحصل علي معاش لأولاده وأطفاله إلي أن تقوم الساعة. كلام عجيب.. ولو تذرعت إسرائيل بمثله لانقلبت الدنيا رأسا علي عقب.. ولكن وزارة المالية تسوق من الحجج ما لا يقبله المنطق كقولها إن إصلاح هيكل الموازنة العامة.. سيؤدي تلقائيا لإصلاح حال أرباب المعاشات.. كأن تقول إسرائيل إن بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة سيرفع مستوي المستوطنين وبالتالي سوف تتحسن أحوال الفلسطينيين. لا أعرف مدي دستورية مشروع القانون الجديد للتأمينات والمعاشات، ولا دستورية استيلاء الحكومة علي 400 مليار جنيه.. هي حصيلة أموال ستة ملايين مواطن أفنوا حياتهم في تعطيل مصالح المواطنين في دواوين الحكومة.. ولكن الواضح أن ما جاء في «الكتيب» الذي أصدرته وزارة المالية منذ أيام.. والذي تشرح فيه هذا المشروع العجيب.. تكشف.. عدم دستورية أغلب مواده.. لأنها تقوم في مجملها علي تبرير استيلاء الحكومة علي أرصدة التأمينات لسد العجز في ميزانية الدولة.. والتحايل علي قواعد صندوق النقد الدولي التي تضع حدا لمديونيات الدول. الديون الداخلية كبيرة.. والديون الخارجية هائلة.. ولم تعد القواعد الدولية تسمح لحكومتنا بمزيد من الاقتراض.. وبالتالي فلم يعد أمامها سوي البحث في دفاترها القديمة.. وعن أموال أرباب المعاشات تستولي عليها وتضمها لأموالها.. كي تبدو أمام المؤسسات الدولية.. كدولة.. استطاعت القضاء علي الفقر.. بالقضاء علي الفقراء.. بالأمراض تارة وبالألبان المشعة تارة أخري.. وبالصرف الصحي تارة ثالثة. ولم يعد أمام أرباب المعاشات سوي الدعوة لانتفاضة شعبية.. يشترك فيها الملايين من أرباب المعاشات وزوجاتهم وأحفادهم.. ويهددون خلالها بالامتناع عن جلسات الغسيل الكلوي وتعاطي أدوية الضغط والسكر.. والإنترفيرون. أهلا بانتفاضة أرباب المعاشات.. لأنها إذا لم تنجح في استعادة الأموال المنهوبة.. فسوف تنجح في خفض عدد السكان.