«أركون».. العلمانية كضرورة تواكب رحيل المفكر الجزائري المتخصص في الإسلاميات «محمد أركون» والذي عاش في فرنسا منذ ثلاثين عاما، مع تصريح مهم لبابا روما «بنيدكتوس السادس عشر» أثناء زيارته لبريطانيا قال فيه إن هناك حاجة ماسة للحوار والتفاهم بين العلمانيين والمتدينين.. ولابد من تسجيل هذا الاستدراك ألا وهو أن الكثير من العلمانيين علي امتداد المعمورة هم أيضا متدينون ولكنهم يعتبرون الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه لا علاقة له بالسياسة أو الدولة.
بذل المفكر الجزائري عبر تاريخه العلمي الغني جهودا جبارة ليواجه تأثير خطب الوعظ الديني لأئمة المساجد التقليدية الذين لا يتمتعون بأي ثقافة إسلامية حقيقية، ولا بأي انفتاح علي الحداثة المحيطة بهم، وقال «أركون» ذلك وهو يبحث موضوع اندماج المهاجرين المسلمين إلي فرنسا في المجتمع الجديد الذي نزحوا إليه دون أن يتخلوا عن دينهم وثقافتهم، وكان قد اشتبك بهمة وقدم إضافاته الفكرية في الجدل الدائر الآن في فرنسا حول الصيغة الجديدة للعلاقة بين العلمنة والدين، والبحث في سياقها عن علمنة منفتحة علي كل أبعاد الإنسان بما فيها البعد الديني أو الروحي، دون أن يعني ذلك التراجع عن المكتسبات السابقة للعلمنة التي أرست تقاليد راسخة للمواطنة، وفصلت بين الدين والدولة بعد أن كانت فرنسا وأوروبا كلها قد خاضت صراعا ممتدا منذ العصور الوسطي ضد الكنيسة والتقاليد الإقطاعية، لترسي في إطار الرأسمالية البازغة وبعد ثورتها العظمي أسس المجتمع الجديد والدولة الجديدة المنفصلة عن الدين والكنيسة. درس «أركون» القادم من أصول بربرية فقيرة - أي من أقلية - العلوم الجديدة ومناهجها من البنيوية للانثروبولوجيا ومن السيميائية إلي التفكيكية وغيرها، وبرزت موهبته في استخدام هذه العلوم لإضاءة التاريخ الإسلامي باعتبار التاريخ هو علم أنثروبولوجيا الماضي وتركز الأنثروبولوجيا في دراستها - للعلاقات الاجتماعية علي المسائل غير الاقتصادية - وأخذ «أركون» يرد الاعتبار للتراث العقلاني الإنساني في ثقافتنا من المعتزلة لابن رشد والفارابي وابن سينا والرازي حتي لقبه أحد الباحثين بابن رشد العرب في القرن العشرين. ولعب أركون دورا رئيسيا في مساءلة الصور النمطية عن الإسلام والمسلمين وتفكيكها والحفر عن جذورها في الفلسفات والنزعات العنصرية في أوروبا وانبعاث هذه النزعات بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 إثر قصف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك واتهام إسلاميين متطرفين بارتكاب الجريمة، وماتزال الدراسات الأساسية للاستشراق تضع الإسلام في درجة ثانية بعد اليهودية والمسيحية. سعي «أركون» من موقعه كأستاذ إسلاميات في جامعة «السوربون» حيث تتلمذ عليه الكثيرون، إلي ربط الشرق بالغرب علي كل المستويات الفكرية والفلسفية والإنسانية علي أسس من الندية والتكافؤ، رافضا لفكرة صراع الحضارات باعتبارها فكرة عنصرية، مؤكدا فكرته التي أسسها علميا عن وحدة مصدر أديان الوحي، وهو الذي أطلق علي أصحاب الديانات الثلاث وصف أمة أهل الكتاب وضرورة انفتاحها علي الدائرة الإنسانية الأوسع في سياق وحدة وتنوع الحضارة الإنسانية. ورغم أن «أركون» أكد مرارا وتكرارا أن الفقه هو عمل إنساني وليس إلهيا في سياق اقتناعه بتاريخية كل المنتجات البشرية، فإنه دعا الباحثين المعاصرين ليكونوا علي مستوي الفقهاء القدامي في اجتهادهم وثقافتهم واتساع مداركهم، ودعا التلاميذ إلي إتقان الوجوه الثلاثة للمعرفة سواء تلك القائمة علي الأسطورة أو التي ينتجها علم التاريخ النقدي وأخيرا تلك المعرفة التي يؤمنها لنا النقد الفلسفي. وربما كانت نقطة الضعف الرئيسية في هذا البناء الشامخ الذي أسسه «أركون» هي تجاهله لمفهوم الطبقة كأداة تحليلية، وعدم الالتفات لتأثير الصراع الطبقي علي السياقات المختلفة و تأثيره العميق في الثقافة وفي عملية اتباع الرموز. وبقي أنه لم يكن ليصل إلي الذري الفكرية السامقة التي وصل إليها إلا لأنه عاش في باريس عاصمة الحرية وسليلة مفكري الأنوار العظام وعقلانيتهم، وربما لو بقي في الجزائر كان قد لقي مصير عشرات المثقفين والباحثين النقديين الذين قتلهم المسلمون الأصوليون بعد أن كفروهم.. هو الذي وجه أعنف نقد للأصولية. ويكفي أن نتتبع مصائر مثقفين كبار استخدموا المنهج النقدي إبداعيا في دراسة الإسلام من «نصر حامد أبوزيد» - وهو تلميذ «لاركون» - الذي جرب محاصرته ونفيه وتطليقه من زوجته بدعوي الارتداد ومن «خليل عبدالكريم» الذي جري التعتيم علي اجتهاده، ومن «حسين مروة» الذي قتله المتطرفون.. إلي فرج فودة الذي لقي نفس المصير.. لمئات الباحثين الآخرين المهددين لأن العلمانية في العالمين العربي والإسلامي مازالت تندرج في إطار «اللامفكر فيه» حسب تعبير «أركون» أو بوضوح أكثر الممنوع التفكير فيه، في ظل الاستبداد الذي يستخدم الدين. فتح أركون الباب وإن مواربا وعلي المثقفين الشجعان المسلحين بالمعرفة والنزاهة أن يدخلوا بقوة إلي المعركة لأن العلمانية هي ضرورة لا غني عنها للحداثة والديمقراطية.