حتي أنت.. يا مدمس! كانت أسعار الأطعمة الشعبية تواصل الارتفاع حتي لم تعد في متناول عامة الشعب.. في تونس! العلاقة بين الفول المدمس.. وبسطاء هذه الأمة.. أشبه بالعلاقة بين الإمبراطور يوليوس قيصر وأقرب رجاله بروتس. كانت علاقة ثقة متبادلة إلي أن انقلب الحال وجاءت الطاعنة في المدمس أشبه بطعنة بروتس للإمبراطور الروماني. ماذا جري للفول المدمس؟ ما الذي جعل الفول المدمس.. يلعب دور بروتس وينقلب علي أصحاب الفضل عليه ويتخلي عن واجبه في ستر البيوت.. وبر الأقارب وإطعام البسطاء وإحساسهم بالخير والامتلاء.. وتقريب الفوارق بين الطبقات. المدمس هو الذي وحد هذه الأمة، وكان وجبة الأغنياء والفقراء، فأزال الفوارق الشاسعة بين الطبقات.. وكان الطعام الذي يتناوله الأغنياء، والفقراء.. وكان نعمة من نعم الله تستحق حمد المواطن وشكره وهو يدعو الله أن يحفظها من الزوال. والفول نعمة.. تلائم كل الأذواق ابتداء من البصارة والطعمية وحتي الفول النابت الذي يتحول بعد سلقه إلي حساء ساخن يشفي العليل الذي تتقطع أنفاسه في ساعات الليل الدامس. ما الذي جعل الفول المدمس يسوق دلاله.. وترتفع أسعار سندوتشاته وتصبح عصية علي ملايين الملايين من الموظفين الذين يعملون في دواوين الحكومة.. التي تستورد الفول من الخارج. الفول لم يعد مصريا! الفول أصبح أجنبيا.. يأتينا من بلاد الشرق والغرب والجنوب مع العدس.. والقمح.. والقطن. الفول المدمس لم يعد الرمز للوطنية المصرية.. وللخصوصية الشعبية بعد أن كان خط الدفاع المنيع ضد الجوع. كانت للفول المدمس مكانته.. وعندما انتشرت في خمسينيات القرن الماضي.. ظاهرة ملكات الجمال.. وظهرت المنافسات بين المتسابقات في ميدان الجمال.. وابتكرت إيطاليا مسابقة ملكة جمال المكرونة كي ترفع شأنها بين الأمم.. وتفاخر بها في كل قطر وزمان.. اقترح الصديق الراحل الدكتور محمد عوض محمد.. وزير المعارف الأسبق، دخول مصر في هذا الميدان شأن الأمم عظيمة الشأن وأن ندخل الميدان علي طريقتنا الخاصة.. ونصبغه بالصبغة الوطنية.. بأن تكون لدينا ملكة للفول المدمس الخالي من السوس. وقال الدكتور محمد عوض محمد عليه رحمة الله.. إنه من الواجب أن تكون الملكة المتربعة علي عرش الفول المدمس لها ميزات خاصة.. فلا ينبغي أن تفوز بهذا اللقب إلا من كانت لها قوام يشبه قدرة الفول شبها قويا.. حتي يكون فوزها عن جدارة واستحقاق. هذا الزمن انتهي.. والله يرحمك يا دكتور محمد عوض.. لقد كنت عالما فذا.. زاهدا.. ساخرا.. فيلسوفا.. ولكن توقعاتك إزاء الفول المدمس.. لم تأخذ في حسبانها ما جري لأحوالنا.. وما جري للمنزل الذي كنت تقيم فيه في شارع مراد بالجيزة.. الذي تحول لشارع شارل ديجول.. حيث تقف عربات الكشري تقدم وجباتها في أكياس من النايلون للنخبة من علماء هذا الوطن العظيم. أقول إن هذا الزمن انتهي.. وأصبح الفول المدمس من المهدئات المقاومة للاكتئاب علي حد ما جاء في صحيفة «الأهرام» الرصينة في 28 ديسمبر 2010.. التي أشارت إلي أن علماء الطب الحديث أكدوا أن تناول الفول والعدس يجلبان السعادة لأنهما غنيان بمادة «التربتوفان» التي تزيد من إنتاج هرمون السعادة «سيروتونين». كما أنه - أي الفول المدمس - وفقا لما جاء في «الأهرام» موصل عصبي.. يساعد علي تنظيم عملية النوم! وهو كلام علمي سليم يفسر لنا أسباب العنف والاكتئاب والاحتقانات الطائفية وإطلاق مندوب الشرطة عامر عاشور عبدالظاهر النار من مسدسه الميري علي 6 مواطنين مصريين أبرياء داخل قطار سمالوط وغيرها من الجرائم التي نشهدها ونقرأ عنها علي مدار الساعة. ولم نكن نعرفها قبل ارتفاع أسعار الفول المدمس. الفول المدمس.. كما تقول صحيفة «الأهرام».. من المهدئات المقاومة للاكتئاب.. وأن تناول الفول والعدس يجلبان السعادة لأنهما غنيان بمادة «التربتوفان» التي تزيد من هرمون السعادة.. الأمر الذي يفسر لنا سر السعادة التي كنا نلمسها علي وجوه الآباء والأجداد.. قبل أن يفوز الحزب السرمدي بالأغلبية الساحقة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.. وقبل أن ينشر المهندس أحمد عز مقالاته التي شرح لنا فيها سر هذا الفوز الكاسح.. علي الرغم من أن ارتفاع أسعار الفول المدمس.. أدي لارتفاع أسعار الأصوات التي قدمها مرشحو الحزب السرمدي لشراء أصوات الناخبين.. واستمالتهم. كان المواطن المصري يشعر بالسعادة.. لأنه كان يتناول الفول المدمس.. الغني بمادة «التربتوفان». ويقول التقرير الذي أعده مركز العقد الاجتماعي بمجلس الوزراء بالتعاون مع المركز القومي لحقوق الطفل أن عدد المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بلغ 16 مليونا و300 ألف شخص.. وهناك 21% من الأسر تعيش علي أقل من 185 جنيها للفرد شهريا. بما يعني أن عدد المواطنين الذين يتناولون الفول المدمس ويشعرون بالسعادة الغامرة.. في تدهور مستمر.. الأمر الذي كدر عليهم صفو حياتهم.. وأبدلهم بالأنس اكتئابا.. ولم يعد يتناول الفول المدمس سوي الدكتور نظيف رئيس الوزراء الذي أعلن منذ أيام.. أن اكتساح الوزراء للانتخابات البرلمانية الأخيرة دليل علي ما سماه شعبية الحكومة. والدكتور رئيس الوزراء يتعاطي الفول المدمس.. ومعه البلح الرطب والجوافة.. فصورت له نفسه أن الوزراء اكتسحوا الانتخابات.. بسبب شعبية الحكومة.. وهو كلام لا يمكن أن يصدر إلا عن الذين يتعاطون الفول.. النابت! وهكذا ارتفعت أسعار الفول.. ولم تعد سندوتشات الفول والطعمية في متناول الجميع. أصبحت في متناول الطبقة السياسية.. وأعضاء الفريق القومي لكرة القدم.. وكبار المطربين والمطربات.. ونجوم ونجمات المسلسلات.. وضيوف البرامج الحوارية في تليفزيون الفقي. إنها السياسة التي يطلق عليها الدكتور ممدوح حمزة: التطهير الاجتماعي! وفي إطار سياسة التطهير الاجتماعي.. قررت الحكومة استبدال القمح ب «القمع».. واستبدال الأرز بالمكرونة في بطاقات التموين ابتداء من يناير الحالي (2011) وبدأنا نسمع عن مناقصات ومفاوضات تجري مع الشركات الموردة للمكرونة. أصبحت المكرونة هي حديث الساعة.. وتراجع الحديث عن العدس والأرز.. والفول. وهكذا تتم عمليات التطهير الاجتماعي علي جميع المستويات سواء باستبعاد طبقات اجتماعية محددة.. من الإقامة في المناطق الراقية التي باتت مخصصة للطبقة السياسية التي تدير أمور الدولة وتتخذ القرارات علي المستويات العليا. أو بالقضاء التام علي الأراضي الزراعية.. وعلي إنتاج المحاصيل التي يعتمد عليها الشعب في غذائه اليومي.. لفتح أبواب الاستيراد علي مصراعيها.. وتحقيق المكاسب الطائلة لمجموعة من رجال الأعمال يتقاسمون الأرباح الحرام مع رجال السلطة وأصحاب النفوذ.. وبالتالي فنحن لم نعد نستورد الفول والعدس والقمح.. بكل ألوانها وأشكالها من الخارج فحسب.. وإنما نحن نستورد اللحوم.. والألبان والفاكهة.. والسيارات والدراجات وفوانيس رمضان.. وسجاجيد الصلاة.. لسبب بسيط.. هو أن لكل قطاع من هذه السلع.. رجاله وكبار العاملين في مجاله.. ويهم صاحب كل قطاع أن يقضي علي المنتجات المحلية والوطنية التي تنافس السلع التي يحتكر استيرادها من الخارج. ولذلك لم يعد من المدهش أن نسمع في كل مرة ترتفع فيها أسعار سلعة ما.. جملة واحدة هي: إن أسعار الفول والعدس قد ارتفعت بسبب ارتفاع الأسعار العالمية! وتسمع علي لسان كبار الساسة جملة: إن الأزمة المالية العالمية.. هي السبب وراء ارتفاع أسعار الفول. والحديث هنا.. لا يتناول السلع الصناعية المعقدة التي اعتدنا استيرادها من الخارج.. وإنما يتعلق بالمنتجات الزراعية البدائية التي عاش عليها الشعب المصري لآلاف السنين.. ومن بينها الفول والعدس. ومن الطبيعي أن نتساءل. ما معني ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية؟ معناه انتشار الفساد.. وسيطرة كبار المستوردين.. وحيتان اللحوم والعدس والفول والقمح.. علي مقادير الأمة.. وكانت التجربة التونسية.. هي أصدق وأقرب الأمثلة علي هذه الحالة. حالة القضاء علي الإنتاج الوطني من الغذاء.. وتدميره.. لصالح عدد من رجال الأعمال يستوردون هذه الأغذية من الخارج ويحققون الأرباح الطائلة. ورجال الأعمال الذين يحتكرون استيراد السلع الاستراتيجية.. ليسوا.. أي رجال أعمال.. إنهم أقارب زوجة المسئول الكبير.. وأشقاء وآباء زوجات الأبناء.. إلخ.. وهم أصحاب القصور التي تعرضت لهجوم الشعب التونسي.. وتدمير محتوياتها.. بما يعني أن الشعوب تعرف خصومها.. وتعرف اللصوص الذين يمتصون دماء الأمة. كانت أسعار المواد الغذائية الشعبية.. تواصل الارتفاع حتي لم تعد في متناول عامة الشعب. وكلما ارتفعت أسعار المواد الغذائية الشعبية ارتفع السخط الشعبي.. الذي كانت تقاومه السلطات التونسية.. بمزيد من القمع.. وبالمزيد من استخدام أساليب الترويع. كان الشعب التونسي.. يري كبار اللصوص.. وهم يحيطون بالرئيس الهارب زين الدين بن علي.. فيفقد الأمل في قدرته علي مكافحة الفساد. كان الشعب التونسي.. يري كبار المنافقين حول الرئيس.. فيفقد الأمل في قدرة الرئيس علي رؤية الواقع.. ومعرفة الحقائق والإلمام بما يجري خارج قصور الرئاسة.. ويدرك أن رئيس الجمهورية يعيش في عالم رسمه له المنافقون من باب التخدير.. وهو يعيش في عالم غير عالمه. ومن هنا كان الانفجار الكبير الذي أدي لقيام عدد من صغار الرتب في الجيش التونسي بالقبض علي قادتهم.. وعندما علم زين الدين بن علي بما جري بالقبض علي دروعه الواقية.. قرر الفرار.. قبل أن تتم عملية اعتقاله. ولذلك نقول إن نظام زين الدين بن علي لم يكن سوي ضحية.. للفساد الذي استشري طوال 23 سنة أمضاها الرئيس التونسي في السلطة. الشعوب لا تري صفقات الفساد التي تجري في الخفاء.. هكذا يتصور الحكام ضعاف الإدراك.. بينما الحقيقة هي أن الشعوب تري مظاهر الفساد في حياتهم اليومية.. وفي كل ساعة.. وكل حركة.. لسبب بسيط.. هو أن للفساد روائح كريهة وعفنة يمكن حجبها عن الأبصار ولكن رائحتها وعفونتها تخنق الأنفاس. هذه كانت جمل اعتراضية.. ونحن نتحدث عن الارتفاع الهائل في أسعار الأطعمة الشعبية.. التي نستوردها من الخارج علي أيدي رجال يجلسون فوق مقاعد اتخاذ القرار.. وفي مقدمتها الفول المدمس.. الذي تخلي عن البسطاء وطعنهم في ظهورهم.. ولم يعد الاقتراب منه في قدرة الملايين. أزمة الفول.. دخلت كل بيت في مصر. وإذا كان الصديق الراحل الدكتور محمد عوض محمد.. قد اقترح في خمسينيات القرن الماضي.. إعداد مسابقة لملكة جمال الفول المدمس يكون قوامها أشبه بقدرة الفول.. فإننا نقترح إعادة توزيع تماثيل المطرب الشعبي محمود شكوكو صاحب الجملة الشهيرة التي وجهها إلي ليلي مراد في فيلم عنبر وهي: وبنيت من الفول والطعمية أربع عمارات.. أربع عمارات!