يتمثل الهدف الكبير للثورة المصرية في الإطاحة بالنظام الفاسد والاستبدادي والشمولي. وما تحقق منه إلي الآن كبير: الإطاحة برأس النظام، غير أن هذا النظام ككل يحاول إنقاذ نفسه بكل مصالحه ومؤسساته وأجهزته ووسائله القمعية والإدارية، مضحيا بعدد من كباش الفداء، مضطرا إلي كل خطوة حتي في هذا المجال، و"بالقطارة"، تحت ضغط الثورة المتواصلة. وتبقي الأهداف الكبري مرهونة باستمرار الثورة أو تراجعها ومن الجلي أن تراجعها سيكون كارثة علي الشعب المصري. ويعمل المجلس الأعلي للقوات المسلحة، بذريعة ضرورات عودة الحياة الطبيعية، علي إعادة الثوار إلي بيوتهم ويضغط بكل قوة، بمزيج من مناورة التسويف والوعود والجداول الزمنية من ناحية والعنف من ناحية أخري، في هذا الاتجاه. وبطبيعة الحال فإنه لا أحد ضد عودة الحياة الطبيعية وضروراتها القاهرة، غير أننا هنا أمام تفسير للحياة الطبيعية يجعلها تعني حرمان الشعب من كل حرياته وحقوقه حتي بموجب دستورنا الحالي البائس، وبالأخص حريات التظاهر والاعتصام والإضراب والتعبير بكل الوسائل. ولكننا نعلم من تجربة البلدان الديمقراطية كلها أن الحياة الطبيعية بكل مجالاتها وأنشطتها لا تتناقض مع ممارسة الشعوب في الوقت نفسه لحرياتها وحقوقها باعتبارها مكونات أساسية من الحياة الطبيعية وجزءا لا يتجزأ منها. ثم: مَنْ المتسبب في وقف أو تعطيل الحياة الطبيعية: المطالب العادلة التي ترفعها الثورة بتيارها الرئيسي وبكل روافدها أم المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي لا يستجيب لهذه المطالب إلا عندما يصل الضغط الثوري إلي أقصاه؟! والاستنتاج المنطقي الذي لا تنجح كل الخدع والمناورات في إخفائه هو أنه لا توجد ثورة بدون ثورة مضادة، وأن الثورة المضادة بكل مراكزها وركائزها ومؤسساتها تعمل علي إنقاذ النظام كما كان من الناحية الجوهرية، لأن النظام يعني حماية كل المصالح الكبري، التي هي مصالح آلافٍ وعشرات آلافٍ من رجال النظام، والتي نشأت في كنف الفساد والديكتاتورية. 2: ولا ينبغي أن يتوهم أحد أن كل الأهداف الكبري قد تحققت. والهدف الكبير الذي تحقق إلي الآن هو التخلص من رأس نظام يقوم علي "حكم الشخص" الذي سعي بحكم طبيعته إلي تحويل مصر إلي جمهورية ملكية بالتمديد المتواصل ومشروع التوريث. وإلي جانب هذا تحقق ويتحقق كل يوم هذا الشيء العظيم: تعرية المدي الذي وصل إليه فساد ولصوصية حكامنا بلا استثناء، ومدي فساد مؤسسات الدولة بلا استثناء، ومدي فساد دستورنا، دستور 1971 الدائم الذي قام ترزية القانون الدستوري بتفصيله للسادات، ثم لمبارك بتعديلاته سيئة السمعة في 2007 ، ثم الآن بأمر من مبارك في بيانه في اليوم السابق لاستقالته أو إقالته بهذه التعديلات الشائنة التي اكتفت بترقيع ثانوي تماما لدستور استبدادي حقا. أما المكسب الأكبر الذي حققته الثورة دون أدني شك فهو الشعب نفسه: عودة الروح إليه، قيامه كالعنقاء من تحت الرماد، تحوله إلي شعب علي الجميع أن يحسبوا حسابه من الآن فصاعدا. فماذا تحقق غير هذا؟ لا شيء في الحقيقة. فالتعديلات الدستورية الجديدة التي لا تقوم إلا بترقيع دستور الاستبداد ليست مكسبا بل هي خداع مكشوف والأهم أن ترزية التعديلات الدستورية الجديدة (غير الدستورية بالأحري شكلا وموضوعا) إنما يقومون بإجهاض المطالبة بدستور جديد، ديمقراطي حقا. فهل كانت استقالة حكومة نظيف، في مواجهة مطالبة الثورة، مكسبا؟ ونعلم أن الحكومة التي حلت محلها هي حكومة أحمد شفيق ، والتي تجددت المطالبة بإسقاطها واستقالت بالفعل لتحل محلها حكومة عصام شرف، ومهما كان الشخص أفضل كما يمكن أن تشير المعرفة القليلة بسيرته فإن حكومته ستأتي علي أرضية نفس النظام ورجاله ودستوره الأعوج ومؤسساته الوحشية. فهل تُرَي يتمثل تحقيق هدف حقيقي في حل مجلسي الشعب والشوري؟ غير أن المجلسين سيحل محلهما مجلسان يتم انتخابهما بسرعة بالغة أي "بكروتة" حقيقية تفاديا لتأثير نضج الثورة مع استمرار وتواصل الثورة علي طليعتها وقياداتها، وبالتالي علي طبيعة المجلسين القادمين، كما سيتم انتخابهما في ظل نفس الدستور الاستبدادي الفاسد وغير الدستوري مع سلطات الحكم المطلق التي يتمتع بها رئيس الجمهورية. والحقيقة أن من العبث أن نبحث عن أهداف تحققت للثورة سوي: عودة الروح للشعب المصري، ورحيل رأس النظام، والتعرية الشاملة لحقيقة النظام. أما جهاز مباحث أمن الدولة فإنه باق رغم جرائمه في حق الشعب، أما الحزب الوطني الذي انكشفت الآن حقيقة قياداته فإنه باق، أما قانون الطوارئ، هذا القانون الاستبدادي القائم منذ الخمسينيات فإنه باق، مع إعلان حالة الطوارئ (أي تطبيق هذا القانون الإجرامي) القائم منذ أواخر عهد عبد الناصر إلي الآن فهو إذن باق، بالإضافة إلي كل قوانين الحكم المطلق والاستبداد بقيودها الحديدية علي الحركة السياسية والحزبية والنقابية والإضرابية والثقافية والفكرية في البلاد والتي تقوم جميعا علي الدستور الاستبدادي الباقي رغم خدعة التعديلات الدستورية الجديدة بأمر الرئيس المخلوع. 3: وتقوم مراكز ودعائم ومواقع الثورة المضادة وأعني بذلك كل مؤسسات النظام بلا استثناء بالعمل علي قدم وساق علي تفريغ الثورة من محتواها الحقيقي وعلي خداع قياداتها بالمناورات والوعود والجداول الزمنية بدلا من الاستجابة الفورية لمطالب ليست جديدة، فقد طالبت القوي الحية في مصر طوال سنوات ضد التمديد للرئيس وضد التوريث، وضد قانون الطوارئ وضد إعلان حالة الطوارئ، وضد استمرار مجلسي الشعب والشوري المنتخبين بالتزوير، وضد الفساد والاستبداد بكل صورهما. وتتمثل المشكلة الراهنة التي تحيط بالثورة في أن رحيل مبارك فتح أمام كل أنواع الانتهازية السياسية بابا كان مغلقا بالضبة والمفتاح في عهد مبارك. وهكذا تقاطرت قيادات الأحزاب المشروعة وغير المشروعة علي المراكز الجديدة للسلطة أي الثورة المضادة ، وفي هذه الأجواء من الانتهازية السياسية تدخل قيادات شبابية للثورة بحكم قلة خبرتها السياسية علي خط التفاوض والتعاون مع مراكز الثورة المضادة التي تطالبهم بالتعقل والنضج للتغرير بهم، بطريقة صارت تنذر بانقسامات بين القيادات الشبابية للثورة حول مطالب ومواقف وأنشطة وإجراءات الثورة. وبالتالي صار لدينا إلي جانب الثورة السياسية الشعبية، هذه الثورة المضادة التي تشنها مؤسسات الدولة جميعا وهذا منذ اليوم الأول للثورة، وقد حققت الثورة بعض أهدافها غير أن هدفها الجوهري في إقامة نظام ديمقراطي تتحقق في ظله حياة كريمة لا يزال في خطواته الأولي، أما الثورة المضادة فقد أصابت بعض النجاح من خلال التسويف واللعب علي عامل الزمن والعنف في سبيل تفادي تحقيق الأهداف الجوهرية للثورة وإنقاذ النظام واستنبات رأس جديد له وإحياء المؤسسات المنهارة بحيث لا تكون مختلفة كثيرا. وهذا هو الشكل الذي يدور به الصراع بين الثورة والثورة المضادة وكذلك خلق أرضية مشتركة بينهما في سبيل تحقيق أهداف الثورة المضادة بإنقاذ النظام كحد أقصي أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه كحد أدني اضطراري. 4: ويصير من الضروري بالتالي أن تعتمد الثورة علي قواها الخاصة بعيدا عن كل مؤسسات الدولة بما في ذلك مؤسسة القوات المسلحة التي يمثلها المجلس الأعلي. وبالطبع فإن علي الجيش دورا كبيرا يتمثل في حماية البلاد خاصة في فترة غياب الشرطة التي ينبغي إعادة بنائها علي أسس ديمقراطية. وبعيدا عن الجيش ينبغي تأسيس مجلس ثوري توافقي يشكل حكومة توافقية وتتمثل مهمته في إنشاء جمعية تأسيسية واسعة، توافقية بدورها، تقوم بإصدار دستور جديد، وفيه فقط يتم حسم مسألة أن تكون مصر جمهورية برلمانية أم رئاسية، وعلي أساسه فقط يتم إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية وفقا لطبيعة وضع الرئيس في هذا النوع أو ذاك من الجمهورية. وتنتهي مهام المجلس الثوري التوافقي ومدته فور استكمال قيام المؤسسات الجديدة للدولة. ويقوم المجلس الثوري التوافقي، بالتشاور والتوافق مع قوي الثورة، بما ينبغي عمله في المرحلة القادمة: أولا: إحالة كل من قمعوا ثورة 25 يناير إلي المحاكمة من القمة عند الرئيس المخلوع فنازلا إلي الحضيض دون استثناء. ثانيا: الإلغاء الفوري لدستور 1971 الدائم مع كل تعديلاته القديمة والمقترحة، وتأسيس الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداد الدستور الجديد، تمهيدا للانتخابات النيابية والرئاسية، مع منح فترة كافية في حدود سنة واحدة مثلا للمناقشة العامة الواسعة للدستور الجديد وإقراره وإجراء الانتخابات علي أساسه، بهدف ترك مجال أوسع لنضج الحياة السياسية الناشئة بالأحزاب والحركات والمنظمات السياسية الجديدة وغيرها.