أزمة الرأسمالية العالمية تتحملها الطبقات الفقيرة بينما يزداد وينتعش أصحاب المليارات ربما خطر ببال كثيرين ممن صادفتهم كلمة فوربيس Forbes الإنجليزية لأول مرة أن يبحثوا عن معناها في القواميس، فلم يجدوها في أي منها، والسبب بسيط للغاية هو أن فوربيس ليست لفظا لغويا إنما هي اسم علم، أما كيف يكون اسم علم قد أطلق علي مجلة أمريكية فهذا يرجع إلي طبيعة الثقافة الرأسمالية الأمريكية. فوربيس هو اسم الملياردير ستيف فوربيس الذي يملك المجلة التي يصدرها بهذا الاسم.. وهي ليست كل ما يملك بطبيعة الحال.. ومن المألوف في ثقافة الرأسمالية الأمريكية أن يطلق مثل هذا الذي اسمه - دون خجل - علي جملة أو مؤسسة أو دار للنشر وقد اشتهرت مجلة فوربيس - أكثر ما اشتهرت - بتحقيقها السنوي عن أثري أثرياء العالم، وقد أتحفت قراءها في الأسبوع الأول من مارس الماضي بهذا التحقيق عن معلومات سنة 2009. ولعل أهم ما ذكرته في هذا المجال - وكما نقلته منها معظم صحف العالم ووكالات الأنباء كبيرها وصغيرها أن عدد أصحاب المليارات «المليارديرات» في العام ارتفع خلال عام 2009 إلي 1011 مليارديرا بعد أن كان 793 في عام 2008 وارتفعت القيمة الإجمالية لثرواتهم من 4.2 تريليون دولار (الترليون هو الألف مليار) إلي 6.3 تريليون دولار بين 2008 و2009. وأهم ما يستوقف النظر في هذا أن الفترة التي حدثت فيها هذه الزيادة الضخمة هي نفسها الفترة التي يعاني فيها العالم الرأسمالي من أزمة كبيرة وصفت بأنها الأسوأ منذ أزمة الكساد العظيم التي أصابت العالم الرأسمالي وفي مقدمته الولاياتالمتحدة الأمركيية (1929 - 1933) أن التصور المنطقي الذي يمكن أن يسيطر علي المرء في مثل هذه الظروف المتأزمة أن تتراجع أعداد أصحاب المليارات وأن تتناقص ثرواتهم. ولكن يبدو أن الأزمة الكبيرة للرأسمالية العالمية تصيب العمال وأصحاب الدخول المحدودة بعلل الأزمة وفي مقدمتها البطالة والإفلاس ونقص الموارد اللازمة لتوفير ضروريات الحياة. كما يبدو أن أصحاب المليارات - الذين يملكون البنوك والمؤسسات العملاقة والشركات العابرة للجنسيات - استطاعوا أن يراكموا مزيدا من الأرباح نتيجة لما خصصت لهم الحكومات من تريليونات الدولارات لإنهاضهم من كبوة الأزمة المالية، ولكننا نعرف يقينا أن الرأسماليين لا يحبون الحكومات ولا يثقون بها، لقد كان الشعار الذي رفعته «الثورة الرأسمالية» التي قادها الرئيس الأسبق رونالد ريجان - ابتداء من حملته للفوز بالرئاسة في عام 1980 - هو شعار تقليص الحكومة ودورها، كما كان الشعار الذي رفعه ورثة ريجان المعروفون باسم «المحافظين الجدد»، وهم الذين حكموا تحت رئاسة جورج بوش الابن طوال ثماني سنوات من 2001 إلي 2009، هو شعار «الأموال ليست أموال الحكومة.. إنها أموال الشعب». طوفان المساعدات فكيف يمكن التوفيق بين هذه الفلسفة الرأسمالية ضد الحكومة ودورها - أي ضد الدولة ودورها في الحياة الاقتصادية - وبين هذا الطوفان من المساعدات الذي تدفق من خزائن الحكومات الأمريكية والأوروبية لإنقاذ الرأسماليين وبنوكهم ومؤسساتهم الكبري من تأثيرات الأزمة الاقتصادية؟. كان ريجان يردد باستمرار طوال سنوات رئاسته «أن الحكومة ليست هي الحل لمشكلاتنا، إنما هي المشكلة»، فكيف يمكن التوفيق بين هذا المعني واندفاع الحكومة الأمريكية، تحت رئاسة باراك أوباما الذي كسب الرئاسة بشعارات تقدمية لكي ينقذ أمريكا من آثار أزمة سببها المحافظون الجدد نحو إغداق آلاف المليارات علي المؤسسات الرأسمالية الكبري، في مقدمتها البنوك وشركات التأمين وشركات الأملاك العقارية؟. تكمن الإجابة الموضوعية عن هذا النوع من التساؤلات في أمر واحد هو أن الرأسمالية تريد الحكومة أن تكون جاهزة لإنقاذها ومساعدتها وتضخيم ممتلكاتها، لكنها لا تريد الحكومة أن تؤدي دورا مماثلا من أجل الطبقة العاملة أو الموظفين أو صغار الملاك. يقول مانويل جارثيا المحلل الاقتصادي الأمريكي اليساري في مقال له بعنوان «فك رموز لغة الرقابة الاجتماعية»: «إن البرنامج الاجتماعي للغة النزعة السلطوية الرأسمالية يسعي إلي تنشيط الجشع الشخصي، والشعور بانعدام الأمن وبالعنصرية لدي المثقفين باعتباره هذه «العلل» محركات لتوجيه رد الفعل الشعبي السياسي». ويقول جارثيا: «كلما أصبحنا أكثر وعيا بثرواتنا وأكثر خبرة وثقافة نستطيع أن نري عبر كثير من المفاهيم والاتجاهات العنصرية، ولكن من قبيل خداع الذات أن نتخيل أننا استطعنا أن نتجاوز النزعة العنصرية كأفراد في استجاباتنا العميقة لأمثلة الحياة اليومية التي تنبثق أمامنا، أو أننا لن نعاني انفعالا فجائيا بالتفكير أو بالخوف يعلو تماما فوق رد الفعل العنصري». كسل العاطلين! عندما كان ريجان رئيسا لأمريكا خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي كان يرد علي من يذكره بارتفاع أرقام العاطلين في أمريكا بأن العاطلين - حتي وإن اضطرهم إفلاسهم للتحول إلي مشردين يعيشون تحت الكباري أو في الشوارع العامة، ليسوا أكثر من كسالي يحبون أن يعيشوا علي حساب الحكومة.. إنهم حتي لا يبحثوا عن وظائف بينما إعلانات الصحف تمتلأ بها، وقتها لم يكن أحد يتحدث عن أزمة في النظام الرأسمالي.. أما الآن فإن الأمر يختلف، ولا يستطيع رئيس الولاياتالمتحدة - إذا كان جمهوريا مثل ريجان أو ديمقراطيا مثل أوباما - أن يتحدث عن كسل العاطلين عن العمل، لأنه مضطر لأن يدفع ثمن الأزمة التي يعانيها النظام من خزائن الحكومة لتذهب إلي أصحاب المليارات الذين يخشون أن تنخفض أرباحهم.. لكنهم لا يترددون في الوقت نفسه في إخراج العمال بمئات الآلاف، إن لم نقل بالملايين، من وظائفهم.. في أوائل شهر مارس الحالي كتب نيال فيرجسون أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، وأحد أهم «المؤرخين للشئون المالية» «إن الانهيار الإمبريالي يمكن أن يأتي بأسرع ما يتخيل كثيرون من المؤرخين أن مزيجا من العجز المالي والانتشار العسكري الذي يتجاوز الإمكانيات لأحيان بأن الولاياتالمتحدة قد تكون الإمبراطورية التالية التي تتهاوي». غطرسة القوة وفي الوقت نفسه كتب بول فاريل - وهو محلل اقتصادي أمريكي آخر من فئة اليسار - «أن الإمبراطورية الأمريكية علي حافة سقوط خطر، أمام مخاطرة انهيار مفاجئ سريع.. إن معظم الدول العظمي في ذروة قوتها الاقتصادية تصبح متغطرسة يستهلكها عطشها المستمر للقوة، ولهذا تشن حروبا كبيرة ذات تكلفة ضخمة، تبدد مصادرها تتحمل استدانة هائلة، وفي النهاية تحرق نفسها.. ولسوء الحظ فإن بلوغنا الذروة أصبح خلف ظهورنا.. وزعماء المستقبل الأمريكيون إنما سيلعبون أدوارهم في المآسي التاريخية الكبري، يكررون ولا يعون أبدا دروس التاريخ في مسيرتهم التي لا تشبع من أجل تحقيق تقدم اقتصادي، وإعادة المجد السابق.. بينما هم - دون أن يعوا - يدفعون إمبراطوريتنا نحو الحافة، نحو الانهيار». بطبيعة الحال فإن مجلة «فوربيس» أو الملياردير فوربيس نفسه لا يتحدث بشيء من هذا، ربما يقرأه ثم ينحيه جنبا ليستمر في ذكر أمجاد المليارات والتريليونات متناسيا الوجه الآخر لهذه الحقائق والأرقام، الوجه الآخر المتمثل في البنوك التي أغلقها نهائيا بالمئات في أمريكا وأوروبا، الوجه الآخر المتمثل بأعداد العاطلين التي تجاوزت نسبتها 14 بالمئة في الولاياتالمتحدة وتجاوزت هذه النسبة في بلدان الاتحاد الأوروبي. لقد أنفقت الحكومة الأمريكية وحدها عشرة تريليونات من الدولارات لإنقاذ الرأسمالية الأمريكية.. وهذا من شأنه - حتي حسب مجلة «فوربيس» نفسها - أن يخلق «فقاقيع مالية جديدة» كتلك التي سبقت مباشرة الأزمة الحالية الكبري (...). وفي رأي كثيرين من المحللين الأمريكيين - وليس رأي اليسار الأمريكي وحده - أن وقت الثورة قد حان، الحكومة لم تعد تعمل لما فيه منفعة المواطنين العاديين، إنما تعمل لمنفعة المؤسسات الكبري والبنوك وشركات التأمين وكبار المتعاقدين علي الصفقات العسكرية.. باختصار للأغنياء والأقوياء. فقدوا مساكنهم لقد فقد 8.2 مليون أمريكي مساكنهم في عام 2009 (بمعدل 8 آلاف يوميا) ولم تحرك الحكومة الأمريكية ساكنا.. لكنها دفعت 7.1 تريليون دولار لتكفل «بنك أوف أمريكا» وسيتي جروب وفاني ماي وصناعة السيارات، بل إن رؤساء مجالس إدارة هذه المؤسسات نفسها منحوا أنفسهم مكافآت بلغت في مجموعها 20 مليار دولار خلال عام 2009، في الوقت الذي فقد فيه 17 مليون أمريكي وظائفهم.. في الوقت نفسه أصدرت المحكمة العليا الأمريكية - أعلي سلطة دستورية في البلاد قرارا قضائيا بمنح المؤسسات الاقتصادية الحق في التدخل بأموالها للتأثير في نتائج الانتخابات بلا أي حدود أو قيود. تري من نصدق: إحصاءات «فوربيس» أو تكهنات أساتذة الاقتصاد والتاريخ؟!، أم أنهما يؤكدان معا صحة قول الأساتذة أن مصير الإمبراطورية محتوم؟!!.