عندما لجأت وزارة التربية والتعليم إلي كليات التربية لإصلاح التعليم طفت علي السطح مأساة التعليم في مصر متمثلة في خريجي كليات التربية الذين أصبحوا «بضاعة مضروبة» تلفظها سوق العمل، فارتفعت أصوات من داخل الحزب الحاكم مطالبة بإجراء عملية استئصال لسرطان المجتمع الذي أصاب نسق التعليم والذي يهدد المجتمع بالموت، فكانت الدعوة إلي خصخصة جزء من التعليم الأساسي والجامعي مع إجراء تغييرات جذرية في الجوهر التربوي لهذين المستويين من التعليم تمهيداً للخصخصة الشاملة، أما الهدف فهو أن يكون الخريج، سواء في التعليم الأساسي أو الجامعي، قادرا علي خدمة المجتمع بدفعه نحو التقدم، وكان الإطار المرجعي لهذه الدعوة هو مبدأ «الجودة» الذي يستند إلي معايير تحقق المحاسبة أو المساءلة. عندئذ هرعت كليات التربية وأساتذتها إلي «فبركة» البيانات التي تفيد بأن هذه الكليات تتبع معايير الجودة حتي تخدع الدولة مرة أخري وتقنعها بالإبقاء علي كليات التربية، أو بالأدق علي معامل تفريخ الفساد في التعليم. والسؤال الآن: هل ستنخدع الدولة مرة أخري أم ستنتبه إلي المؤامرة، وأقصد بها مؤامرة أساتذة كليات التربية لاغتيال العقل المصري والشخصية المصرية، والإجهاز علي المجتمع المصري تحت شعار «الجودة والاعتماد»؟. علي المصريين السلام وحتي لا تنخدع الدولة فعلي المسئولين الانتباه إلي أن معركة القضاء علي فساد التعليم، أو بالأدق إصلاح التعليم، هي معركة بين التعليم الإبداعي والتعليم التلقيني، أو بين «ثقافة الإبداع» و«ثقافة الذاكرة» علي حد تعبيرات مراد وهبة في كتابه «فلسفة الإبداع»، وستظل الغلبة في هذا الصراع لثقافة الذاكرة والتعليم التلقيني مادام أساتذة كليات التربية في الصدارة ينقلون عن نظريات فاشلة وفاسدة لأنهم عاجزون عن إبداع نظريات جديدة تواكب العصر، أي عصر الإبداع، لسبب بسيط وهو أن أصحاب النظريات «هناك»، أي في أمريكا وانجلترا، في أزمة لأنهم عاجزون أيضا عن إنتاج النظريات الجديدة، وهذا العجز مردود إلي غلبة علم النفس السلوكي الذي يعلي من شأن الحواس ويضعف من القدرة علي التجريد والتنظير، ويشترط عدم تغيير الواقع، وحتي يظهر من يستطيع أن يأتي بالنظرية الجديدة للإبداع في التعليم، بشرط «تأتي من خارج مصر وليس من داخلها طبقا لما اعتاد عليه أساتذة كليات التربية في مصر، سيظل هؤلاء الأساتذة يروجون ل «بلوم» وأمثاله، وسيظل التعليم في انحدار والمجتمع في تخلف، ولا عزاء لأحد وعلي المصريين السلام!!!. ولا أدل علي ذلك من أنه عندما طرح مراد وهبة، ومعه فريق من تلامذته، مشروع «الإبداع والتعليم العام» في عام 1986 وقدمه إلي د. فتحي سرور عندما كان وزيرا للتربية والتعليم، قامت القيامة ولم تقعد حتي اليوم في كليات التربية ووزارة التربية. فالمقاومة لم تتوقف واتخذت أشكالا متنوعة من خلال الاتهام بالخيانة السياسية إلي التكفير الديني وجهها أساتذة كليات التربية، وبالأخص التربية «الأم» بجامعة عين شمس، في محاولة للإجهاز علي المشروع منذ 1986 وحتي 1996 عندما أصدر عميد كلية التربية بجامعة عين شمس قرارا بإغلاق «سمنار الإبداع» الذي كان قد أسسه د. مراد وهبة بالكلية، وعندما حاول د. فتحي سرور تطبيق الإبداع في مادة الفلسفة بالمرحلة الثانوية مما استلزم إلغاء الكتاب الخارجي والإجابات النموذجية، جاء تحذير بإلغاء هذه التجربة بدعوي أن مكتبات ومطابع شارع الفجالة التي تطبع وتبيع هذه الكتب سوف تتضرر من هذه التجربة وفي هذه الحالة قد يتأثر أمن وسلامة المجتمع. ومع ذلك فثمة أمل في الإصلاح، وتأسيسا علي ذلك كله يمكن القول بأن الإجهاز علي الفساد في التعليم ممكن إذا كان الجواب الإجابة عن السؤال الذي طرحته إحدي الجرائد القومية منذ نحو أربع سنوات، وهو علي النحو التالي: «هل تخرج كليات التربية من الخدمة؟». إذا سلمنا بأن نظامنا التعليمي القائم علي ثقافة الحفظ والتلقين، والمستند إلي مبدأ أن لكل سؤال جوابا واحدا صحيحا، مسئولا إلي حد بعيد عن تأسيس وتنمية العقل المتعصب الذي يفرز الإرهاب ويمارسه في شتي صوره في المجتمع، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما البديل؟. والجواب هو: تأسيس العقل المبدع المفتوح، أي نقيض العقل المتعصب «الدومجاطيقي» أحادي الرؤية والمتعاطي للتكفير مثل الماء والهواء انطلاقا من اعتقاد راسخ بأنه «يمتلك الحقيقة المطلقة» علي حد تعبير د. مراد وهبة في كتابه «ملاك الحقيقة المطلقة». والسؤال الآن: ما المقصود بالعقل المبدع؟ للجواب عن هذا السؤال يلزم أولا تحديد معني الإبداع، إن المفهوم الشائع عن الإبداع أنه مرتبط بالفنون والآداب والسينما والمسرح والغناء والرقص والفنون التشكيلية.. إلخ. أما في مجال التعليم، وهو ما يهمنا الآن، فقد تناول الإبداع عددا من إخصائيي علماء النفس التربويين منذ أكثر من مائة عام، من أبرزهم جلفورد، وتورنس، وسبيرمان، وهدسون، وثرستون، ولنا علي تعريفات هؤلاء للإبداع ملحوظتان: الملحوظة الأولي، أن تعريفهم للإبداع ينص علي الجدة ولكنه لا ينص علي تغيير الواقع. والملحوظة الثانية، أنهم تناولوا الإبداع في إطار الذكاء، ولكنهم فوجئوا وهم يمارسون اختبارات الإبداع والذكاء أن الذي يحصل علي نسبة مئوية مرتفعة في اختبارات الإبداع يحصل علي نسبة منخفضة في اختبارات الذكاء، ومن ثم فالعلاقة عكسية بين الإبداع والذكاء، بمعني أن المبدع ليس ذكيا، أي أن المبدع غبي، وهذه مفارقة نشأت من المحافظة علي مفهوم الذكاء جنبا إلي جنب مع مفهوم الإبداع، ولهذا فمن الضروري الاستغناء عن مفهوم الذكاء والاكتفاء بمفهوم الإبداع، وهو ما لم يتم إلي الآن. في إطار هذا الخضم العالمي من أبحاث الإبداع ودوره في التعليم وفي تطوير الفرد والمجتمع، كانت لمصر تجربة رائدة قام بها الفيلسوف المصري العالمي مراد وهبة عندما تقدم بمشروع عن الإبداع والتعليم العام إلي جامعة عين شمس في عام 1986، وكان لي شرف المشاركة في هذا المشروع منذ بدايته إلي أن توقف بفعل المقاومة المحكومة بالتخلف في كلية التربية ووزارة التربية والتعليم وقتها. وأيا كان الأمر، فإن التميز الذي يتسم به مشروع مراد وهبة يكمن في تعريفه غير المسبوق للإبداع، حيث إنه يطرحه لأول مرة في المجال المعرفي، أي مجال العقل، وليس في المجال السيكولوجي. وتعريف مراد وهبة للإبداع علي النحو التالي: «الإبداع هو قدرة العقل علي تكوين علاقات جيدة، من أجل تغيير الواقع» (فلسفة الإبداع، دار قباء، 1999) والسؤال إذن: كيف يتحول هذا التعريف إلي أهداف إجرائية تعليمية حتي يمكن تطبيقه في التعليم؟. إبداع الآخرين الإبداع، في تعريف مراد وهبة، لا ينشأ من المعلومات ولكن من تحويل المعلومات إلي معرفة من شأنها تغيير الواقع، وهذا يحدث من خلال الكشف عن إشكاليات كامنة في المعلومات وفي الواقع، أي بالكشف عن تناقضات مطلوب مجاوزتها بأسلوب غير تقليدي من خلال إعمال الفكر الناقد، أي بتوظيف هذا الفكر في اختيار مدي صحة الفروض بطريقة منطقية «باستخدام المنطق الجدلي»، وهذا يتطلب التركيز علي المعرفة باعتبارها عملية وليس باعتبارها منتجا نهائيا، لأن هذا يضع المعلومات في سياقها التاريخي الثقافي وذلك بإبراز التناقضات الاجتماعية والثقافية، فمن خلال ذلك يتذوق الطلاب إبداع الآخرين من علماء وأدباء وباحثين ممن أبدعوا المعرفة الجديدة، ومن ثم يستطيع هؤلاء الطلاب اكتشاف إمكاناتهم الإبداعية وتنميتها من خلال الممارسة. ويميز مراد وهبة بين ما يسميه «ثقافة الذاكرة» و«ثقافة الإبداع»، فثقافة الذاكرة تستند إلي مجرد التذكر، أي تذكر واسترجاع معلومات، وقد ظلت هذه الثقافة مهيمنة منذ قديم الزمان علي النظام التعليمي، وقد عبر عنها أفلاطون في عبارته المأثورة: «العلم تذكر والجهل نسيان» وقد دلل علي سلامة عبارته في محاورة «مينون»، وأنا هنا أجتزئ جزءا من الحوار الذي دار بين سقراط ومينون. «مينون: ماذا تعني يا سقراط بقولك إننا لا نتعلم، وأن ما نقول عنه تعليم ليس إلا عملية تذكر؟ سقراط: لقد سبق أن أخبرتك يا مينون أنك إنسان خبيث، وأنت الآن تسألني عما إذا كان في إمكاني أن أعلمك في الوقت الذي فيه أقول لك إن ليس ثمة تعليم وأن المسألة كلها تذكر، وهكذا تتخيل أنه في إمكانك إيقاعي في تناقض». اختبارات الذكاء أظن أن هذا الحوار مازال قائما في مجال التعليم في بلادنا، فالمسألة كلها تذكر، فالكتاب الخارجي في مجال التعليم العام في مصر هو الكتاب العمدة، مصحوبا بالملخصات، وهو عبارة عن اختزال قاتل للإبداع، وهنا يأتي دور المدرس الخاص في مساعدة الطالب علي حفظ وتذكر الأجوبة النموذجية التي يأتي بها الكتاب الخارجي والملخصات، ومن البدهي أن تصبح الدروس الخصوصية بديلا عن المدرسة إلي الحد الذي ينفق فيه أولياء الأمور المليارات من الجنيهات. وهكذا يمكن القول بإن «ثقافة الذاكرة» في مجال التعليم تدور علي تلقين الحقيقة من جانب المعلم، وتذكر الحقيقة من جانب الطالب، وفي إطار هذه العلاقة نشأت اختبارات الذكاء، أي أن صياغة هذه الاختبارات تمت في إطار ما هو حادث في العملية التعليمية من تلقين وتذكر، ومن ثم فإنه يمكن القول بأن النسق التعليمي القائم في المجتمع المصري يستند إلي ثلاثية: التلقين والتذكر والذكاء. وهذه الثلاثية الكامنة في «ثقافة الذاكرة» هي المسئولة عن إفراز العقل المتعصب أحادي الرؤية، ذلك أن العقل المدرب علي «ثقافة الذاكرة» يعجز عن مواجهة التحديات الحضارية التي تفرض نفسها عليه وعلي مجتمعه، وبناء علي هذا العجز، يتحول صاحب العقل المتعصب إلي طاقة مدمرة لذاتها وللآخرين، ذلك أن التحديات الحضارية التي تطرحها ظاهرة الكوكبية تنطوي علي تناقض لا يمكن مجاوزته إلا ب «ثقافة الإبداع» فالكوكبية تمحو المسافات زمانيا ومكانيا بفضل الإنترنت «الكل المترابط» والبريد الإلكتروني، والتجارة الإلكترونية.. إلخ.. وكل هذا يشترط القدرة علي الإبداع باعتباره المبدأ الحاكم لما يعرف ب «مجتمع المعرفة» الكوكبي الطابع، فالإبداع، في هذا الإطار، يشترط القدرة علي تحويل المعلومات الخام إلي معرفة جديدة قادرة علي تغيير الواقع، وهذه العملية، أي عملية تحويل المعلومات إلي معرفة جديدة تغير الواقع، لا تتم إلا بممارسة القدرة علي تكوين علاقات جديدة، وهو ما يطرحه مشروع مراد وهبة للإبداع من أجل تكوين مواطن مصري كوكبي له عقل مبدع قادر علي مواجهة تحديات الكوكبية بإبداعاته دون معونة من فكر تقليدي، أو بالأدق من «ثقافة الذاكرة».