مناضلون يساريون سعد زهران «1» ظللت تائها وسط أحداث جسام كانت تهز العالم والوطن مثل الحرب العالمية والنازية وصمود الاتحاد السوفيتي ودوره في انكسار هتلر.. حتي حضرت محاضرة في دار الأبحاث العلمية، وشعرت كأن حزمة ضوء مبهر قد أنارت أمامي الطريق. (سعد زهران.. في حواره معي) كثيرا ما يختلف الشيوعيون مع بعضهم البعض، خصوصا في ظل معارك مبهمة البدايات، غامضة النهايات، وكثيرا ما يختلط الصراع ضد العدو الطبقي بالصراع ضد «العدو» في التنظيمات الشيوعية الأخري، وقد يقف البعض ضد اتجاه الريح لبعض الوقت، لكن سعد زهران حالة فريدة حادة جدا وتقف بصاحبها دوما ضد اتجاه الريح، وحتي ضد ما يعتقد الإجماع أنه مسلمات لا يجوز المساس بها. كان دوما النقيض للجميع، الجميع يتناقضون مع بعضهم البعض أما هو فهو النقيض المتناقض مع الجميع، تأمل معي عزيزي القارئ بعضا من مفارقات سعد زهران، يقول الجميع إن معركة كوبري عباس كانت مذبحة بكل المعايير ويروي الكثيرون عن مشاهد الجثث التي تراكمت في مشرحة كلية الطب وفي مشرحة زينهم إلا هو، فسعد يؤكد كان هناك جرحي رأيتهم بنفسي في قصر العيني لكن لم يمت أحد ويسألك متحديا هل لديك اسم واحد لواحد ممن استشهدوا؟، ويتحدث الكثيرون بزهو عن حركة الفدائيين في منطقة القنال عام 1951، أما هو فيفاجئك بأنها كانت حركة محدودة وبدائية جدا، ويزهو كل اليساريين في مصر والعالم العربي بالإنذار السوفيتي خلال العدوان الثلاثي (1956) هو يؤكد أنه لم يكن إنذارا جادا بل تلويحا وهميا وأن الرادع الحقيقي كان الإنذار الأمريكي . وفي جلسة صاخبة تحدث أحدهم بزهو عن انتصار أكتوبر فتأمل سعد وجوه الحاضرين وقال في 1956 حاربنا ثلاثة أيام وفي 1967 حاربنا ستة أيام وفي أكتوبر حاربنا 13 يوما والمجموع 23 يوما بينما ظلت حالة الحرب والأحكام العرفية معلنة ما يزيد علي 25 عاما، قليلون جدا هم الذين يقبلون هذا المنطق، أو حتي يحتملون سماع هذه التحليلات المخالفة للمنطق السائد، ويبقي سعد زهران مغردا علي انفراد أو بالدقة يبقي هو وعدد محدود جدا من الرفاق محاصرين بهذا المنطق الحاد الذي يطلقه عبر كلمات مدببة وشديدة السخونة ومغلفة بسخرية قاتلة، ويبقي سعد زهران مصمما علي أن يكون الصورة الأخري، يبقي دوما في الاتجاه المعاكس مستمتعا بسخريته من المجموع وبكونه في أقلية الأقلية، لكنه كان علي الدوام مسموع الكلمة، ويهاب الجميع منطقه. هذا هو الرجل فماذا عن النشأة؟ الأب مدرس أولي ظل يرتدي الجبة والقفطان حتي نقل إلي الإسكندرية فارتدي زي الأفندية، الأسرة أسرة فلاحين وبعضهم عمال بناء، والشيخ عبدالقوي والذي أصبح فيما بعد عبدالقوي أفندي هو وحده الذي أفلت من هذا المصير، الولد سعد كان متفوقا أرسله أبوه إلي الفصول التجريبية التي كانت نواة للتعليم العصري وضمت المتفوقين وحدهم فتفوق هو علي المتفوقين وحصل علي المجانية بما شجع الأب علي الدفع به إلي بقية مراحل التعليم، كانت مدرسته في الجيزة وبيتهم في الشرابية والمسافة طويلة جدا يقطعها التلميذ الفقير سيرا علي الأقدام فعرف القاهرة بأدق تفاصيلها وعرف المعاناة اليومية كي ينال حق التعليم، وذات يوم يذكره هو جيدا (17 نوفمبر 1936) وكان في نهاية المرحلة الابتدائية وقع له حادث أدي إلي بتر ساقه، الأب والأم جلسا طويلا يتناقشان حول مصير الولد، الأب اقترح أن يترك سعد المدرسة وأن يعمل ترزيا فهي مهنة لا تحتاج إلي وقوف كثير، لكن الفتي العنيد وقف كما ظل دوما ضد المنطق السائد والمعقول وتحدي الإعاقة، وفي مدرسة فاروق الأول الثانوية دخل سعد ينط علي عكازه وسط طلاب أغلبهم من أبناء الأكابر، يستند دوما علي عكازه لكنه يستند أيضا إلي تفوق دائم، فهو الأول في سنوات الدراسة، لكن ما كان يوجعه حقا هو أن التفوق ليس كافيا وحده كي يحصل علي المجانية، فلا يكفي أن تكون الأول وإنما من الضروري أن تقدم «شهادة فقر» واعتاد سعد علي أن يعيش وأن يتعايش مع العكاز ومع الفقر، وكما يقفز علي العكاز يقفز عبر سنوات الدراسة متفوقا فيحصل علي التوجيهية بتفوق «كان ترتيبه الأول علي المدرسة وال 24 علي القطر» ودخل كلية العلوم قسم رياضة وكان لم يزل ابن السادسة عشرة، لكن لا العكاز ولا الدراسة كانت تمنع الفتي من أن يفكر فيما يدور حوله من أحداث فهي سنوات بداية الأربعينيات التي تعج بأحداث جسام، الحرب العالمية، هتلر وموسوليني والنازية والفاشية، الغزو الهتلري للاتحاد السوفيتي صمود ستالينجراد ولينينجراد كل هذه الأحداث كانت تفرض عليه تفكيرا مستمرا وعميقا وأحيانا كان يصل إلي نتائج تخرج كما اعتاد دوما عن السياق العام. وذات يوم دعاه أحد أصدقائه وهو فوزي الزميتي «تفوق هو أيضا في كلية الطب وأصبح فيما بعد الطبيب للملك فيصل»، ودعاه فوزي إلي محاضرة، وهناك في دار الأبحاث العلمية استمع إلي المحاضرة الأولي، لتهيمن تماما علي فكره وكأنها سكبت عليه أشعة ضوء لا تقهر، لكنه تحامل علي نفسه وكبح جماح اندفاعه حتي ينتهي من امتحان نهاية العام، وفي ذات يوم الامتحان الأخير قفز علي عكازه إلي دار الأبحاث العلمية، الغريب أنه لم ينس أبدا ومع مضي الزمان هذا التاريخ، كان يحكي معي والتاريخ يهيمن عليه في الساعة السادسة إلا الربع من يوم 28 يونيو 1944 دخلت إلي دار الأبحاث العلمية وقال هادئا وجادا أنا أذكر التاريخ تماما لأنه بمثابة يوم ميلادي الحقيقي، ابتسمت وقلت له لعلك سمعت شعر كمال عبدالحليم.. عيد ميلادي الذي أذكره يوم كافحت وأحببت الكفاح يوم أصبحت شيوعيا له أسرة أخري ورأي وسلاح نظر سعد زهران إلي بقرف قائلا أنا لا أحب كمال ولا أحب سيرته ولكن لا بأس بأن أتمثل هذين البيتين من الشعر فقط. ونمضي مع سعد زهران في حواره معي