هذه المقالة مع مقالات مقبلة مهداة إلى مجلس الشعب بمناسبة احتفاله باليوم العالمى للديمقراطية فى 15 سبتمبر 2009، وهو اليوم الذى حدده الاتحاد البرلمانى الدولى هذه الرباعية مكونها الأساسى العَلمانية ومكونها النهائى الليبرالية، وبينهما العقد الاجتماعى والتنوير، ولكل مكون من هذه المكونات الأربعة معنى وقصة، ولكل منها مقال، وأبدأ بالعلمانية وأتساءل: ما العَلمانية؟ عند العرب حدث اضطراب فى معنى ضبط الكلمة، فمَنْ فَتح العين أراد النسب إلى العالَم، ومَنْ كسر العين أراد النسب إلى العلم، وجاء فى «المعجم الوسيط» فى الطبعة الثالثة الصادرة عن مجمع اللغة العربية (1985) أن العَلمانى نسبة إلى العَلْم بمعنى العالَم وهو خلاف الدينى والكهنوتى، ومن ثم يكون ضبط كلمة علمانى بكسر العين خطأ شائعا بين طائفة المثقفين، غير مبالية بسلامة نطق الكلمة. أما عند الفرنجة فالعلمانية تعنى العالَم المتزمن بالزمان، أى عالم له تاريخ، ومن هذه الزاوية تقال العلمانية على العالم الزمانى والنسبى، أى المتحرر من الصيغ المطلقة. هذا عن المعنى اللغوى للعَلمانية فماذا عن قصتها؟ بداية قصتها فى القرن السادس قبل الميلاد عندما أعلن الفيلسوف اليونانى فيثاغورس نظرية دوران الأرض مع تحذيره لتلاميذه من إفشاء هذه النظرية، وقد كان محقًا فى هذا التحذير لأنه مجرد أن تخلى تلاميذه عن هذا التحذير وأفشوا النظرية أحرقت الجماهير الدار التى كان يجتمع فيها فيثاغورس مع تلاميذه، وقيل إن فيثاغورس لم يصب بضرر لأنه كان متغيبًا عن الدار يوم الحريق. وفى القرن الخامس قبل الميلاد تطور معنى العَلمانية عند الفيلسوف اليونانى بروتاغوراس، إذ قال: «إن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا»، ورتب على هذا القول نتيجة مهمة وهى أن الإنسان عاجز عن معرفة الحقيقة المطلقة، أو بالأدق عاجز عن معرفة أى حقيقة فاتهم بالإلحاد وحُكم عليه بالإعدام وأُحرقت مؤلفاته ولكنه فر هاربًا، ومات غرقًا أثناء فراره. وفى القرن السادس عشر، أى بعد عشرين قرنًا من الحكم بالإعدام على بروتاغوراس نشر العالم الفلكى البولندى نيقولا كوبرنيكس كتابه الشهير المعنون «عن دوران الأفلاك» دلل فيه على دوران الأرض، وبالتالى على عدم مركزيتها للكون، وكانت لديه قناعة- وهو يحتفظ بسرية هذا الكتاب الذى قضى فى تأليفه ستة وثلاثين عامًا- بأن أشخاصًا سيطالبون بإعدامه هو وأفكاره، ولكنه كان على وعى بأن عقله يجب ألا يذعن لعقول الدهماء. وفى 24 مايو 1543 جاءته نسخة مطبوعة من كتابه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وفى 5 مارس 1616 قررت محكمة التفتيش فى روما تحريم كتابه من التداول بدعوى أنه كافر. ثم جاء جاليليو وأعلن انحيازه لنظرية كوبرنيكس، وفى عام 1632 نشر كتابه المشهور المعنون «حوار حول أهم نسقين فى العالم» الذى يدحض فيه نسق بطليموس وفكرته المحورية أن الأرض هى مركز الكون وأن الأفلاك هى التى حولها، ويدعو إلى نسق كوبرنيكس، فصودر الكتاب واستدعى جاليليو إلى روما للمثول أمام ديوان التفتيش لمحاكمته فأنكر وأقسم وهو راكع على ركبتيه، ثم وقّع بإمضائه على صيغة الإنكار والقسم، ويُحكى أنه بعد التوقيع ضرب الأرض برجله وقال فى صوت هامس «ومع ذلك فهى تدور». ومن بعد جاليليو جاء الفيلسوف الإيطالى جيوردانو برونو، كان يعتقد فى نسبية المكان والحركة والزمان فانتهى إلى أن الإنسان ليس فى إمكانه الوصول إلى يقين مطلق، ومن هنا كان الميسور عليه أن يدافع عن نظرية كوبرنيكس القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس، وبالتالى فإنها لم تعد مركزًا للكون فأعدم حرقًا من قبل السلطة الدينية. والسؤال إذن: لماذا تعتبر نظرية «دوران الأرض» عن كوبرنيكس هى بداية العلمانية فى القرن السادس عشر أو بالأدق فى عام 1543 وهو عام صدور كتاب كوبرنيكس؟ لأن هذه النظرية تعنى أن الأرض لم تعد مركزًا للكون، وعندما لا تكون الأرض مركزًا للكون لا يكون الإنسان بدوره مركزًا للكون، وعندما لا يكون الإنسان كذلك فلن يكون فى إمكانه امتلاك الحقيقة المطلقة، ويترتب على ذلك أن يكون الإنسان محكومًا بما هو نسبى، وحتى لو تطلع إلى اقتناص المطلق فلن يكون فى إمكانه اقتناصه، ومع ذلك فإن الإنسان لن يتوقف عن توهم تحقيق اقتناصه، ومن هنا كان تعريفى للعَلمانية بأنها «التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق». ويترتب على هذا التعريف ثلاث نتائج: النتيجة الأولى، أن مَنْ يؤيد نظرية دوران الأرض هو علمانى بالضرورة، وأن مَنْ يرفض العلمانية يرفض دوران الأرض بالضرورة. النتيجة الثانية، أن القول بأن العلمانية هى فصل الدين عن الدولة هو قول فى حاجة إلى تصويب لأن هذا الفصل معلول للعلمانية التى هى العلة فى هذا الفصل، ومعنى ذلك أنه عندما يكون أسلوب تفكيرك علمانيًا يكون فى إمكانك قبول فصل الدين عن الدولة وعكس ذلك ليس بالصحيح. ومن هنا يمكن القول بأن العلمانية أسلوب فى التفكير قبل أن تكون أسلوبًا فى السياسة.