لقد اتسم موقف الحكومات العربية من ثورة 25 يناير المصرية بالحذر والخوف علي عروشهم وامتداد الثورة إلي اراضيهم، وقد انتقلت شرارة الثورة بالفعل إلي العديد من الدول العربية بسبب اكتمال شروطها وأسبابها من قهر سلطوي وفقر وإفقار للجموع العريضة من الشعوب العربية وتركة متجذرة من الموروثات السلفية الدينية والسياسية وركود طويل المدي من تهميش للإرادات والعقول العربية هذا الركود الذي خلق الاستكانة والتراجع لدي الجماهير العربية واكتفائها بالحصول علي الحد الأدني من احتياجاتها البيولوجية واستغنائهم عن سائر المتطلبات الضرورية للحفاظ علي حقوقها في الكرامة الإنسانية والمشاركة في صنع مصائرها. وقد فاجأتهم الثورات في مصر وتونس التي اشعلها الشباب وانضمت إليها الجموع الحاشدة من المقهورين والمهمشين ولكن لا تزال تركة الموروثات من الفساد والمفسدين قائمة وفاعلة وتحاول باستماتة إعادة عقارب الساعة إلي الخلف. وتشير الخبرة التاريخية إلي صعوبة بل استحالة تنازل المستبدين والفاسدين من الحكام وأصحاب المصالح غير المشروطة عن الامتيازات الذين يناضلون من أجل استعادة حقوقهم المشروعة، أنهم يملكون الحق ولكنهم لا يملكون أدواته فيما يتسلح المعسكر المعادل بكل أدوات القوة الاقتصادية والأمنية علاوة علي الخبرات الشريرة التي اكتسبوها طيلة فترات من التسلط والنفوذ. إن الثورات قد تحدثت بصورة مفاجئة ولكن صنع المستقبل لا يمكن أن يتم بطريقة الانفجار بل لابد من فترة انتقالية لإعادة ترتيب الأوضاع في إطار النموذج التغييري. وبصورة تلبي تطلعات واحتياجات الجموع العريضة من المشتاقين للتغيير. فزع وخوف وثورة 25 يناير لاتزال تحبو في ظل مناخ يشوبه الفرح الجماهيري بكسر حاجز الخوف والرغبة العارمة في المشاركة ولكن لايزال الفرح الثوري محاصرا بتركة ثقيلة من الصعوبات والمعوقات الكامنة والسافرة والتي تحتاج إلي جولات ثورية متواصلة لإزالة هذه المعوقات وتطهير الجموع العريضة من تراث الخضوع والاستضاعف والاستذلال وانعدام الثقة بالنفس لدي الملايين الذين أهدرت آدميتهم خلال ثلاثين عاما وأكثر. وإذا كانت النخب السياسية والثقافية تنشغل بقضايا الإصلاح والتغيير السياسي باعتبارها مفتاح التغيير الشامل فإن الجماهير تنشغل بقضايا أخري تتصدر أجندة همومها اليومية وتتمثل في ضرورة اشباع احتياجاتها الحياتية الضرورية أولا والتي تعد في نظرها شرطا مسبقا لتحقيق كرامتها الإنسانية ومدخلا انسانيا لمشاركتها في إدارة شئون الوطن. وفي إطار الصخب الذي تمارسه النخب السياسية تتواري هموم وقضايا الجموع الشعبية وتواصل النخب السياسية دورها في إعلاء صوت القضايا السياسية مثل الانتخابات والاستفتاء علي حساب القضايا الاجتماعية والثقافية. ولا تنتبه إلي دورها الغائب والذي يتطلب ضرورة التحام هذه النخب بالجماهير وتوعيتها وتنظيمها والاستجابة لتطلعاتها المشروعة في الحصول علي حقوقها في الصحة والتعليم والعمل والسكن والمشاركة المجتمعية. وفي ظل غياب النخبة عن الجماهير يحدث الانفصال بين هذه النخب التي تؤمن بالأفكار الثورية وقواعد الجماهيرية المسكونة بتركة الموروثات المعوقة للتغيير الثوري. المهام الأصعب وإذا كانت المهمة الأولي للحركات الثورية تتمثل في القضاء علي استبداد النظام السياسي الفاسد والمتسلط، فإن المهام الأصعب والأجدر بالاهتمام تتمثل في ضرورة الاهتمام بإزالة تركة الموروثات التي تتحكم في فكر وسلوك الجماهير بمختلف شرائحها في المدن والريف والتي قد تتناقض في معظم مفرداتها مع منظومة الأهداف النبيلة للثورة. فالثورات كما قال بحق بونابرت يخطط لها الأذكياء ويصنعها النبلاء ويجني ثمارها الانتهازيون. والسؤال المطروح كيف نحافظ علي ثورتنا من مؤامرات وألاعيب الانتهازيين الذين تتكاثر أعدادهم في ركاب الثورات يضللون ويراوغون ويلتفون حول أهداف التغيير الثوري بكل السبل والخبرات الشريرة التي اكتسبوها خلال حقبة الاستبداد أنهم يسعون بدأب لتفتيت الأهداف الثورية يفرغونها من محتواها ويقفزون علي جهودها سعيا للإبقاء علي امتيازاتهم ومصالحهم غير المشروعة. هذا هو التحدي الأول الذي يواجه الثورات العربية وفي صدارتها ثورتا مصر وتونس. أما التحدي الثاني فهو يتعلق بقضية الديمقراطية ، فالثورة الديمقراطية التي اشعل شرارتها الشباب ثم انضمت إليها جميع فصائل الشعب المصري، كشفت حقيقة غابت عن أذهان السياسيين والمفكرين الذين تنبأوا أن الثورة القادمة ستكون ثورة جياع أي أن الخبز هو الذي سترجح كفته في معادلة الثورة، ولكن جاءت ثورة 25 يناير المصرية وثورة تونس كي تثبتا أن الحرية والكرامة كانتا لهما الأولوية وتصدرت شعارات الثوار فيما توارت شعارات العوز الاقتصادي وهموم المفقرين والجياع. نموذج ديمقراطي وفي ضوء تجذر غياب الديمقراطية في الأبنية السياسية والاجتماعية والثقافية بدءا بالأسرة العربية ثم المدرسة والجامعات والممارسات الدينية في المساجد والكنآئس ومنظمات المجتمع المدني (الجمعيات الأهلية والنوادي) والمؤسسات التشريعية والإعلامية والثقافية في ضوء كل ذلك يبرز السؤال التالي: كيف نتمكن من بناء نموذج ديمقراطي ينبثق من فهمنا ودراستنا العميقة للتاريخ السياسي العربي مع مراعاة الاستفادة من فهم التراث العالمي وتطبيقاته الغربية وممارساته في سائر الدول النامية التي حاولت تطبيق النموذح الغربي وفشلت أغلب هذه الدول ما عدا الهند وماليزيا والبرازيل وتركيا؟! وكيف نتعلم من الخبرات الفاشلة التي اعتمدت علي استيراد النموذج الغربي وحاولت تطبيقه دون وعي واستيعاب حقيقي لتاريخ أوطانها ودون إدراك للاحتياجات الفعلية لشعوبها؟ إذ لا يمكن إغفال هذا العنصر الأساسي والحاسم كما لا يمكن في ذات الوقت تهميش تجارب الشعوب الأخري إذ أن الاستعانة فقط بما حققته الدول الغربية في المجال الديمقراطي قد أسفر عن اخفاقات عديدة أولها تكريس التبعية السياسية للغرب وتعميق استمرار الاستبداد السلطوي للحكام واتساع مساحة الفقر والإفقار. إننا في حاجة إلي إعادة قراءة الظاهرة الديمقراطية وتاريخها في العالم العربي ومحاولة تفسير تداعياتها وتأثيرها في الثورات الجديدة التي قام بها الشباب كطليعة وانضم إليها جموع المهمشين والمفقرين من عامة الشعب لقد أرست هذه الثورات إطارا جديدا غير متوقع لدي جميع الساسة والمفكرين العرب والأجانب، هذا الإطار الديمقراطي الذي استحدثته ثورتا تونس ومصر وافرزتا واقعا جديدا لا يزال في طور النشأة والتجدد والتطور يحتاج هذا الإطار إلي التعمق في فهم دوافعه ومعطياته ونتائجه وتداعياته. وإذا كان هذا الإطار قد حقق الهدف المحوري للثورتين والذي يتمثل في إزاحة نظم استبدادية فاسدة وتابعة للغرب فإن هذه هي الخطوة الأولي التي ستتلوها خطوات تتمحور حول تحقيق المواطنة العربية التي تشمل المشاركة في صنع القرارات الوطنية وعدالة توزيع الثروات الوطنية مما يتيح إطلاق الطاقات الشعبية التي قمعت وهمشت علي مدي عدة عقود فهل يمكن أن يبادر المثقفون الثوريون والمفكرون والسياسيون الراديكاليون في العالم العربي بالسعي إلي دراسة وفهم واستخلاص السمات والملامح التي تميزت بها الثورات الجديدة ومحاولة البناء عليها وتعميقها وتطوير آلياتها بدلا من الاستمرار في المقارنة بين النماذج الثورية الجديدة وبين النماذج الغربية التي جلبت للشعوب العربية المزيد من التبعية السياسية والافقار الاقتصادي والهوان الفكري وإهدار السيادة الوطنية. أزمة قيادة أما التحدي الثالث الذي يواجه ثوراتنا العربية فهو يتجسد في أزمة القيادات الحالية التي تتصدر المشهد الثوري. ففي ضوء ما قيل عن سيادة القانون وتحت مظلته ارتكبت جرائم نهب المال العام واغتصاب أراضي الوطن ونقل ملكيتها لأباطرة السوق والسلطة وفي ظل سيادة القانون تمت ازاحة جموع البسطاء والشرفاء كي يشغلوا مواقع المتفرجين وكي ينعزلوا في العشوائيات السكنية والوظيفية والسياسية وبقيت القيادات التنفيذية التي أهدرت روح القانون وجوهر العدل الذي وضع من أجله هذا القانون هذه القيادات التي تربت في مناخ يسوده الفساد المالي والإداري والتضليل الإعلامي والتزييف السياسي كيف نطمئن إلي أنها قادرة علي إقرار العدل القانوني والمجمعي وتفعيل الممارسة الديمقراطية داخل المؤسسات التنفيذية والتشريعية والتعليمية والثقافية؟ وهل تستطيع هذه النخب أن تتحول إلي كوادر ديمقراطية تؤمن بحقوق الغالبية العظمي من شركاء الوطن في المشاركة واقتسام المغانم والمغارم؟ أن الثورة لاتزال في أولي خطواتها وأمامها جولات عديدة قادمة لتحرير روح الوطن وإعداد اجيال جديدة لم تتلوث بعد بالفيروس المدمر لروح الإنسان وأعني به الجشع والأنانية والتمركز حول المصالح الشخصية الضيقة.