أسعار الذهب في مصر ترتفع استجابة لتحرك السعر العالمي    ضبط 1356 مخالفة تموينية في حملة مكبرة بدمياط    حملات مكبرة لإزالة المباني المخالفة والتعديات على الأراضي الزراعية بالشرقية    ضعف المهارات و القطاع غير الرسمي من اهم التحديات في سوق العمل    مصدر رفيع المستوى: الحكمة في التفاوض لا تمنع مصر من حماية أمنها القومي بكل السبل    مؤتمر كلوب: سأحاول عدم الحصول على إنذار لهذا السبب.. وإيمري من الأفضل في العالم    ضبط 16601 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    عبر 35 تطبيقًا.. الداخلية تكشف كواليس نشر أخبار كاذبة عن أسعار الذهب    قتلهم الدخان.. قرارات عاجلة فى مصرع شخص وابنته فى حريق شقة سكنية بمنشأة القناطر    جامعة المنيا تحصد 4 مراكز في منافسات مهرجان إبداع في موسمه ال12    الكشف الطبي بالمجان على 1282 مواطنًا في قافلة طبية بدمياط    رفع 29 ألف طن مخلفات بالمنوفية خلال أبريل الماضي    رئيس جامعة القاهرة يترأس لجنة اختيار المرشحين لعمادة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية    الجيش الإسرائيلي و"حزب الله" يتبادلان القصف    انطلاق فعاليات القوافل التعليمية لطلاب الثانوية العامة بالشرقية    في محكمة الأسرة.. حالات يجوز فيها رفع دعوى طلاق للضرر    مواعيد قطارات القاهرة إسكندرية المكيفة 2024 بعد التعديل لموسم الصيف    أسعار الخضروات اليوم الجمعة 10-5-2024 في الدقهلية    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    الزمالك يحدد موعد مران الفريق اليوم استعدادًا لمواجهة نهضة بركان    بروتوكول تعاون بين «تيودور بلهارس» و«طب الزقازيق» في مجالات التعليم والتدريب    "لديه ذبذبة".. مهاجم الزمالك السابق يتحدث عن فرص الزمالك للفوز بالكونفدرالية    رحلة مبابي في باريس تنهي بمكالمة الخليفي    حصاد جامعة حلوان الأسبوعى    "يا عزيز عيني" فانتازيا أسطورية تحكي عن إيزيس وأوزيريس بطنطا    الفنانة يسرا اللوزي تشيع جنازة والدتها عقب صلاة الجمعة    هنا الزاهد وشقيقتها فرح يرقصان في حفل زفاف لينا الطهطاوي (صور وفيديو)    رد فعل محمد عادل إمام بعد قرار إعادة عرض فيلم "زهايمر" بالسعودية    قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف منطقة اللبونة في بلدة الناقورة جنوبي لبنان    الاستغفار والصدقة.. أفضل الأعمال المستحبة في الأشهر الحرم    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد عبدالحليم محمود بالشرقية    سويلم: الحضارة المصرية رائدة في وضع تقنيات للري تعد الأقدم بالتاريخ    ترفع الكوليسترول وتضر القلب.. 5 أطعمة احذر تناولها على الإفطار    تجنب 4 أطعمة لتقليل خطر الإصابة بالسرطان    مصرع وإصابة 4 أشخاص في اصطدام سيارة بكوبري في الغربية    463 ألف جنيه إيرادات فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة في يوم واحد بدور العرض    فريدة سيف النصر ضيفة عمرو الليثي في «واحد من الناس».. الإثنين    مصرع ضابط شرطة إثر اصطدام «ملاكي» ب«جمل» على الطريق ببني سويف    سعر متر التصالح في مخالفات البناء بالمدن والقرى (صور)    فضل يوم الجمعة وأفضل الأعمال المستحبة فيه.. «الإفتاء» توضح    10 علامات ابحث عنها.. نصائح قبل شراء خروف العيد    حماس: الكرة الآن في ملعب الاحتلال للتوصل لهدنة بغزة    القسام تعلن مقتل وإصابة جنود إسرائيليين في هجوم شرق رفح الفلسطينية    «التنمر وأثره المدمر للفرد والمجتمع».. موضوع خطبة الجمعة اليوم بالمساجد    شخص يطلق النار على شرطيين اثنين بقسم شرطة في فرنسا    تاو يتوج بجائزة أفضل لاعب من اتحاد دول جنوب إفريقيا    نشوب حريق بمصفاة نفط روسية بعد هجوم أوكراني بالمسيرات    حماس: لن نترك الأسرى الفلسطينيين ضحية للاحتلال الإسرائيلي    أول مشاركة للفلاحين بندوة اتحاد القبائل الإثنين المقبل    لمواليد 10 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    الناس بتضحك علينا.. تعليق قوي من شوبير علي أزمة الشيبي وحسين الشحات    3 فيروسات خطيرة تهدد العالم.. «الصحة العالمية» تحذر    هل قول زمزم بعد الوضوء بدعة.. الإفتاء تجيب    عبد الرحمن مجدي: أطمح في الاحتراف.. وأطالب جماهير الإسماعيلي بهذا الأمر    مايا مرسي تشارك في اجتماع لجنة التضامن الاجتماعي بمجلس النواب لمناقشة الموازنة    ما حكم كفارة اليمين الكذب.. الإفتاء تجيب    اللواء هشام الحلبي يكشف تأثير الحروب على المجتمعات وحياة المواطنين    نهائي الكونفدرالية.. تعرف على سلاح جوميز للفوز أمام نهضة بركان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعريب العقل التربوى(1)
نشر في المصريون يوم 12 - 08 - 2010

تصافح أعيننا كثيرا من الكتابات التى تحمل مصطلح " التعريب " حيث يكون مقصود به استخدام اللغة العربية فى التعبير عن المسائل الخاصة بنسق معين من المعرفة والتطبيق ، كما نرى حديثا يكثر أحيانا بين أنصار تدريس الطب باللغة العربية أو غيره من العلوم الأساسية أو التطبيقية حيث يغلب على تعليمها الاعتماد على اللغة الأجنبية ،وخاصة الإنجليزية .
وأحيانا ما يقصد بالتعريب " تكثير " العناصر الجنسية العربية فى منطقة من المناطق أو مجتمع من المجتمعات ..
لكن ، على الرغم من تشديدنا فى مواضع مختلفة على ضرورة الالتزام بالتعبيرات اللغوية العربية ،فى صورتها النقية الواضحة البسيطة ، إلا أن التعريب الذى ننشده هنا يزيد على ذلك ويتسع وذلك بالإشارة إلى " العروبة " ، لا بالمعنى العرقى الذى ننبذه ،وإنما بالمعنى الثقافى والحضارى ، حتى أننا لنكرر : أن العروبة ثقافة .
ويتبين لنا هذا من أن الكاتب ربما يكتب بالفعل باللغة العربية ، لكنه يعكس من حيث المصالح والتوجهات والمذاق والقيم والمفاهيم جهة أخرى ، ربما تكون معادية للمصالح العربية ، وهو الأمر الذى شاع كثيرا فى السنوات الأخيرة ، ويزداد خطورة يوما بعد يوم بفضل الرياح الاقتصادية ، والعواصف السياسية التى تعيشها بلدان العالم العربى ، وفى القلب منها مصر.
بطبيعة الحال ، فعندما تجتمع اللغة عربيا مع " الهوية الثقافية " ومصلحة الأمة ، والموروث الثقافى، والتوجه الفكرى والمذاق الوجدانى ، فى " عروة وثقى " لا انفصام لها ،يكون هذا هو عين المراد ، بل نكاد أن نقول ، أن هذا هو سدرة المنتهى ، إذا صح هذا التشبيه ،والقياس مع الفارق .
وبالتالى فالتعريب الذى ننشده للعقل التربوى ، لا فى مصر وحدها ، بل فى سائر أنحاء الوطن العربى، القصد به إكساب النهج التربوى الطابع العروبى ، بما يحمله من عقيدة ومصلحة ولغة وموروث حضارى وأولويات الاهتمام بالبحث والتفكير والدرس .ونؤكد دائما ، ألا يكون ذلك من منطلق شوفينى يقوم على التعصب القومى ،وإنما ، مثلما نرى فى السلوك الشخصى لواحد من الناس ، أنه ينطلق فى علاقاته من اعتزاز بشخصه بغير غرور ،ومحافظة على الكرامة بغير جنوح ،وحرص على عدم الذوبان فى قوة من قوى السلطة والقوة والهيمنة ، بغير تحجر وجمود ، مع استعداد للتعاون وتبادل الرأى والمنفعة !
وحتى يتضح المراد ، فلنركز على قضية تارجمة المصطلحات العلمية والثقافية.
وهنا لابد أن نسلم بداية بأن الأمة التى تحمل راية الحضارة والتقدم ، هى التى من حقها أن تضع " الإسم " على ما تنتجه وتخترعه ، تماما مثلما نرى عندما يهب الله سبحانه وتعالى الأب والأم مولودا ، ذكرا كان أم أثنى ، فهما اللذان يسميانه ، وإذا كانا أحيانا ما يستجيبا لرغبة هذا أو ذاك من الأقارب أو الأصدقاء ، فهذا لا يلغى هذا المبدأ ، ذلك أن الحق فى التسمية يظل لهما .
وعندما كان العرب والمسلمون هم الذين يحملون راية الحضارة والتقدم فى عصور خلت سميت بالعصور الإسلامية ، وجدنا عددا غير قليل من المصطلحات تتسرب إلى اللغات الأخرى ، حتى أن الحضارة الأوربية ، على الرغم من أنها هى التى قادت بعد ذلك مسيرة الحضارة ، فإنها استمرت تتعامل بهذه المصطلحات التى اقتبستها من الحضارة العربية الإسلامية .
ففى الكيمياء نجد ألفاظا مثل " قلوى " alkali ، وفى التجارة " صك " cheque ، وفى الصناعة " دار الصناعة " arsenal ، وفى الزراعة " قطن " cotton ....وغير هذا وذاك كثير مما تحفل به كتب التأريخ للحضارة الإسلامية .
ونحن لدينا فى اللغة العربية ما عرف باسم " الأعجميات " ، وهى كلمات وأسماء اقتبست من لغات أخرى ، مثل الفارسية ، والهندية ، والتركية ، والإغريقية ، والرومانية.
لا جدال إذن فيما تشير إليه دراسة حركة التطور الحضارى من تفاعل " لفظى " و " مفاهيمى " بين الثقافات والحضارات الإنسانية .
وفى عصرنا الحاضر ، يصبح من حق الحضارة الغربية أن تُصَدِّر لنا كما كبيرا من أسماء ما تنتجه من مخترعات ومبتكرات حديثة ، لكن تبدو المشكلة عندما لا تكون هناك حاجة إلى ذلك مما يعكس حالة من " الغلو " و " التطرف " التى تجعلنا نخشى أن تشكل حالة من حالات المرض الثقافى ، وخاصة بين عدد من الباحثين .
فعندما نجد باحثا يضع مصطلحا أجنبيا ( غالبا إنجليزيا ) مرادفا للمصطلح العربى ، ويكون المصطلح العربى مؤديا للغرض ، كأن يكتب باحث ( منهج البحث )، ليعقبه بكلمة (Methodology ) ، أو يكتب آخر ( تكافوء الفرص التعليمية ) ليعقب هذا قوله Equality Of Educational Opportunity ) ، إذ يصبح التساؤل : لماذا المرادفة بين اللغتين ، إذا كان الرأى مستقرا على معنى كل منهما عند جمهرة المتخصصين ؟
إننا نحرص على اقتران المصطلح العربى بمثيله الأجنبى ، عندما تكون الترجمة غير متفق عليها أو بسبب جدّة المصطلح ، وعدم استقراره بعد ، مثلما نرى بصفة خاصة فى مجال التقنيات التربوية ، وبعض التجارب والنظريات النفسية الحديثة ، وكذلك فيما يتصل ببعض المفاهيم الفلسفية ،وخاصة الحديث منها .
فى قراءة حديثة لصفحات دراسة لأحد الباحثين ، وجدته يكتب عن الحاجة إلى " إعادة التربية " ، وقرنها بعبارة re- education ، فطلبت منه أن يضع ورقة صغيرة يخفى بها العبارة الإنجليزية ، وطلبت أن يقرأ العبارة العربية ، سائلا إياه : هل فهمتها ؟ فأجاب بالإيجاب ، هنا قلت له ، إذن العبارة الإنجليزية هنا تعد زائدة ، لا لزوم لها ، فهى ليست مصطلحا علميا جديدا اختلفنا حول ترجمته ، أو ما زال غامضا عربيا .
كذلك فقد سمعت مناقشا يعيب على باحث أنه ترك بعض المصطلحات بلغتها العربية من غير أن يردفها بما يقابلها إنجليزيا ، وكان المصطلح موضع المؤاخذة هو " التنمية " ،وهو ما أصابنى حقا ببعض ضيق وأسف !! فهل هناك اختلاف فى التسمية ؟ وهل هناك غموض ؟ وهل كان الأجانب هم الذين اخترعوا هذا المصطلح ، بحيث لابد أن ينسب إليهم ؟!
وفى المقابل ، اطلعت على ملاحظات مشرف على خطة باحث ، فلاحظت أنه يضع دائرة حول عبارEnd of the world مقترنة بعبارة ( نهاية العالم ) وهو اسم كتاب الكاتب الأمريكى ذى الأصل اليابانى الشهير " فوكو ياما " ، فلما سألت المشرف عن معنى العلامة التى وضعها ، فقال : حتى يحذف الباحث العبارة الإنجليزية ، متصورا بذلك أنه يسير فى الاتجاه الذى أدعو إليه ، فقلت له أن ما فعله هو فى غير محله هنا ، فهذا اسم كتاب وبالتالى فلابد أن يقترن الاسم الأصلى الأجنبى مع ترجمته إلى العربية .
ويبدو الاستلاب الثقافى فى شيوع امتلاء بعض الكتابات العربية بمرادفات إنجليزية لكلمات ومصطلحات لا خلاف فى فهم معناها ،ولا هى تصور مخترعا جديدا ، وتقنية مستحدثة ، ولعل أمثلة من أحد الكتب التربوية العربية تكشف لنا عن هذا ، حيث نجد :
العدالة :Justice ، والمساواة : Equality ، جماعة الأغلبية :Majority Group ، وجماعات الأقلية :Minority Groups ..وهكذا ، نجد العديد من الكلمات المماثلة !!
ويتجه عدد غير قليل من الباحثين ، عندما يقابله مصطلح أجنبى إلى الرجوع إلى قاموس فى اللغتين العربية والأجنبية ، وهو أمر ضرورى بطبيعة الحال ، لكن يندر أن يرجع إلى القواميس اللغوية العربية للتدقيق فى أن المصطلح العربى يطابق فى معناه الأصلى اللغوى ، ما اختير له من مقابل فى اللغة الأجنبية ، لكن ، مالا يقل عن ذلك أهمية ، هو النظر فى الموقف نفسه الذى نبحث عن ترجمة له ، و " المسمى " ، ذلك أننا هنا لسنا بصدد تسمية أفراد من المواليد ، حيث يشيع مبدأ " الأسماء لا تعلل " ، ففى المجال العلمى تكون القاعدة هى العكس ، ولعل بعض الأمثلة تبين لنا ذلك :
- " اقترابات " : وهو نسبة إلى الفعل " اقترب " ، فها هنا نجد من يستخدمون هذا المصطلح ، قد ترجموا حرفيا كلمة approaches ، لكننا لو دققنا فى " المسمى " لرأينا الأمر بحاجة إلى مراجعة ، فالفعل " اقترب " ، وما يماثله " دنا " ، كلاهما يشير إلى تقصير المسافة المكانية بين طرفين .
فإذا ما كان أحد المعانى لهذا المصطلح بالإنجليزية هو " طريقة لفهم الموضوع " ، تصبح الترجمة العربية الأقرب إلى الدقة هى " مدخل " .
وفى دائرتنا التربوية الضيقة الخاصة بنا ،عندما أعلنت هذا وقلته ، لم أسمع معارضة ، ومع ذلك ، فلا يزال البعض مصرا على استخدام كلمة " اقترابات " ممن كان حاضرا وسمع ولم يعترض !!
- " العصف الذهنى " ، فقد نظر القوم إلى ما يستخدمه الأجانب للتعبير عن تلك الحالة من النقاش الحر ، بحيث يصل المشاركون إلى نتائج لم تكن معدة قبل ذلك بعبارة brainstorming ، حيث ترجمت ترجمة حرفية إلى " عصف ذهنى " ، بينما لو راجعنا قواميس اللغة العربية لوجدنا أن " العصف " يشير إلى ريح تهب بشدة وسرعة ، فيكون تشبيه عملية تبادل الأفكار التى تطرح أثناء المناقشة " بالعصف " غير ملائم ، ونكرر التساؤل : لم لا ننظر إلى " المسمى " لنرى ما يحدث فيه ، فيسهل علينا اختيار المصطلح الملائم ؟
إن ما يحدث هو ، مرة أخرى ، هو عملية تبادل لأفكار مما قد يكون قد تم طرحه ربما بطريقة غير مقصودة ، وغير مخطط لها سلفا ، فلم لا يكون المصطلح الأنسب هو " التفاكر " ، مثلما نقول ": التباحث " ، عندما تجرى " مباحثات " بين طرفين أوعدة أطراف ، وكذلك " التفاهم " ؟!
ومن حسن الحظ فعلا أن تصادف تواجدى فى اجتماع حضره عالم كبير هو الدكتور الطاهر مكى ،وقلت له على مصطلح " التفاكر " ،ومدى صحته اللغوية من حيث الاشتقاق ، فأقر بصحته ،وإن عقّب بأنه غير معروف .
(2)
واتصالا بالقضية الخاصة بهذا التعريب ، نسوق أمثلة أخرى لكيفية التعامل مع بعض المفاهيم والمصطلحات :
- المحاسبية : راج هذا المصطلح المترجم عن كلمة accountability بالإنجليزية ، حيث تعنى account يحاسب ، وحساب ، ومحاسبة ، بينما accounting ، علم تدوين الحسابات وتفسيرها .
وحقيقة نحن لا ندرى ما هو أصل هذا المصطلح العربى الذى راج وشاع ، حيث أن كلمة " محاسبة " تؤدى الغرض ، وهى تتفق وقواعد الاشتقاق فى العربية ، بينما الكلمة الأولى ليست كذلك .
وفيما يبدو أن القوم لما رأوا الكلمتين الأخريين بالإنجليزية ، وأن لكل منهما ترجمته المعقولة والمتفقة مع قواعد اللغة العربية ، وجوبهوا بالنحت اللغوى الإنجليزى الجديد ، تصورا أن " المحاسبية " يمكن أن تضاف إلى الكلمتين السابقتين .
هنا نرجع إلى القاعدة التى ننبه عليها دائما ، وهى النظر إلى حال وطبيعة المسمى ، لا إلى مجرد المصطلح الإنجليزى وحده ، فماذا يعنى مستخدمو المصطلح الجديد ؟
إن القصد الغالب لهذا المصطلح ، خاصة إذا أضيف إليه " التعليمية " ، كمجال للتطبيق ، فهذا يعنى عملية مساءلة ومحسابة لكل فعل تعليمى ، خاصة وقد سيطرت النزعة الاقتصادية على الكثير من مجالات الحياة ، وأصبح من الضرورى القيام بعمليات محاسبة للمكسب والخسارة ، وما رافق هذا أيضا من فكر خاص " بالجودة " ، بحكم ما أصبح التعليم يكلف الناس تكاليف باهظة ، ومن ثم استحالة التغافل عن هدر هنا أو هناك ، بل يصبح الرائد هو تعظيم العوائد والأرباح وتجنب الخسائر.
لكن ، ماذا تقول اللغة العربية ؟
يقول المعجم الكبير لمجمع اللغة العربية " حَسَب الشئ : حَسبا ، و حِسبة ، وحِسابا ، وحِسابة ، و حُسبانا : عدّه ... "
و " حاسَبَ فلان فلانا مُحاسبة : أقام عليه الحساب " .
و " الحِسابُ : العدّ ، وفى القرآن الكريم (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)) ، فى سورة البقرة " ، كما تعنى أيضا " المحاسبة " .
وهذه الكلمة تصلح لأن تعبر عما يراد بالمحاسبية ، ويتأكد هذا لنا من استقراء استعمالاتها فى القرآن الكريم ، مثل قوله عز وجل فى سورة الأنعام (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) ) .
وقوله فى سورة الطلاق (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) ) .
وقد عرفت المجتمعات الإسلامية وظيفة نشأت فى العصر الأموى باسم "الحسبة" ، كان صاحبها يتولى الإشراف على الأسواق والآداب العامة ، وأساس هذه الوظيفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعُرف شاغلها فى الشرق الإسلامى باسم " المحتسب ".
وربما كان هذا المصطلح هو الأنسب لما يسمى حاليا بالمحاسبية ، حيث تعنى الحسبة " التقدير والنظر "، لكن نظرا لما لحق هذه الكلمة فى عصرنا الحالى من سوء استخدام ألحق بها سمعة غير طيبة ، وخاصة لدى مثقفى مصر اليوم ، أو قطاعا منهم بمعنى أدق ،لا نحبذ التمسك بها هنا ، لكن الكلمة الأوفق هى " الحسبان " ،حيث تعنى " الحساب والتقدير "، وفى القرآن الكريم ، فى سورة الرحمن (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) ) .
ومما يقترب كثيرا من مفهوم المحاسبة ، مفهوم " المساءلة " ، حيث نجد الفعل " سأل " يجئ أحيانا بمعنى الاستفسار عن أمر ما يجهله السائل ويريد أن يعرفه ، كما نرى فى عدد من آيات القرآن الكريم تبدأ بكلمة "يسئلونك " ، مثل
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ 000 (189)) ، سورة البقرة ...
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ (4)) ، سورة المائدة .
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا ....(187)) ، سورة الأعراف .
لكنه قد يكون بمعنى " الطلب " ، كما نرى فى قوله عز وجل :
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ (61)) ، سورة البقرة .
(وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ...(34)) ، سورة إبراهيم .
لكن المعنى الثالث لمادة " سأل " فهو الذى يرادف معنى المحاسبة ، أى المساءلة ، كما نرى فى قوله عز وجل :
(لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)) ، سورة الأحزاب .
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)) ، سورة البقرة 0
(.....وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)) ، سورة النحل .
- اجتماع أو اجتماعيات التربية ؟ فما من مفكر تربوى ، منذ فجر التاريخ إلا وأدرك أن للتربية جوانبها الاجتماعية وأن للمجتمع جوانبه التربوية ، لكن ، بحكم بدائية المراحل الأولى من تطور كل من الجانبين ، لم يظهر مصطلح خاص بأى منهما ، إلى أن ظهر ما يسمى بعلم الاجتماع التربوى ، باعتباره فرعا من علوم الاجتماع ، مثله مثل علم الاجتماع العائلى ، وعلم الاجتماع الجنائى ، وعلم الاجتماع القانونى ، حيث يعبر عن اهتمام علماء الاجتماع بدراسة الأبعاد التربوية ، أو الأسرية ، أو القانونية ، أو الجنائية للظواهر الاجتماعية . ولما كان هذا الاهتمام قد نبت فى الثقافة الغربية فقد اصطلح على تسمية هذا العلم ب Educational Sociology0ولابد من تقرير أن أستاذ الاجتماع الراحل الدكتور عبد العزيز عزت أول رئيس لقسم الاجتماع بآداب القاهرة ، عقب استقلاله عن قسم الفلسفة ، في أواسط الخمسينيات ، كان – فى حدود علمنا – أول من ألف كتابا يحمل عنوان ( علم الاجتماع التربوى ).
لكن كان من الضرورى أن يركز آخرون ، وخاصة من بين علماء التربية ، على الأبعاد الاجتماعية للظواهر التربوية ، وتسمى هذا الفرع فى البداية باسم " اجتماعيات التربية " ، قياسا على ما تم باسم " اقتصاديات التعليم " ، حيث الميل إلى صيغة الجمع ، وقد استخدمنا نحن هذا المصطلح ، عندما أصدرنا عام 1979 ، مع الدكتورة زينب حسن كتابا يحمل عنوان ( دراسات فى اجتماعيات التربية ،دار نشر الثقافة بالقاهرة ) .
لكن البعض ، إذ يكون المعيار هو التعبير الإنجليزى ، احتجوا بأن كلمة " اقتصاديات " جاءت لأن المقابل الإنجليزى هو Economics ، وهذا لا يوجد فى المصطلح الإنجليزى فى المجال الاجتماعى التربوى ، سواء قلنا " علم الاجتماع التربوى " أو " علم اجتماع التربية ، الذى رأوا أنه ترجمة مناسبة للمصطلح الإنجليزى Sociology of Education .
وفى رأينا أن مصطلح " اجتماعيات التربية " هو الأنسب ، ذلك لأن جوهر الموضوع لهذا النسق المعرفى هو الجوانب الاجتماعية للظواهر التربوية ، سواء أكان ذلك عن طريق التأملات العقلية البحتة ، كما كان الأمر عند قدامى مفكرى التربية ، أو قائما على المناهج العلمية المنضبطة ، كما هو الأمر فى عصرنا الحاضر ، وليس يعنى وجود لفظ " علم " فى المصطلح " علم اجتماع التربية " أنه أقرب للانضباط المنهجى ، بينما " اجتماعيات التربية " لا يفيد ذلك ، فمصطلح " اقتصاديات التعليم " لا يحمل لفظ " علم " ، لكن هذا لم يدفع أحدا إلى الزعم بأنه غير علمى ، إلا إذا كانت المسألة كلها هى أن المصطلح الأجنبى به كلمة " علم " فى المصطلح الخاص بالاجتماع ، متناسين أن العبرة فى الاسم هى دلالته على المسمى ، فهو الفيصل الأساسى .
إن التقدم الحضارى يعتمد بالدرجة الأولى على المساهمة فى الإنتاج الحضارى ، لا الوقوف عند حد ما ينتجه الآخرون ،وفى تصورنا أن من الخطوات الأولى لهذا أن تكتسب لغتنا العلمية الفكرية بصمات هويتنا وخبرتنا ،ودون أن يوقعنا هذا فى مخاصمة الآخر الحضارى ، ففضلا عن أن هذا قد أصبح غير ممكن عمليا ، فإن من شأنه أن يفسح المجال " للانقطاع الحضارى " ، بينما التقدم جهد تراكمى وتفاعلى .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.