«وفجأة.. هبطت علي الميدان من كل جهات المدن الخرسا ألوف شبان.. زاحفين يسألوا عن موت الفجر.. استنوا الفجر ورا الفجر.. إن القتل يكف إن القبضة تخف ولذلك خرجوا يطالبوا بالقبض علي القبضة وتقديم الكف.. الدم قلب الميدان» بكلمات الأبنودي في «أحزانه العادية» التي كتبها منذ سنوات بعيدة وكأنها مجرد سنوات تمر والحال يبقي علي ما هو عليه نبدأ حديثنا عن ميدان التحرير، ذلك المكان الذي حمل نصيبا لا بأس به من اسمه «التحرير» تشبث هؤلاء الشبان بالاسم وحاولوا ترجمته لفعل من أجل تلك العيون الجميلة «مصر» الميدان الذي فتن الخلق وسحرها مازال يحدث العالم، مازال يساندنا ويقف بجانبنا يعدنا بالحياة وفي نفس الوقت يختار أجملنا للموت ولأنه مازال هو «البطل» في الموجة الثانية للثورة المصرية مازلنا نتحدث عنه، نقترب منه ونلمح أجمل الوجوه داخله، ولا تفاجأ قارئي العزيز إذا وجدت هذه الوجوه مازالت حزينة أو ملطخة بالدماء أحيانا فهذا هو ثمن الحرية والتحرير، هذه السمات هي شريطة حياة أفضل، لاعتقاد غريب داخلنا بأن المكان يضفي سماته علي المؤمنين به اقتربنا منه لنتحدث عن أبطاله عن قرب ونترك للقراء باقي الملامح، سنعرض لبعض الوجوه من داخل ميدان التحرير، أبرز الوجوه التي تواجدت الأسبوع الماضي والتي تحتمل معها صفحات كثيرة لتسجل سيرتهم وحكاويهم ومغامراتهم في طلب الحرية ورفض حكم العسكر.. حتي وإن خلا ميدان التحرير من ثواره أتخيل بشدة أن جدرانه وأرصفته ستحمل نبضات هؤلاء وذكرياتهم بل قد تهتف بهتافاتهم الشجية «عسكر يحكم مدني ليه.. عيش، حرية، عدالة اجتماعية». مني الطحاوي مني الطحاوي هي الناشطة والكاتبة الصحفية والتي روت معاناتها وتعرضها للضرب المبرح والاعتداء الجسدي والتحرش بها جنسيا داخل ميدان التحرير من قبل قوات الأمن المركزي، وأكملوا بها هذا الاعتداء داخل وزارة الداخلية، مني كانت تقوم بتصوير الأحداث داخل الميدان يوم الأربعاء وعدستها تسجل الاشتباكات الدامية بين رجال الشرطة «المصريين» والمتظاهرين «المصريين أيضا» وفجأة ألقي القبض عليها من أحد رجال الأمن وقال لها «عليكي بالالتزام والصمت وعدم التفوه بكلمة واحدة وتيجي معانا بأدب» وعندما رفضت الطحاوي حاوطها خمسة من رجال الأمن المركزي وسحبوها مكبلة الأيدي وتعرضت للضرب والإهانة وكانت النتيجة كسر في ذراعيها اليسري واليمني، الغريب أنها تعلن ذلك وهي مبتسمة مؤكدة أنهم كسروا ذراعيها لكنهم فشلوا في كسر إرادتها.. مني الطحاوي كان لديها من الشجاعة ما جعلها تروي قصتها وما تعرضت له بالتفصيل علي أيدي «كلاب الداخلية» من عذاب وتحرش جسدي وجنسي فقالت «أيديهم كادت تدخل إلي البنطلون» وأنا لا أدري ماذا أفعل؟ وهي تتألم ألما شديدا من كسر يديها وتورمهما، ولأنها تحمل جواز سفر أمريكيا اختلف بعد قليل الوضع، وكأننا أمام فيلم «عسل اسود» لأحمد حلمي، عندما ذكرت جنسيتها الأخري تم إطلاق سراحها علي الفور واعتذر لها ضابط الشرطة، وأكدت مني أنه أعطاها «فلوس» لتستقل تاكسي لضياع كل ما كانت تحمله، وبوداعتها اعتبرت هذا حسنا ولو أنه يحمل نوايا أخري بعد معرفته الجنسية الأرقي من وجهة نظره هؤلاء «الأمريكية».. مني الطحاوي الصحفية لم تكن السيدة الأولي التي تتعرض للضرب والاعتداء من الشرطة أثناء الثورة المصرية فكثير من الفيديوهات تؤكد ذلك أحدها تلك الفتاة التي رآها الجميع أثناء المحاولة الأولي لفض الميدان الأحد قبل الماضي والتي تلقت ضربات من عدد من الجنود وتم جذبها من شعرها داخل الميدان وحاول البعض الدفاع عنها وفشل في ذلك. مازالت الطحاوي تضع يديها في «الجبس» وتروي تفاصيل الواقعة علي شاشات التليفزيون وعلي حسابها الشخصي في «تويتر» ومازالت الشرطة المصرية تصر علي عنفها. الشهيد لا تكاد تقترب من منزله حتي يبدأ الجميع في النظر إليك جيدا ومحاولة معرفة هل ستسأل عن منزله؟ فحالة الحزن التي تخيم علي الشارع تحمل معها مدي غلاوة الفقيد، شارع طاهر غنيم القريب من منطقة غمرة كان يسكن أحمد سيد سرور آخر شهداء ميدان التحرير حتي يوم الأحد الماضي والذي لقي مصرعه تحت عجلات الأمن المركزي استشهد أحمد صباح الأحد (26 نوفمبر) أثناء دخول سيارات الأمن المركزي لشارع مجلس الوزراء رغم اعتصام عدد من الشباب منذ مساء السبت بعد الإعلان عن تعيين كمال الجنزوري رئيسا لمجلس الوزراء، أصدقاء أحمد يؤكدون أنه كان ضمن اللجنة الشعبية لحماية الميدان وبعد ظهور سيارات الأمن المركزي ظل يصرخ في الشباب محاولا مساندة زملائه ولم يكن يعلم أن أحد هذه السيارات ستعود لتدهسه. وداخل منزل أحمد بالطابق الثالث جلست أسرته بكاملها تستقبل المعزيين فاتحة باب شقتها لمن يأتي يساندها في حزنها علي فقيدها الذي يبلغ من العمر 19 عاما. وتجلس والدته داخل حجرته المتواضعة وتضع مصحفا علي سريره ويكاد صوتها يخرج بصعوبة شديدة لانتحابها علي فلذة كبدها وعلامات الذهول لا تفارقها، تقول والدة أحمد ل «الأهالي» إنه كان يرغب في التطوع بالجيش بعدما ترك دراسته الثانوية وهو الحلم الذي شاركه والده أيضا فيه والذي توفي في شهر مايو الماضي، والد أحمد سرور أيضا كان ضحية نظام فاسد فقد تعرض مبكرا لاغتيال الحلم علي أيدي خصخصة مبارك للشركات فخرج علي المعاش المبكر من شركة «إسكو» بعدما أجبر علي توقيع استمارة 6 وحتي الآن فتات المعاش هو 480 جنيها شهريا كان يعيش منها أحمد وأخوه الأصغر أمجد ووالدته، تقول والدته إنه كان يحلم بالعمل وادخار أموال ليرتبط بحبيبته وأنه لم يشارك في ثورة يناير لكنه بعدما وجد الثورة تسرق فضل الذهاب والمشاركة في الموجة الثانية وقال لوالدته «لا تحرميني من الشهادة يا أمي» بعدما حاولت مثل كثير من الأمهات منع أولادهن من النزول للميدان ولكن بعد خطاب المشير طنطاوي قالت والدة الشهيد إنها اطمئنت قليلا بعدما قال إن المتظاهرين من حقهم التظاهر ولكن آمالها ضاعت.. «التحرير كان يمثل لأحمد أملا لتحقيق شيء ما قادم» جلوسه في المنزل دون عمل ومحاولته كسب جنيهات قليلة من العمل بمطبعة «باليومية» أو تصوير فرح لم يشبعوه أحلامه، الغريب أن أحمد قبل نزوله من منزله صباح السبت الماضي داعب أصدقاءه أسفل منزله قائلا: «حضروا لي فراشة الجنازة بتاعتي» وهو ما يعاودون الآن تذكره مندهشين من جملته الأخيرة.. تروي والدة الشهيد علمها بالخبر من جارتها التي ما إن فتحت لها الباب حتي فاجأتها أم أحمد قائلة «مين مات فيهم أحمد ولا أمجد» وهذا طبقا لإحساسها فطمأنتها بإصابته فقط في قدمه وأنه في مستشفي المنيرة حتي علمت بالحقيقة. والدة أحمد تقول «كويس إنهم موتوا لي واحد وسابوا التاني» أنا احتسبته عند ربنا «وهذا ما جعلها تطلق زغرودة في المشرحة واعتباره شهيدا طلب الشهادة ونالها بسرعة» لكنها تعاود تحدث نفسها قائلة: «المشير طمنا إن مفيش حاجة وفيه هدنة إيه اللي حصل؟»، ترفض انتخابات مجلس الشعب وتتساءل: «انتخابات ودم ولادنا لسه علي الأرض إزاي»؟ من يضمن تقول أم أحمد «الشرطة خانت مصر وقتلت ولادنا» ترفض اعتذار محمد عادل قائد التشكيل الذي دخل شارع مجلس الوزراء بالسيارات وتعلق «اعتذار إيه اللي هاقبله؟» تتساءل عن كيفية طلب النيابة شهود علي قتل أحمد شاهدوا السائق وهم معترفين «عايزة قصاص ربنا ولا ملايين الدنيا تعوضني ضفر ابني» «أنا قولت هاروح أقعد ف التحرير يا يموتوني أو أجيب حق ابني». تركت والدة الشهيد وهي تبكي داخل غرفة ابنها الذي لن تراه بعد اليوم تنعيه بدموعها وبكلماتها عن ملامحه الجميلة وعن أحلامه لنفسه ولمصر، تركتها وهي تطالبني بكتابة ما يفيد ابنها في قبره «السجن الأصغر» تركتها وأنا أتساءل ماذا أكتب عن السجن الأكبر؟؟.. يقول شقيقه أسامة إن آخر كلمات أحمد هي تفاصيل ما يحدث في الميدان فكاني يحمل المصابين علي يديه ليدخلهم المستشفي الميداني وهو يقول «مصري بيضرب مصري حرام عليهم»، تسمعنا والدته من الداخل فتجتهد لتصل صوتها لي قائلة «كل اللي ف التحرير «أحمد» طول ما هما موجودين أحمد حي» هاقول للعيسوي «عندك أولاد لو خبيتهم من الناس مش هاتخبيهم من ربنا». أبطال محمد محمود داخل غرفة الجراحة بقصر العيني الفرنساوي يرقد «عبدالله كمال السعيد 22 سنة» أحد أبطال شارع محمد محمود والذي أصيب بطلق ناري في قدمه وأعيرة خرطوش في ظهره ووجهه وفخذه، عبدالله يعمل «ديسك» بأحد الصحف المستقلة علم بفض اعتصام مصابي الثورة السبت قبل الماضي بالقوة فقررإنهاء عمله والاتجاه إلي الميدان لمساندتهم كانت الاشتباكات مستمرة عند المجمع وشارع محمد محمود، وانضم في البداية لشارع الشيخ ريحان بعد اندلاع اشتباكات هناك أيضا وبعد الهدنة التي نقضها الأمن، انتقل لمحمد محمود محاولا مع زملائه منع الأمن من الدخول للميدان بعدما حاولوا ذلك كثيرا وكلما تقدم الثوار تراجع الأمن والعكس حتي كانت النتيجة العديد من الإصابات والقتلي لاستخدام الأمن الرصاص الحي والخرطوش والمطاطي والتركيز علي مناطق الموت بالجسد والعين، يقول عبدالله ل «الأهالي» الأمن عرض علينا الهدنة 4 مرات من خلال الإشارة لنا بتوقف الضرب وفي النهاية تكون الحقيقة هي نفاد الذخيرة أو تغيير القوات. وأثناء نقله لأحد الحواجز بمحمد محمود اخترقت قدمه رصاصة فسقط فأكمل الأمن مهمته الوحشية وظل يلاحقه بالرصاص الخرطوش في كل أنحاء جسده وأصدقاؤه يحاولون إنقاذه وهو يزحف علي الأرض حتي استطاعوا نقله للإسعاف زادت وطأة عنف الداخلية الاثنين قبل الماضي ويؤكد عبدالله أنهم لم يحاولوا مهاجمة الداخلية بل حماية الميدان فقط وكانوا يرسلون لهم رسائل «ا إحنا هاندخل الداخلية ولا انتوا تدخلوا الميدان». عبدالله يري أن الداخلية تعاملت بعنف مضاعف حتي عن عنفها في الموجة الأولي من ثورة يناير.. أما أحمد سيد (30 سنة) فهو بالسرير المجاور لعبدالله وأحد المشاركين في عمل هدنة مع الداخلية وكان ضمن الوفد الذي ذهب إليهم بعد الموافقة علي الهدنة الثانية ففوجئ بوابل الخرطوش والمطاطي حتي أصابته طلقة خرطوش في عينه اليسري مما أدي إلي انفجار بها وضياعها. أحمد يعمل سائق نقل ومتزوج وينتظر مولوده الأول بعد شهر من الآن بعد انتظار أربعة سنوات لم تحمل زوجته وهو ما يجعله شديد الشغف برؤية وليده الذي طال انتظاره، أحمد يقول إنه سيراه بعين واحدة والشرطة هي السبب، يروي لنا كيف كان يستقل «الموتوسيكل» لنقل المصابين للمستشفي الميداني وحتي نفد البنزين أعطي الموتوسيكل لصديقه ليملأه بالبنزين وفضل النزول علي قدميه لمشاركة المتواجدين في محمد محمود في حماية الميدان حتي حدث ما حدث.. أحمد يردد «زعلان علي الأيام اللي هاييجي فيها ابني مصر مش عايزة تتغير»، ويتذكر ابن خالته الذي أصيب بطلق ناري في الرأس وتوفي بعدها.