بعد عرض مفاسد النظام الرأسمالي في المقالات السابقة ثمة سؤال يتبادر إلى الذهن؛فحواه: ماذا عن مصير هذا النظام الفاسد الذي يخالف سنن التطور نتيجة ابتزاز الشعوب و إفقارها كي يقيم مجتمع الرفاهية لطبقة انتهازية تستغل مقدرات الشعوب أبشع استغلال لتحوز"فائض قيمة"عملها؟ يرى بعض علماء الاقتصاد السياسي أن الرأسمالية لديها القدرة على تجاوز مشكلاتها و تجديد نظامها بما يضمن لها البقاء و الاستمرارية؛فهي لذلك قدر محتوم و نهاية للتاريخ؛خصوصاً بعد انهيار و سقوط المعسكر الاشتراكي,و تفرد القطب الرأسمالي الأمريكي الأكبر بالهيمنة على مصير العالم. لكنني_كمؤرخ_أرى عكس ذلك؛تأسيساً على أن التاريخ كائن متحرك له قوانينه العلمية الحاكمة.فالفساد في الكون عابر,و للدول أعمار لا تتجاوزها,و معيار بقائها مرتهن بمدى قوتها,و معيار القوة يكمن في مبدأ العدالة؛فإذا اختل ميزانها فلا مناص من انقضاء عمرها الافتراضي.و صدق ابن خلدون حين حكم بأن"الظلم يفضي إلى خراب العمران".و يعني مصطلح"العمران"هذا التوافق و الانسجام و الاتساق مع المثل و القيم الإنسانية. وفقاً لتلك الحقائق التاريخية الموضوعية؛نستطيع الجزم بنهاية النظام الرأسمالي من ناحية,و سقوط الإمبراطورية الأمريكية من ناحية أخرى؛استناداً إلى العديد من الأدلة و البراهين و القرائن التي نوجزها في الآتي: * أولاً)) أن النظام الرأسمالي قد استنفد مراحل تطوره بعد وصوله إلى صيغة"الرأسمالية المالية"المتوحشة التي نرى أنها تمثل أبشع صور"النهب المنظم"لمقدرات الشعوب؛و حتى تلك التي أخذت بالنظام الرأسمالي نفسه؛و التي تعرضت لاستغلال القطب الرأسمالي الأمريكي؛ناهيك عن الشعوب الفقيرة.ذلك أن الرأسمالية المالية ضربت عرض الحائط بأهم مبادئها عن الاقتصاد الحر,و لجأت إلى سياسة"الاحتكار".هذا فضلاً عن التعويل على حيازة"الأموال"على حساب"الإنتاج"و ذلك بالهيمنة على النشاط المصرفي و التحكم في أسعار"الفائدة"و"الصرف"بعد أن صار الدولار الأمريكي عملة الاقتصاد العالمي.نجم عن ذلك أزمات هيكلية,و أخرى مالية تعرض لها الاقتصاد الأمريكي_نتيجة المضاربات في بورصة نيويورك_فضلاً عن العجز في الموازنة العامة من جراء زيادة الإنفاق على الموارد و الشطط في الاستهلاك الترفي؛و هو خلل لم يدفع الاقتصاد الأمريكي ثمنه؛بل جرى إحالته إلى الدول الأوروبية و دول النفط و الشعوب الفقيرة. * ثانياً)) تفاقم مشكلة الديون ليس فقط بالنسبة للدول الفقيرة؛بل عانت منه الدول الرأسمالية الكبرى.و هو أمر انعكس سلباً على الاقتصاد الإنتاجي الذي دخل مرحلة "الانكماش"؛ نتيجة انكماش الطلب على السلع,و البطالة,و التضخم و الغلاء؛و كلها مشكلات ناجمة عن فساد النظام الرأسمالي؛فازداد الفقراء فقراً إلى حد تفاقم مشكلة الغذاء و حدوث المجاعات في الكثير من الدول المدينة التي عجزت عن سداد فوائد الديون.لذلك لم تجد مناصاً من الاستدانة بشروط مجحفة؛و هو ما أدى إلى العجز عن تحقيق المشروعات التنموية من ناحية,و بيع المؤسسات الاقتصادية و مقدرات الإنتاج من الموارد الطبيعية للشركات المتعددة الجنسيات بأسعار بخسة؛من ناحية أخرى. * ثالثاً)) نجاح بعض الدول في جنوب شرقي آسيا؛مثل كوريا الجنوبية و تايوان و هونج كونج و سنغافورة و الهند و البرازيل و المكسيك في الانعتاق_نسبياً_من إسار هيمنة المراكز الرأسمالية الكبرى في إحداث"تنمية مستقلة و مستدامة".فشكلت بذلك نوعاً من المنافسة في الكثير من السلع و المنتجات_كالمنسوجات و المصنوعات الجلدية والزجاجية و الأدوات المنزلية و الحديد و الصلب و السيارات و غيرها_في الأسواق العالمية مع الدول الرأسمالية الكبرى؛نتيجة رخص أسعار تلك السلع لوفرة الأيدي العاملة الرخيصة؛الأمر الذي أدى إلى إغلاق الكثير من المصانع في أوروبا و أمريكا الشمالية؛ بما يشكل بداية انهيار النظام الرأسمالي.إذ طمحت الكثير من الدول النامية إلى احتذاء سياسة دول"النمور الآسيوية"في الخلاص من النظام الرأسمالي نفسه؛خصوصاً بعد إفلاس الكثير من الدول الأوروبية,و تضعضع مكانة الولايات المتحدةالأمريكية على الصعيد الدولي. الأهم؛أن الكثيرين من علماء الاقتصاد السياسي في أوروبا كتبوا الكثير عن مفاسد الرأسمالية, وتنبوءا بسقوطها؛ما لم تتخل عن"توحشها".من هؤلاء؛نشير إلى الأستاذ"مايكل روبثام"الذي دعا_مع الكثيرين من أمثاله_إلى بناء منظومة اقتصادية جديدة؛لا لشيء إلا لأن الرأسمالية المالية_الإمبريالية_تعاني الكثير من جراء مفاسدها.لا أدل على ذلك من قوله بأن"أكثر الدول ديوناً هي الدول الأغنى و الأكثر إنتاجاً و تقدماً".و حكمه بأن"سياساتها أبعد ما تكون عن العدل…و هو أمر مناف للأديان و للأخلاق الإنسانية". لكن الإمبريالية تصم الآذان عن تلك النصائح؛و هو ما جعل"روبثام"في كتابه"وداعاً أمريكا_العولمة و الديون و إمبراطورية الدولار"يتنبأ بسوء المصير و بشاعة المنقلب الذي ينتظرها,و من ثم الرأسمالية ذاتها. هنا؛يثار السؤال الأهم:متى تسقط إمبراطورية أمريكا؟,أو بالأحرى متى يتحرر العالم من هيمنة الإمبريالية؟ ثمة مؤشرات تدل على أن السقوط أصبح وشيكاً بعد تحول الرأسمالية إلى إمبريالية متوحشة أعماها عامل الربح الفاحش عن كل ما هو إنساني؛الأمر الذي فجر التناقضات بين المراكز الكبرى.كذا بين هذه المراكز و بين الدول النامية و المتخلفة.فالاتحاد الأوروبي في طريقه إلى التفكك,و التظاهرات في المدن الأوروبية و الأمريكية تندد بالإمبريالية كنظام اقتصادي_سياسي.و الدول و الشعوب الأوروبية معاً ينددان بالتغول الأمريكي بعد تدخل الولايات المتحدة في الدول الفرنكفونية لفرض نفوذها على حساب فرنسا.و ألمانيا المزدهرة اقتصادياً تحاول ترجمة هذا الازدهار إلى نفوذ سياسي و قوة عسكرية.و الولايات المتحدة تتعامى عن ذلك كله,و ينظر ساستها إلى دول أوروبا باعتبارها"عجوز متقطع الأنفاس"؛على حد تعبير الرئيس"بوش الابن".و دول أمريكا الوسطى و الجنوبية تتحدى الولايات المتحدة و تنحو نحواً اشتراكياً.أما روسيا والصين؛فهما"حصانان أسودان"يعدان العدة لوراثة مكانة أمريكا في العالم.أما بريطانيا فقد تجاسرت_للمرة الأولى_في مشاركة الولايات المتحدة في توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا,و اتخذت ألمانيا و فرنسا ذات الموقف تأسيساً على رفض السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؛خصوصاً بعد تحالفها مع التيارات الإسلاموية المتطرفة.ناهيك عن عجزها في مواجهة التحدي الإيراني و رضوخها للحلول السياسية نتيجة عجزها عسكرياً.أما مصر فقد تحدت أمريكا علناً رافضة التدخل الأمريكي في شئونها الداخلية؛دون أن تحرك أمريكا ساكناً. خلاصة القول؛أن سياسة"العصا و الجزرة"التي عولت عليها أمريكا بعد انفرادها بالهيمنة على العالم ما عادت تجدي فتيلاً,بل أصبحت من مخلفات الماضي القريب. تلك المؤشرات_و غيرها كثير_تنبئ بأن الإمبراطورية الأمريكية في الطريق إلى الهاوية.و يرى بعض الساسة و الاستراتيجيين أن مصير الاتحاد السوفيتي ينتظر الولايات المتحدة عاجلاً؛لا آجلاً؛بل أن استقلال ولاياتها أصبح محتملاً.في هذا الصدد؛ثمة دراسة للدكتور/السيد أمين شلبي بعنوان:"الدرس السوفييتي_احتمالات انهيار الإمبراطورية للولايات المتحدة"؛تلقي أضواء كاشفة على هذا الموضوع؛مستمدة من دراسة للأمريكي"بول كيندي"عن الانحدار الاقتصادي الأمريكي العاجز عن الحفاظ على النفوذ الأمريكي في العالم.كذا من تحليلات"بريجنسكي"_مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق_التي تنبه أولي الأمر في الولايات المتحدة من أخطار الإنفاق الناجم عن التدخل العسكري الأمريكي في الخارج؛بحيث أصبحت أمريكا أكثر دول العالم مديونية؛في الوقت الذي تعيش فيه في حالة من الرفاهية"المرضية سيكولوجياً"تتجسد في عبارة:"كل و اشرب و امرح"…!! و هو مرض سبق و أن أفضى إلى موت إمبراطوريات أسبانيا و فرنسا و بريطانيا.لذلك_و غيره_يرى المفكر المصري"سمير أمين"أن سقوط الإمبراطورية الأمريكية أصبح وشيكاً؛أى خلال الأعوام العشرة القادمة؛حسب نبوءته.