آلات بدائية .. والموت والإصابة مشهد معتاد إعداد وتصوير : هبة صلاح عندما ترى لوحة فنية في الطبيعة بكل ما تحتويه الكلمة من معنى .. الجبال ناصعة البياض أشبه بالثلج وحجارة مصطفة وكأنها مرسومة بالقلم والمسطرة خلفها جبال منحوتة مربعات دقيقة سرعان ما تشعر داخلها انك عدت بالزمن إلى العصور الحجرية وتختفي اللوحات الجمالية كلما اقتربت اكثر لتجد نفسك أمام مشهد درامي لا يصدقه عقل .. الآلات بدائية يحركها ملثم لا تظهر منه سوى اطرافه المتسخة باللون الابيض وكأنه رجُل فضائي ، تلك الآلة التي يصدر عنها الغبار الابيض يشبه السحاب والذي يخفي ما هو خلفه ويتبخر ليظهر امامك مُلثم اخر محني الظهر يرتب الحجارة بشكل متساوى وقتها ترى المأساة التي يواجهها هؤلاء .. هم ليسوا بكائنات فضائية أو من العصور الحجرية وتلك المشاهد ليست "فوتوشوب" ..هم عمال مصريون في القرن الحادي والعشرين ولكنهم فقراء دفعتهم ظروفهم المعيشية للعمل بالمحاجر يلاحقهم الموت فى كل لحظة.. هنا اكبر محاجر في مصر للحجر الجيري بمحافظة المنيا .. توجد المحاجر بشرق النيل بالمنيا وتبعد عن المدينة بحوالي 15 كيلو مترا مربعا ، حيث تشغل المحاجر نحو 300 كيلو متر مربع ويعمل بها 90% من سكان القرى القريبة من شرق النيل بالمنيا حيث يلجأ سكان المنيا الى العمل بالمحاجر بعدما تقلص حجم الرقعة الزراعية وزاد عدد السكان وغابت فرص العمل واستمر الوضع الاقتصادي في التردي .عندما تقرر الذهاب الى هناك فلا توجد مواصلات الا النصف نقل التي تنقل العمال من منطقة الشرفا او القرى القريبة الساعة 5 فجرا لجلبهم للمحاجر بمعرفة رئيس عمال كل محجر ، لا يستطيع احد الدخول الا بعد المرور على الاعراب الخفراء حارسين المحاجر الجالسين اعلى جبل يراقبون من خلاله ما يحدث داخل وخارج المحاجر .. دخلنا عن طريق سيارة خاصة وامامنا احد العمال كدليل من داخل المحاجر يستقل دراجة بخارية "موتوسيكل" ليوقفنا احد الأعراب قائلا : "اية ده انتو مين رايحين فين" فرد السائق :"دول جماعة صحفيين عاوزين يصوروا جوة" فرد الغفير : "لاء التصوير ممنوع هنا " وقتها تدخل من رافقنا للمحاجر واوضح لهم اننا سنزور محجرا خاصا به فوافقوا على مرورنا . علمنا بعد ذلك ان هؤلاء الأعراب يحصلون على إتاوة شهرية وهي حوالي 1200 جنيه من كل محجر ، وعدد هذه المحاجر تقريبا ألف محجر وفقا للتقديرات الرسمية ، اما التقديرات غير الرسمية فتقدر بنحو 1300 محجر ، وذلك مقابل العيش بأمان ، ومن يرفض دفع هذه الاتاوة يعرض نفسه للاعتداء اما على معدات محجره او عليه شخصيا ولكي يعيش في امان عليه ان يرضخ لقانون هؤلاء الاعراب. لم تبدأ في التحرك لمدخل الطريق الا وتشعر بحرقان في عيونك بسبب الجير المتطاير وقتها طلب منا سائق السيارة رفع زجاج النوافذ سريعا حتى لا نختنق من الغبار وحتى لا تتسخ سيارته .. تترك هذا المدخل لتسير في طريق متعرج ضيق تسير فيه سيارات النقل الكبيرة بالاتجاهين ترى على جانبيك رمالا وصحراء ناصعة البياض ليس لها حدود وبها ما هو اشبه بالخنادق الكبيرة محفورة بفعل هذه المحاجر لاستخراج الحجر الجيري من باطن الجبال ، تهتز بك السيارة التي تسير بسرعة بطيئة بفعل التعرجات والحجارة الصغيرة التي تملؤها وتواصل السير لنحو نصف ساعة حتى تصل للمحجرالمقصود .. هذا المكان محظور فيه دخول النساء ،فهو للرجال فقط ، لتجد نفسك امام مكان بدائي كل شيء فيه لا علاقة له بما يحدث علي ارض الواقع من وسائل الترفيه او التكنولوجيا او اي مقومات لحياة لائقة .. يبدأ يوم العامل من الساعة 5 فجرا او ما قبلها وحتى 2 او 3 عصرا بحسب حاجة العمل ..تستقبلك فور وصولك أصوات مرتفعة جدا بسبب محرك الكهرباء البدائي الذي يصدر منه صوت مرتفع جدا لا تستطيع معه سماع احد يحدثك ولا تشعر بأذنيك ، بالاضافة الى صوت الالات بأسفل الجبل التي تراها صغيرة من فوق الجبل ولكن تسمعها جيدا . يستخدم العمال داخل المحاجر لغة الاشارة في الحديث بينهم وبين البعض وكل آلة وأداة تستخدم لها اشارة يرمزون بها لبعضهم البعض وقت الحاجة لها. هذا المحجر يعد نموذجا مصغرا لجميع المحاجر بالمنيا ، ويعكس المجتمع الصغير الذي يعيشه هؤلاء العمال ، ينتج المحجر من 6 : 10 الاف طوبة يوميا بينما تصل انتاجية المحجر الكبير الى 30 الف طوبة اذ تنتج المحاجر يوميا 2.3 مليون طوبة . يستخرج الطوب من الجبل عن طريق عدة خطوات اولها عملية تكسير الجبل بفعل "اللودر" حتى تتم مساواة الارض ، وتبدأ الآلات البدائية عملها على رقعة الارض المتاحة حيث تتصل جميع الآلات بمولد الكهرباء اعلى الجبل عن طريق كابلات واسلاك كبيرة الحجم مغطاة بما يشبه شريط اللحام البلاستيكي ، واسفل الجبل توجد الكابلات البدائية التي تتصل بها المعدات الاكثر بدائية وهنا تحدث اكثر الحوادث للعمال بالصعق الكهربائي . الآلة الرئيسية هي ما يطلقون عليها "الفصالة " : وهي الالة التي يتم بها فصل او قطع ارضية المحجر بشكل رأسي وهي تحتوي علي موتور يعمل بالكهرباء والزيت وتتحرك على ما يشبه قضبان السكة الحديد بعجلات ويحركها العامل يدويا لفصل ارضية المحجر بخط مستقيم طولا وعرضا ينتج عنها غبار كثيف اثناء عملية القطع. ثانيا " تعديل السكة" : يقوم العامل في نهاية الخط او امام الكينة او خلفها بشد السير او القبضان التي تسير عليها المكينة يدويا عن طريق عصاة حديدية ملتوية "ليعدل السكة" لتسير المكنة في خطوط متوازنة ومسافة محددة يحددها هو بقطعة خشبة لتكون المسافات واحدة لينتج حجم الطوب متساويا . اما الالة الثالثة فهي يطلق عليها اسم "الحشاشة " وهي التي تفصل الحجر من الاسفل عن الارضية بعد تقطيعه من الجوانب بالفصالة وتتشابه كثيرا بها حيث يجلس عليها العامل ويحركها يدويا ولكن التروس بها تأخذ شكلا افقيا لتفصل الحجر من اسفل على بعد مسافة محددة .وينتج عنها غبار اكثر كثافة .. ثم الخطوة الرابعة هي "تقليب البلوك" حيث يجري خلف هذه المكنة عامل منحني الضهر ليحاول عدل قوالب الطوب بعد تقطيعها ويطلق عليه عامل "بيقلب بلوك " ليترك الحجر واقفا شامخا منتظرا نقله الى حيث استخداماته المتعددة.. اما الخطوة الاخيرة التي تراها في المحجر فهي تحميل هذا الطوب على سيارات النقل الكبيرة ، فتجد العمال الذين يحملون الطوب على السيارات فهم يلقون بهذه القوالب بحركة رشيقة وبخطوات محسوبة يحملها على ظهره من على الارض الى السيارة يحدفونها لاعلى وكأن الطوبة تعرف طريقها في الصف بشكل منظم تقف بجانب باقي الطوب . بيئة العمل بشكل عام متردية حيث يعملون في اشعة الشمس الحارقة صيفا حتى ان اللون الابيض الناصع يعكس ضوء الشمس لتحرقهم ، ويعملون في البرودة القارسة شتاء وسحابات الغبار الابيض الكثيف والتي تصعب معها الرؤية بل وتنعدم احيانا وذرات السيلكا التى تسد مسام الجلد والتى يتم استنشاقها ، وكذلك تغيب عنهم وسائل الامن الصناعي والسلامة المهنية حيث يستخدم العمال جميعا ادوات حماية عادية ، مثل الكوفية او الشال الذي يلفون به اوجههم ونضارات الشمس السوداء بديلا عن الادوات التي من المفترض ان تستخدم في المصانع ، ولا يستخدمون قفازات او احذية تحمي اطرافهم من الجير ، الا ان بعضهم تجده مرتدي "شبشب " واياديهم عارية يحملون بها الطوب مباشرة ، او تجدهم مرتدين اقنعة بصنع يدهم من الاقمشة فوقها نضارة سوداء ، ولكن هذه الوسائل لا تحميهم من مخاطر سحابات الغبار الابيض الكثيف وذرات السيلكا المتطايرة التى تسبب امراض العيون حال دخولها الاعين. فضلا عن انهم لا يتمتعون بأي وسائل حماية اجتماعية او صحية كما لا توجد وسائل انقاذ سريعة فأقرب نقطة اسعاف تبعد عن المحاجر بنحو 15 كيلو مترا .. مما يتسبب في اكثر من 50 : 60 حالة وفاة سنويا وتقلصت في اواخر 2010 الى 19 حالة وفاة فقط نتيجة زيادة التوعية بحسب ما اوضح العمال. تابع باقي الملف : - يلاحقهم الموت ولا يحصلون على تأمينات أو تعويضات - "يحيى" مُسن فى الرابعة عشرة من عمره.. يواجه الموت يوميا.. ويتغذى على الجبنة المثلثات - مؤسسة وادي النيل: أسوأ اشكال عمالة الأطفال وفقا للاتفاقيات الدولية بالمحاجر - مدير إدارة المحاجر بالمحافظة: نحصل 140 مليون جنيه سنوياً من المحاجر - رئيس النقابة العامة للعاملين بالمحاجر: انشاء وزارة للتعدين او هيئة قومية .. ضرورة ملحة - بداية المحاجر ..