ثمة مقولة يحلو للبعض ترديدها وهي «خصوصية المجتمع المصري». وتتمثل تلك الخصوصية ، في أغلب الأحيان، في ممارسات تخرج عن أي سياقات متعارف عليها في باقي مجتمعات العالم، وقد اظهرت المرحلة الأولي من انتخابات مجلس الشعب سمة جوهرية من سمات «الخصوصية المصرية» تمثلت فيما عرف ب «الورقة الدوارة» التي استخدمها التيار الأصولي الإسلامي بكل اطيافه من أجل تزوير ارادة الشعب المصري ومصادرة حقه الطبيعي في الاختيار، مقدما بذلك خصوصية النموذج المصري في ممارسة الديمقراطية. وقد تحقق هذا النموذج المصري في ممارسة الديمقراطية تحت سمع وبصر المواطنين الرافضين لهذا المسلك، خارج اللجان الانتخابية من جهة، والقضاة المشرفين علي العملية الانتخابية داخل اللجان من جهة أخري! وبذلك اكتمل النموذج المصري وتحققت الخصوصية المصرية التي هلل لها الإعلام الرسمي والخاص علي حد سواء بتقديم التهاني للمزورين من جهة، وتهنئة الشعب المصري علي «اختياره» من جهة أخري. ولا عزاء لأرواح الشهداء ولدمائهم التي سالت من أجل تحقيق مبادئ الديمقراطية وفي مقدمتها الحرية، أو بالادق حرية الإرادة. فهل دفع الشباب ارواحهم ثمنا لتزوير ارادة الجماهير وقهر حريتهم؟! التيار العلماني الجواب عن هذا السؤال عند عدة أطراف: الطرف الأول من شارك في التزوير من خلال الصمت.. والتجاوز عن تلك الممارسات، وأعني بذلك السلطة التي نظمت تلك الانتخابات وقامت بالإشراف عليها والتي تعتبر شريكا اصيلا في عملية التوزير وذلك بالسكوت عليها والقبول بها دون اعتراض. أما الطرف الثاني الذي يتعين عليه الجواب عن السؤال سالف الذكر هو التيار العلماني أو الليبرالي كما يؤثر أن يسمي نفسه حيث إن دماء الشهداء ستظل معلقة في رقبته حتي يعلن رفضه القاطع لعملية تزوير ارادة الشعب المصري. وقد قام هذا الطرف، خاصة ممن اصابه الضرر المباشر من جراء عمليات التزوير. قام بمبادرات للكشف عن ذلك التوزير بتقديم بلاغات ورفع دعاوي قضائية كان من شأن بعضها إلغاء الانتخابات في بعض الدوائر التي شهدت انتهاكات صارخة ، ممهدا بذلك الطريق أمام ممارسات أقل انتهاكا للقوانين وأكثر احتراما لإرادة الشعب ولحرية اختياره في المراحل اللاحقة. أما الطرف الثالث، والأهم، فهو شباب الثورة الذي أصبح بمثابة «رمانة الميزان» في كل ما يحدث من ممارسات تتسم ب «الخصوصية المصرية» السلبية. وفي تقديري ، أن شباب الثورة الذي يمثل القوي الثورية الراديكالية لم يقل كلمته بعد ولم يعبر عن موقفه الرافض لتزوير ارادة الشعب الذي أشعل الشباب الثورة من أجله، حيث إن هذا التزوير هو محاولة واضحة لإجهاض الثورة والقضاء عليها في مهدها. القوي الدينية ويبقي السؤال: هل ينتفض الشباب مرة أخري بمناسبة مرور عام كامل علي ثورته في محاولة لإنقاذ ثورته وحمايتها من ساريقيها ودفاعا عن الشعب؟ وإذا انتفض الشباب ، فهل سيستجيب له الشعب مرة أخري؟ في تقديري أن الجواب عن السؤال الأول لدي الطرف الرابع في منظومة الديمقراطية المفترضة، وأعني بذلك السلطة الحاكمة الآن والتي تتمثل في المجلس الأعلي للقوات المسلحة وفي قائده المشير حسين طنطاوي. فمنذ أن اندلعت الثورة في يناير الماضي، تشكل مثلث متساوي الأضلاع يمثل القوي الفاعلة في عملية التحول الديمقراطي المنشود. يتكون الضلع الأول في هذا المثلث من شباب الثورة، والضلع الثاني يتمثل في المجلس العسكري ( ومن ورائه القوات المسلحة)، والضلع الثالث الذي التحق مؤخرا بالمثلث، وبالتحديد في 28 يناير، وهو القوي الدينية المتمثلة في جماعة الإخوان وما تبعها من سلفيين وجهاديين أعلنوا عن وجودهم بوضوح صارخ في مليونية 19 يوليو الماضي ما تلاها من تصريحات وبيانات شبه رسمية تقطع وتجزم بأن الدولة الإسلامية قادمة. وحاول هذا التيار بكل ما أوتي من قوة ونفوذ، اقصاء كل من الضلعين الآخرين في المثلث من أجل تفكيك مثلث السلطة الشرعية والسلطة الثورية والانفراد بالسلطة من أجل تأسيس الدولة الدينية التي ينشدها مستغلا في ذلك آليات الديمقراطية من انتخابات ودستور. وظن هذاالتيار أن اللحظة الفاصلة قد حانت مع إعلان وثيقة المبادئ الدستورية التي اشتهرت ب «وثيقة السلمي»، فبادر بالتهديد بإعلان العصيان المدني إذا لم تسحب هذه الوثيقة وقد كان له ما أراد، أو هكذا تصور. ومع إعلان نتيجة المرحلة الأولي من الانتخابات التي أظهرت تفوق التيار الديني الأصولي علي باقي التيارات السياسية، راح زعماء ذلك التيار يخططون للمرحلة الأولي لتأسيس الدولة الدينية وذلك بوضع الدستور وتشكيل الحكومة باعتبارهم الأغلبية التي اختارها الشعب بكامل إرادته. ولكن أتت الرياح بما لا يشتهي التيار الديني الأصولي عندما أعلن المجلس العسكري، علي لسان اللواء الملا، استعادته لزمام الأمور وذلك بتصريحه أن البرلمان الذي لم يتم انتخاب اعضائها بعد لا يمثل الشعب المصري. كما أعلن عن اكتشاف مؤامرة تورط فيها بعض الشخصيات الكبيرة سيتم الكشف عنها قريبا. وقد واكب هذا التصريح تشكيل المجلس الاستشاري المعاون للمجلس العسكري في اتخاذ القرارات في المرحلة المقبلة من الانتخابات وحتي إعلان النتيجة النهائية وبداية عمل البرلمان، مرورا باختيار أعضاء اللجنة التأسيسية والتي ستعد الدستور والتي سيضع معاييرها المجلس الاستشاري بالتعاون مع المجلس العسكري. وقد فاجأتنا الصحف الصادرة يوم الجمعة الماضي الموافق 10/12/2011 بعناوين صادمة تشير إلي «الصدام» الذي بدأ بين «العسكري» و«الإخوان» مشيرة إلي تصريح اللواء الملا من جهة، ورفض حزب الحرية والعدالة المشاركة في المجلس الاستشاري من جهةأخري. والسؤال الآن : هل بدأ الصدام، أم بدأ إعلان الصدام بين الجيش والإخوان الذي كان قد بدأ واستمر منذ قيام ثورة 1952 وحتي اليوم؟ إعلان الحرب في تقديري أن الصدام بين الجيش والاخوان يمثل موقفا اصيلا ومبدئيا بين القوتين منذ قيام ثورة الجيش في 1952 وتبلور في 1954 في أحداث المنشية ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر وتطور إلي اقصاء اعضاء الجماعة من حلبة السياسة وتحويل التنظيم إلي جماعة محظورة، والسبب الجوهري وراء ذلك الصدام المبدئي يكمن في العقيدة الإخوانية كما أسسها سيد قطب التي تفرض علي المسلم الإخواني الجهاد المسلح باعتباره فرض عين من أجل نشر الإسلام علي كوكب الأرض أو الشهادة. وهذا يستلزم أن يكون قرار إعلان الحرب، ليس في يد الجيش، ولكن في يد الجماعة. وهذا هو السبب الحقيقي وراء رفض الجماعة والحزب لوثيقة السلمي ، أو بالأدق لوثيقة الجيش الذي يمثله المجلس العسكري. فالاعتراض لم يكن علي مدي مشروعية مناقشة ميزانية الجيش ولكنه تركز في مبدأ اتخاذ الحرب باعتبارها حقا مطلقا لجيش حيث إن الجيش وحده هو الذي يتحمل مسئولية التخطيط والاعداد للحرب وخوض الحرب وتحمل نتائجها منتصرا كان أو مهزوما. والسؤال الآن: هل إعلان الصدام بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة الاخوانية، إذا جاز التعبير، من شأنه يؤدي إلي انقاذ الثورة من محاولات اجهاضها ويساعدها علي الاستمرار والتطور وذلك باحداث التلاحم بين المؤسسة العسكرية واللجنة الاستشارية من جهة، والقوي الثورية المتمثلة في الشباب الذي اشعل الثورة من جهة أخري؟ مفارقات ثورة الابداع في تقديري أن الجواب عن هذا السؤال عند القوي الثورية التي تملك حق اتخاذ قرار التلاحم، ولو مرحليا، مع المجلس العسكري من أجل تجاوز تلك المرحلة البالغة الأهمية من مراحل التحول الديمقراطي. ومن أجل اتخاذ هذا القرار. علي القوي الثورية أن تتدارس بعناية وروية الاشكالية التي تحدثت عنها في مقالي الذي نشر بجريدة «الأهالي» في 30 مارس 2011 بعنوان «مفارقات ثورة الابداع بين القديم والجديد وبين الديني والعلماني»، وتكمن تلك الاشكالية في التناقض بين من اسميتهم «حراس الدولة المركزية المتمثلين في اعضاء المجلس العسكري الحاكم» و«حراس الثورة المتمثلين في تجمعات شباب الثورة» ثم طرحت السؤال علي تلك المفارقة التي ينطوي عليها هذا التناقض: كيف يتحول حراس الدولة المركزية (أو حراس النظام) إلي مؤيدين ومدافعين عن الثورة؟ وأضيف اليوم سؤال آخر ينطوي علي اشكالية جديدة : هل من الممكن أن تتحول المؤسسة العسكرية، تحولا مرحليا وليس نهائيا، إلي مؤسسة ثورية ديمقراطية تتعاون مع القوي الثورية من أجل تحقيق التحول من النظام المركزي غير الديمقراطي إلي نظام لامركزي تعددي وديمقراطي؟ في تقديري أن هذا ممكن بشرط أن يكون كل من المؤسسة العسكرية والقوي الثورية علي وعي بأنهما يشتركان معا في مسئولية التأسيس للديمقراطية، وأن هذا التأسيس يمر بمراحل متعددة سيواجه فيها المجتمع المصري تحديات كثيرة لن يستطيع تجاوزها بسلام دون هذه الشراكة اللازمة لمرحلة التحول الديمقراطي. وفي تقديري ايضا أن شباب الثورة من الذين سيدخلون معترك العمل السياسي من خلال عضويتهم في البرلمان، يقع عليهم عبء المساهمة في تحقيق ذلك التلاحم وتلك الشراكة بين شباب الثورة والمجلس العسكري.