الولايات المتحدة تفقد 4474 قتيلا من العسكريين و33 ألف جريح وتريليون دولار بغداد - لمراسل «الأهالي»: قبل أيام قليلة من نهاية شهر ديسمبر وعام 2011 أقيم احتفال بسيط في مطار بغداد تم خلاله إنزال العلم الأمريكي إيذانا بإعلان انتهاء الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي بدأ بعد الغزو الأمريكي في 20 مارس 2003 وإعلان الخضوع للاحتلال اعتبارا من أول أبريل 2003 بقرار من الأممالمتحدة - ضمن الفصل السابع لميثاق المنظمة الدولية - ينتهي العمل به في 31 ديسمبر 2008، ثم جري تمديد الاحتلال باتفاقية تم توقيعها بين حكومتي العراق والولاياتالمتحدة يتيح للقوات الأمريكية الاستمرار حتي 31 ديسمبر 2011، ووافق مجلس الوزراء علي هذه الاتفاقية يوم 16 نوفمبر 2008 وصدق عليها مجلس النواب يوم 27 نوفمبر. احتفل مئات من العراقيين في مدينة «الفلوجة» بالانسحاب الأمريكي وانتهاء الاحتلال رافعين الأعلام، وأحرقوا العلمين الأمريكي والإسرائيلي، ورفعوا صورا لعربات عسكرية أمريكية دمرت في «الفلوجة» عام 2004، واستمر الاحتفال بمشاركة نساء وأطفال عدة ساعات تحت عنوان «مهرجان الفلوجة الأول لتخليد دور المقاومة». وكانت الولاياتالمتحدة قد سحبت آخر وحداتها المقاتلة ضمن 91 ألف جندي في شهر أغسطس الماضي، ومع ذلك جرت محاولات لتوقيع اتفاقية جديدة تتيح بقاء قوات الاحتلال الأمريكي لفترة أطول، وأعلنت الولاياتالمتحدة في مايو الماضي أنه إذا طلب العراقيون إعادة تقييم الوضع بشكل مشترك وبقاء محدود للقوات الأمريكية مع بعض القواعد التي تتمركز فيها فسترد الإدارة الأمريكية بالإيجاب، وتمت بالفعل مباحثات بين الولاياتالمتحدة ومسئولين عسكريين عراقيين حول امتداد بقاء بعض القوات الأمريكية انتهت للفشل، خاصة مع رفض العراق منح الجنود الأمريكيين الذين سيبقون في العراق الحصانة، وأعلن أوباما في 21 أكتوبر الماضي قراره بانسحاب القوات الأمريكية من العراق بنهاية عام 2011، ووجه دعوة لنوري المالكي رئيس وزراء العراق للاجتماع به في البيت الأبيض يوم 12 ديسمبر «لتعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الولاياتالمتحدة والعراق» وتوسيع العلاقات خارج النطاق العسكري. بلد مستقر ورغم ادعاء الإدارة الأمريكية أن هذا الانسحاب الأمريكي يأتي بعد أن خلف الاحتلال وراءه «بلدا مستقرا» كما قال باراك أوباما، وقول «بريت ماكغورك» العضو السابق في مجلس الأمن القومي أنه «لو قمنا بحساب الأمور بشكل صحيح، فهذه المرحلة الجديدة قد تكون أكثر أهمية من سحب القوات الأمريكية.. إنها ليست النهاية بل بداية ستسمح بعلاقات طبيعية ومتكاملة بين البلدين»، وتأييد 75% من الأمريكيين قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب في استطلاع للرأي أجراه معهد «جالوب».. إلا أن الأسباب الحقيقية بعيدة تماما عن هذا الادعاء. وأول هذه الأسباب الخسائر الكبيرة التي تحملتها الولاياتالمتحدة نتيجة لغزو واحتلال العراق لما يقرب من 9 سنوات، وتشمل 4474 قتيلا من القوات الأمريكية و33 ألف جريح وإنفاق حوالي تريليون دولار. كذلك فقد فشلت هذه الحرب الطويلة في تحقيق أي هدف حقيقي للسياسة الأمريكية فكما قال د. أنتوني كوردسمان الخبير العسكري بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن «لقد خاضت القوات الأمريكية تلك الحرب لأسباب خاطئة، حيث ثبت بالدليل القاطع أن العراق لم يكن يمتلك صواريخ طويلة المدي وأسلحة دمار شامل، كما لم يكن النظام العراقي مرتبطا بشكل أو بآخر بتنظيم القاعدة أو بأي هجمات تتم شنها علي الولاياتالمتحدة أو حلفائها، وكل ما حققه الغزو الأمريكي هو تدمير قدرات القوات المسلحة العراقية علي ردع إيران دون أن يكون لدي الولاياتالمتحدة أي خطة واضحة لاستعادة الأمن والنظام من خلال نظام حكم ديمقراطي لا يستهدف عزل وتهميش السنة.. وانسحاب القوات الأمريكية لا يشكل إعلان نصر أمريكي في الحرب التي شنتها علي العراق عام 2003، وإنما يشكل نهاية لحرب باهظة التكاليف من الناحية الاستراتيجية، حيث تركت القوات الأمريكية عراقا غير قادر حتي علي ضمان أمنه واستقراره الداخلي، ومنطقة استراتيجية بدون بناء هيكل استراتيجي جديد لمرحلة ما بعد انسحاب آخر جندي أمريكي». أظهرت الحرب الأمريكية علي العراق محدودية القدرات الأمريكية.. فكما قال البروفيسير اندرو باكيفتش أستاذ العلاقات الدولية والتاريخ بجامعة بوسطن، فقد كان الهدف الحقيقي لعملية غزو واحتلال العراق، هو أن تظهر الولاياتالمتحدة لعالم ما بعد 11 سبتمبر أن القوة العسكرية الأمريكية هي التي ستحدد النغمة التي سيسير التاريخ علي هداها، ولكن أتت الرياح في العراق بما لم يشته بوش، «فرغم أنه لا توجد قوة عسكرية في العالم تفوق قوة الولاياتالمتحدة، فإن تلك القوة لا يمكن الاعتماد عليها وحدها في تحقيق النصر.. إن الانسحاب الأمريكي من العراق يشكل نهاية لفكرة الهيمنة الأمريكية اعتمادا علي تلك القوة». وهناك أيضا حاجة الولاياتالمتحدة بتوفير احتياطات استراتيجية تمكن القيادة الأمريكية من التدخل واستخدام القوة العسكرية الأمريكية في أركان المعمورة الأربع عند الضرورة وكان الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق (150 ألف جندي) يؤدي إلي ابتلاع هذه الاحتياطات. اعتبر الرأي العام الأمريكي الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة أن الحرب في العراق وأفغانستان استنزفت أمريكا مالا ودما - كما كتب غسان العطية الكاتب العراقي - و«كون أمريكا علي أبواب انتخابات رئاسية يجعل الانسحاب ورقة رابحة بيد أوباما الذي سوف يلوح بأنه أوفي بوعوده، وليس مصادفة أن العراق وأمريكا اعتبرتا اكتمال الانسحاب يوم الوفاء». قدرت واشنطن أن دبلوماسية القوة الناعمة تعوض وجودها العسكري في العراق، وذلك من خلال وجود استخباري هو الأكبر في العالم، فسفارة أمريكا في العراق سوف تكون الأكبر في العالم، وتم رصد أكثر من ستة مليارات دولار في الميزانية السنوية للسفارة الأمريكية في بغداد والقنصليات الأمريكية في البصرة وأربيل ومكاتبها في كركوك والموصل، ويعمل بالسفارة 2400 موظف، وتتعاقد مع شركات أمنية لحماية مجمعاتها الخمس في العراق، ويصل إجمالي الموجودين حوالي 16 ألف أمريكي. إعلان فشل ومهما كانت الأسباب التي فرضت علي الإدارة الأمريكية الانسحاب من العراق، فمن المؤكد أن الانسحاب كان بمثابة إعلان لفشل الولاياتالمتحدة في «تحويل العراق دولة حليفة ونموذجا للمنطقة العربية والإقليمية» كما كان مخططا، ولا يقلل من هذا الفشل الحديث عن إعطاء دفعة للاتفاقية الاستراتيجية بين البلدين والخاصة بالتعاون الاقتصادي والثقافي والإعلامي وغير ذلك من مجالات. بالمقابل يمثل هذا الانسحاب من وجهة نظر القوي المناوئة للسياسات الأمريكية في المنطقة - خاصة إيران - انتصارا استراتيجيا، وكما قال ليندسي جراهام عضو الكونجرس الأمريكي «الإيرانيون يرقصون في الشارع». وتعترف واشنطن أن الانسحاب سيكون له تأثير علي ملفات أخري تهم الإدارة الأمريكية، مثل الملف الإيراني «لاسيما الشق النووي»، وموضوع الانسحاب الأمريكي وإعادة انتشار القوات الأمريكية في أفغانستان، والعلاقة المعقدة مع باكستان، وآفاق التسوية السياسية في الشرق الأوسط ولاسيما استمرار التعنت الإسرائيلي والارتياب في المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، وصولا إلي الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية وانعكاساتها علي الولاياتالمتحدة. وتحاول السياسة الأمريكية تعويض الانسحاب - ومن قبل هزيمة مشروعها للشرق الأوسط الكبير - باستخدام القواعد العسكرية الموجودة فعلا في دول الخليج، وبصفة خاصة القاعدتين العسكريتين في الكويت وقاعدة الإمداد الضخمة في قطر ومقر الأسطول الخامس الأمريكي في البحرين ومنشأتي الطوارئ في عمان ودولة الإمارات العربية. الصراع مجددا وهناك تخوف له ما يبرره، من أن الانسحاب سيؤدي إلي «تفجر النزاعات الطائفية والاثنية، خاصة فيما يتعلق بكركوك والمناطق المتنازع عليها في عدد من المحافظات، كما أن اتساع الهوة بين الحكومة المركزية بقيادة المالكي وقيادات المحافظات العربية «السنية» المطالبة بالتحول إلي أقاليم، قد تدفع إلي صدامات مسلحة تهدد استقرار العراق وربما تشجع تدخلا إقليميا، وقد تجد القوي العراقية الممسكة بالسلاح في الانسحاب الأمريكي فرصة لفرض إرادتها علي الآخر، وما تشهده تلك المناطق من اعتقالات في الفترة الأخيرة أمر لا يبشر بالخير، فتصاعد حالة الاستقطاب الطائفي والاثني تفرض ديناميكية يصعب توقعها أو وقفها، خاصة أن البعض من قادة المحافظات العربية ذات الأغلبية السنية أخذ يتطلع إلي دول الجوار للمساعدة والدعم»، ولا يستطيع العراق تحمل مزيد من القتلي والجرحي والخسائر بعد الثمن الضخم الذي دفعه نتيجة للغزو العسكري الأمريكي والإطاحة بصدام والاحتلال وموجات القتل والحروب المذهبية، وسقوط ما لا يقل علي 126 ألف مدني عراقي قتلي و120 ألف جندي وشرطي عراقي وأكثر من 19 ألفا من المتمردين «طبقا للبروفيسير نيتا كراوفورد من جامعة بوسطن» أو سقوط ما بين 104 آلاف و35 مدنيا عراقيا و113 ألفا و680 «حسب المنظمة البريطانية إيركباديكا ونن إورج». ويحذر الكاتب العراقي المقيم في لندن «عبدالمحسن شعبان» من خطر الاندفاع إلي أتون الحرب الأهلية، «حيث ستصل العملية السياسية إلي انسداد الأفق، وقد تنهار ويتحول الصراع الحالي الذي عطل الدولة ومهماتها الأساسية في توفير الأمن والخدمات الصحية والتعليمية وتأمين العمل للعاطلين ومحاربة الفساد، من صراع سياسي إلي صراع مسلح قد تتشظي البلاد بسببه». الداخل العراقي بعد الانسحاب هو موضوع الرسالة القادمة.