تعد الهتافات الشعبية أحد الأسلحة المعنوية المهمة للمقاومة علي ألسنة الشعوب الثائرة، وقد عرفت حركات التحرر الوطني - في جميع أرجاء العالم هذا النوع من الفن النضالي والذي يتسم - بعفوية تامة، وإن ارتكز علي وعي عقلي قوامه «الضمير والعدل والمساواة». فالهتافات ما هي إلا نتيجة علاقات وجدانية تعبر عن وعي الجماعة بقضيتها الوطنية، وإن اعتمدت علي الظاهرة الصوتية لإظهار ما يعتمل في النفس الثائرة، حيث يبرز - بوضوح - ما يسميه «ب. مارندا» «الخطاب تحت الشعبي» حيث نجد الأثر المعنوي الذي يرسخ في ذهن المتلقي انطباعا بالصدق نظرا لتحرر الخطاب الشفهي من الطابع اللغوي المؤسسي والرسمي. ويسمي «بول زمتور» هذا الخطاب «الشفاهة الوسطي» وهي شفاهة تنتمي إلي ثقافة الجماهير. في يوم الغضب - الذي شهدته المدن المصرية المختلفة - وما تبعه من أيام وجدنا ألسنة المتظاهرين تعلو بهتافات متنوعة تنادي بالعدالة الاجتماعية والحرية وتندد بالتوريث وغيره من المطالب التي خرج من أجلها المتظاهرون من مختلف التيارات السياسية والاجتماعية مستلهمين ما أحدثته الثورة التونسية الأخيرة - المعروفة بثورة الياسمين - من تغيير ومن هذه الهتافات: «ثورة مصر جاية جاية.. بالعدالة والحرية»، و«يا جمال قول لأبوك. في السعودية بيستنوك» و«عاش الشعب وعاش الجيش.. واحنا مش لاقيين العيش»، وقد جا ءت كثير من الهتافات منددة بسياسة الإفقار التي تعمل عليها حكومة الحزب الوطني التي باعت كل شيء لرجال الأعمال مما زدي إلي خراب البنية التحتية للوطن، ومن أشهر هذه الهتافات: أحلف بسماها وبترابها الحزب الوطني اللي خرابها وفن الهتاف الشعبي.. فن مصري النكهة فقد عرفه المصري القديم عبر حركاته الاحتجاجية بداية من وقفة «الفلاح الفصيح» في بلاط الفرعون دفاعا عن حقه. وقد جا ءت الهتافات الشعبية المصرية متدرجة في خطابها السياسي والاجتماعي تدرجا يشهد علي قوة الإرادة الشعبية، فمن مناهضة الاحتلال البريطاني في القرن العشرين مرورا بالهتافات ضد الممارسات العدوانية في المنطقة العربية سواء الإسرائيلية في فلسطين أو الأمريكية في العراق. يسقط الظلم وعلي ما أعتقد أن شعار «يسقط الظلم» هو أقدم الشعارات المعروفة التي أطلقها الإنسان الأول في وجه الظالم سواء كان محتلا أجنبيا أو حاكما أو مسئولا فمنذ عرف الإنسان لغة الكلام كوسيلة للتعبير عما يريد، وهو في مجابهة ضد ما يشعر أنه ظلم واقع عليه، وعلي مر التاريخ الإنساني - كله - لا أعتقد أن هناك شعارا حظي بالإجماع والاتفاق مثل هذا الشعار، يردده الإنسان المقهور في كل زمان ومكان وبكل اللغات. وحتي لا تأخذنا سفن التاريخ في بحارها العميقة ننتقل سريعا إلي تاريخ مصر المعاصر، وتحديدا منذ الثورة العرابية حيث اجتمع عدد من قادة الجيش والجنود لتقديم عريضة إلي الخديوي «توفيق» تتضمن مطالب الأمة - في ذلك الوقت - وردد معهم الشعب كلمة أحمد عرابي الشهيرة: لقد خلقنا الله أحرارا.. ولن نستعبد بعد اليوم ثم جاء الزعيم مصطفي وأطلق شعاره الخالد: لو لم أكن مصريا.. لوددت أن أكون مصريا وكانت كلمته هذه دعوة للاعتزاز بكل ما هو مصري والتحصن بالانتماء في مواجهة محاولات التغريب التي سادت المنطقة العربية في ذلك الحين. وقد عبر الفن الغنائي عن تلك العواطف الوطنية الهادرة - بعد ذلك - في نشيد «بلادي.. بلادي» الذي لا يزال هو النشيد الوطني حتي الآن. واستمر نضال الشعب المصري، وإبداع جماهيره للشعارات التي تعبر عن طموح ومطالب البسطاء، وتقاوم الاحتلال الإنجليزي الذي جثم علي الصدور وتحكم في مقدراتنا واستغل ثروتنا لأكثر من سبعين عاما، وكان أشهر هتافات المصريين للتعبير عن رفضهم لهذا العدوان هو: يا عزيز.. يا عزيز كبة تاخد الإنجليز وسرعان ما تطور مضمون الشعارات وأصبح أكثر تنديدا خاصة عندما اندلعت ثورة 1919 فكانت أشهر شعارات تلك الفترة: الاستقلال التام.. أو الموت الزؤام تعبيرا عن رفض المصريين لتصريح 28 فبراير الذي أعطي لمصر استقلالا ناقصا يسقط الاستعمار يسقط الاحتلال عاشت مصر حرة مستقلة كما ظهرت في هذه الفترة شعارات الوحدة الوطنية مثل: عاش الهلال مع الصليب الدين لله والوطن للجميع وفي منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين وحتي نهاية الأربعينيات توهجت الحركة الوطنية وتحددت معالمها أكثر فظهر شعار: الجلاء بالدماء بيفن بيفن.. يسقط بيفن و«عاش الطلبة مع العمال» تجسيدا لوحدة العمل الوطني في 1946 عندما تكاتفت لجنتي العمال والطلبة لمواجهة الإنجليز وديكتاتورية حكومات الأقلية في ذلك الوقت خاصة حكومة «إسماعيل صدقي». وأثناء هذه الفترة كانت الحركات اليسارية قد بدأت تتبلور وتصبح ذات صوت مسموع، وشعارات تتردد بين فئات الشعب المختلفة خاصة بين طلاب المدارس والجامعات وعمال المصانع، فامتزجت الشعارات الخاصة بالقضية الوطنية بالشعارات المتعلقة بالقضايا الاجتماعية والحريات العامة والنقابات، بالإضافة إلي المطالبة بعودة دستور 1923، ثم إلغاء معاهدة 1936 التي وقعتها حكومة الوفد مع بريطانيا، وكان أبرز شعارات تلك الفترة. أعيدوا دستور ثلاثة وعشرين إلغوا المعاهدة.. إلغوا المعاهدة هتافات الثورة وفي فجر 23 يوليو 1952 قامت طلائع من قوات الجيش المصري بحركة تصحيح وطردت الملك فاروق وسرعان ما انضم إليهم الشعب لتأييدها وحمايتها من أعدائها ومن نفسها وتوجيهها وجهة اجتماعية، فتحولت إلي ثورة بما أحدثته من تغييرات جذرية في بنية المجتمع المصري من خلال صدور عدة قوانين كان من أهمها صدور قانون الإصلاح الزراعي في 9 سبتمبر 1952 تطبيقا للمبدأ الثاني من مبادئ الثورة وهو «القضاء علي الإقطاع». ولم تشهد الفترة من 1956 حتي يونيو 1967 أي تظاهرات حول قضايا عامة ما يجمع عليها غالبية الشعب حتي كان مساء يوم الجمعة 9 يونيو، وصباح السبت 10 يونيو 1967، في أعقاب النكسة، وقد ظهرت بعض الهتافات في المظاهرات التي اندلعت مطالبة عبدالناصر بالصمود وتجدد الثقة في قيادته لحظة إعلانه التنحي وتناصره مثل الهتاف الذي ألفه «محمد سعيد» وهو: عبدالناصر مية مية.. مش عايزينك يا زكريا وذلك رفضا لترشيح زكريا محيي الدين لخلافة عبدالناصر، وقد انتشر هذا الشعار في شوارع القاهرة «تأكيدا» علي الهوية المصرية، ورفضا للهزيمة. تطور الخطاب وقد تطورت الهتافات في العقود الأخيرة من حيث الأسلوب، وقد زادت حدتها مع تصاعد الأحداث السياسية في المنطقة العربية فجاءت لتواجه الهجمات الاستعمارية للقوات الأمريكية التي اتخذت من الخليج قاعدة عسكرية لضرب العراق، في لغة تمزج بين العامية بطبعها الشفهي والفصحي بعمقهما اللغوي: يا أمريكا لمي جيوشك بكرة الشعب العربي يدوسك بكرة شعوب الدنيا تدوسك لن يحكمنا البنك الدولي لن يحمنا الاستعمار وكثيرا ما تربط الهتافات بين مجمل القضايا العربية الآنية خاصة المشكلة العراقية والقضية الفلسطينية متخذة أشكالا من النقد اللاذع: المقاومة لسه باقية باقية لسه في أرض غزة المقاومة بالكفاح والعراق لن يطاطي يا بيت يا أبيض يا واطي وفي بعض الهتافات يتجلي هذا النقد صريحا وواضحا دون أدني مواربة حيث الخطاب المضاد للأنظمة العربية الراهنة: راح نقول تاني ونعيد تسقط تسقط كامبد ديفيد اكتب علي حيطة الزنزانة كامب ديفيد عار وخيانة واللي هايضرب في العراق بكرة هايضرب في الوراق والحكام باعوا القضية بالمعونة الأمريكية ويأتي هذا الرفض صارخا كما في هذا الهتاف: يا حكومات عربية جبانة بكرة سلاحنا هيبقي معانا يا حكومات روبابيكيا قديمة الجماهير رافضة الهزيمة ولا ينسي المتظاهرون دم الشهداء من الشباب المصري الذين راحوا ضحية الممارسات العدوانية الداخلية والخارجية أمثال «ميلاد العبسي» ابن الدلنجات الذي لبي نداء الانتفاضة ومات شهيدا علي الحدود المصرية، و«السقا» طالب الحقوق بجامعة الإسكندرية الذي راح ضحية الممارسات الأمنية الخاطئة في مصر من خلال رصاصة طائشة من أحد ضباط الأمن المصري: دم السقا للحرية/ دم ميلاد للحرية مش لحلول استسلامية/ مش لسفارة صهيونية مش لمعاهدة واتفاقية النقد الاجتماعي ولم تتوقف الهتافات عند التنديد بما يواجهه الشعب العربي من تمزق، بل تعدت هذا الهم العام للتعبير عن هموم خاصة بالمواطن المصري مثل «قانون الطوارئ»، و«الخصخصة» وطرد العاملين من الشركات والمصانع، والحريق المتكررة للقطارات: في قطاراتهم يحرقونا ومن مصانعنا بيطردونا وبطوارئهم بيحكمونا هي عصابة ولا حكومة حيث تتعدد آليات النقد بتعدد المآسي التي تواجهها الجماهير، في خطاب هو أقرب إلي الرمزية وإن تعددت في إطار تغلفه السخرية: لا للمعونة الأمريكية احنا نلحس الصحون واحنا ندفع الديون كل المصانع خصخصوها وعمالنا بيشردوها.. بالمعونة الأمريكية ويتكرر هذا الهتاف - كثيرا - مع تغيير طفيف في الصياغة: المصانع خصخصوها والعمال بيشردوها لا للمعونة الأمريكية ولتسقط ديون العالم الثالث يا بهية.. يا ياسين المعونة رايحة فين رايحة للشعب الفقير ولا للباشا الكبير