الحطب والنار "الموّجوِجة" في المشهد الأخير من فيلم "سوق المتعة"، من إخراج الفنان المبدع سمير سيف، يلتقي البطل زعيم العصابة التي أوقعت به واستغلته لتهريب المخدرات دون علمه مما ألقي به في غياهب السجن لمدة عشرين عاماً خرج بعدها ليواجه الحياة فعجز عن ذلك عجزاً تاماً لأن حياته في السجن سلبته مقومات وجوده كإنسان وحولته إلي مجرد عبد لشهوة الإذلال التي أصبحت هي المتعة الوحيدة ولا متعة غيرها! علي الرغم من أن بطل الفيلم يعلم تمام العلم إن هذا اللقاء بزعيم العصابة فيه الموت المحقق له، إلا أنه أصر عليه لكي يوجه لزعيم العصابة السؤال الذي يتحرق شوقا لمعرفة جوابه. وهذا السؤال هو: "انت ليه سخطني مع أن ربنا خلقني طبيعي؟" ويجيب زعيم العصابة: "عشان سألت أنا حجاوبك. انت وغيرك زيك الحطب اللي بيولع النار اللي بتدفينا. وعشان النار تفضل موّجوجة لازم يكون فيه دايما حطب." هذا هو الجواب المجازي الذي يوجز ببلاغة الفلسفة التي تحكم العلاقة بين الجماهير، أو بالأدق انسان الجماهير أو رجل الشارع طبقاً للفظ الشائع، والنخبة أياً كانت. نار السلطة هذا المشهد يتردد في مخيلتي من آن لآخر ولكنه أصبح لا يفارقها في الآونة الأخيرة التي يواجه فيها المجتمع المصري أزمة الانتخابات النيابية. وتلك الأزمة تحمل في طياتها التناقض الحاد بين الجماهير والنخبة. ويتمثل هذا التناقض في الفجوة بين إرادة النخبة وعقل الجماهير. أما إرادة النخبة فتتمثل في السعي من أجل اقتناص السلطة سواء كان ذلك من خلال الحصول علي أكبر قدر من المقاعد في المجالس التشريعية أو في تبوء مناصب قيادية، وزارية أو رئاسية. ويتساوي في ذلك السعي نحو السلطة كل من الأحزاب السياسية قديمها وجديدها مرورا بائتلافات شباب الثورة، وصولاً إلي أحزاب وجماعات التيار الإسلامي الأصولي. ومن شأن هذه الإرادة العامة النخب توسيع الفجوة بينها وبين الجماهير حيث إن اقتناص السلطة لا يمكن أن يتحقق إلا باستخدام الطاقة المولدة لتلك السلطة وهي الجماهير أو "الحطب" علي حد تعبير زعيم العصابة في الفيلم سالف الذكر. و "الحطب" هو الوقود الذي يشعل النار، نار السلطة، ويبقي عليها مشتعلة "موجوجة". والسؤال الذي لا بد أن يثار هو: ما الدليل علي تلك الخلاصة التي توصلت لها؟ دليلي يستند علي الشرط الجوهري اللازم والضروري من أجل تحويل إنسان الجماهير إلي مجرد "حطب" أو وسيلة لتحقيق السلطة. وأعني بهذا الشرط طمس الهوية الإنسانية لإنسان الجماهير. وهذا الطمس لا يتحقق إلا من خلال قهر عقله وسلب إرادته وإثارة غرائزه. وتتساوي في ذلك إرادة نخب السلطة البائدة مع إرادة القوي السياسية الجديدة الساعية نحو السلطة بعد ثورة يناير. فالجميع يتعامل مع إنسان الجماهير باعتباره الوسيلة نحو السلطة وليس غايتها. فيتوسل إلي غرائزه ويتجاهل عقله. وأعني بذلك التوسل والوعود التي يطرحها الساعون نحو السلطة وتتمحور كلها حول المنافع الحسية والمادية من مأكل ومسكن ورعاية صحية واقتصادية ومالية .. إلخ أما الالتفات إلي مطالب العقل التي تستلزم التوسل إلي وعي الجماهير بالعلم والمعرفة من أجل تنوير إنسان الجماهير وتهيئة وعيه لممارسة حقه الديمقراطي الذي يشترط إعمال العقل الناقد وتجاوز المنافع المادية، فكل ذلك غائب تماماً في العلاقة بين النخبة وإنسان الجماهير. وبناء علي هذا الغياب تظل العلاقة محكومة بمبدأ الحطب والنار الذي يدمر إنسانية إنسان الجماهير أو "يسخطه" علي حد تعبير بطل الفيلم سالف الذكر. والسؤال الآن: هل تلك العلاقة اللا إنسانية التي تجمع الجماهير والنخبة بمثابة القدر الذي لا فرار منه؟ العقل والحضارة إذا كان الجواب بالإيجاب فإن الحضارة الإنسانية، في هذه الحالة، محكوم عليها بالفناء لأن الجماهير ستتحول بالضرورة إلي قوة مدمرة تهدم المعبد عليها وعلي أعدائها كما فعل بطل فيلم "سوق المتعة" عندما انقض علي زعيم العصابة وأزهق روحه بعد أن صارحه بحقيقة العلاقة بينهما. ولا أدل علي طبيعة هذه العلاقة اللا إنسانية من اطلاق ألفاظ مثل الجماهير أو الغوغاء أو الدهماء أو رجل الشارع (مع حذف المرأة) للإشارة إلي تلك الكتل الهائلة من البشر إلي الحد الذي فيه يتم اختزالهم في لفظ "الشارع"، الذي هو ظرف مكان ويخلو من أي طابع إنساني. وحيث إن لفظ "الشارع" أصبح شائعا في الخطاب السياسي المتداول بين القوي المتصارعة علي السلطة فإن الجماهير ستبقي محرومة من إعمال العقل وبالتالي مغتربة عن هويتها الإنسانية. والسؤال المصيري بعد ذلك هو كالآتي: في هذه الأزمة الحادة التي تمر بها مصر الآن والتي ليس لها مثيل في تاريخها، هل في الإمكان عودة "العقل"؟