3- محمد محمود شعبان .. «بابا شارو» قلت صباح الخير، مع أننا كنا بعد الظهر، تمتم بعضهم ولم يعبأ معظمهم، كانوا سبعة لم أتعرف علي وجه أي منهم.. إذن فهي لجنة تحقيق من خارج المبني، يا لطيف لم أرتح أبدا لنظراتهم الفاحصة، لكنني جلست فور أن طلبوا إلي ذلك، لم أكن قد أكملت ثماني سنوات في صوت العرب لكنني تمكنت بكل هدوء وثبات أن أقنعهم أن المصيبة التي استدعت حضورهم للتحقيق معي، هي مجرد خطأ تقني خارج عن إرادتي، بل إنني تمكنت من تبرئة المساعدة الفنية «عواطف» لأن اليوم هو الاثنين يوم صيانة استديو صوت العرب، ولقد تسلمت الاستديو قبل الواقعة بعشر دقائق فقط. في اليوم التالي مثلت أمام الأستاذ محمود محمود شعبان في مكتبه بوصفه رئيس الإذاعة في ذلك الوقت.. دخلت متهللة، بصراحة كنت سعيدة جدا، هذا بابا شارو الذي طالما تعلقت ببرامجه منذ وعيت الاستماع للراديو، وهو بابا شارو الذي تدربت علي يديه في معهد التدريب ولعل التقديرات المرتفعة التي أعطاها لي أفهمتني درجة رضا مطمئنة، كما أنها ساهمت في كوني الأولي علي الدفعة، وهو رئيس الإذاعة الذي لا نلقاه إلا مصادفة سعدت بها أكثر من مرة، ولأنه قليل الكلام خفيض الصوت لم يكن يزد علي المصافحة الحارة و«سمعت برنامجك امبارح.. برافو».. قلت في نفسي سأشرح له وسيفهم أن الخطأ لم يكن من جانبي لكنه بادرني فور أن جلست «خمسة وأربعين ثانية ضحك علي الهواء يا مرفت» أجبته بكل هدوء.. أنا لم أكن علي الهواء.. فتح وإغلاق الميكروفون ليس بيدي.. كل ما عندي في الاستديو هو الضوء، إن كان الأخضر فلست علي الهواء، يعني أقدر أتكلم أو أضحك أو أي شيء.. لكن إذا ظهر اللون الأحمر فهذا معناه أنني علي الهواء كان ينظر إلي محدقا فأردفت «هو نفس نوع الاستديو الذي تعمل فيه حضرتك أثناء إخراج ألف ليلة وليلة»، المسألة مختلفة تماما عن استديو الشريفين، هناك كان المذيع عنده إمكانية أن يفتح أو يغلق الميكروفون لنفسه وأتصور أن عطلا حدث فترك الميكروفون مفتوحا بينما اللمبة أمامي خضراء، بدا أنه فهم وصدق، ثم قال لي وأنا أهم بالانصراف، «لازم تعرفي إن الضحك هو اللي أنقذك ماحدش قدر يعرف كنت بتقولي إيه..» لكنني كنت أعرف الكلام الذي نطقت به، وبأعلي صوت وبكل شماتة في كل الحكام العرب الذين شتمهم المتظاهرون المشيعون لجنازة ضحايا الطائرة الليبية و1972 في صباح ذلك اليوم كانت نوبة عملي في الاستديو تبدأ في العاشرة وتنتهي في الواحدة والنصف.. في حوالي الحادية عشرة ورد تعديل في البرنامج يفيد بالانتقال إلي إذاعة خارجية لنقل وقائع جنارة ضحايا حادث تحطم الطائرة. لم تكد الإذاعة الخارجية تبدأ حتي بدأنا نتبين هتافات واضحة تصب الشتائم واللعنات علي الحكام العرب، نظرت إلي المساعد الفني عبر الحاجز الزجاجي الفاصل بيني في استديو الإذاعة وبينه في حجرة التحكم الهندسي، رفع يديه ملوحا بهما في الهواء تعبيرا عن العجز التام فهو لا يستطيع أن يقطع علي الإذاعة الخارجية إلا إذا تلقي تعليمات رسمية من الجهات المختصة.. المهم أن هذا ما حدث بعد وقت لم يكن طويلا ولكنه كان كافيا لتسمع الدنيا كلها أنواع الشتائم التي نطق بها المتظاهرون.. واصلنا بعد ذلك إذاعة البرامج وفق ورودها علي البرنامج اليومي ولكنني كنت متشوقة لوصول زميلي الذي يتسلم العمل عند انتهاء نوبتي، المسألة أنني كنت «حاموت احكي»، ولقي حكيت وبكل انفعال.. فما إن دخل الزميل عباس متولي الاستديو حتي أمطرته بالأنباء، هو يخبط رأسه بيده وأنا أواصل الضحك والحكي وغادرت الاستديو فور بداية دقات الساعة لأتركه يقرأ نشرة الأخبار.. وكنت بالطبع متشوقة لأن أحكي لآخرين من زملائي ربما لم يتابعوا الإذاعة الخارجية، ولكنني فوجئت بمن يطلب إلي التوجه إلي مكتب الأستاذ عادل القاضي الذي كان يومها يقوم بعمل مدير صوت العرب لأن الأستاذ سعد زغلول نصار كان خارج البلاد، سألني وحكيت كما حكيت للجنة التحقيق بعد حوالي ساعتين ولبابا شارو في اليوم التالي.. يعرف أبناء جيلي «بابا شارو» ببرنامج الأطفال الذي كان الأول والأخير من نوعه في الإذاعة المصرية، ثم بعد ذلك بأنه مخرج ألف ليلة وليلة والأغاني للأصفهاني، أما الحكمة في الإدارة فليس أدل عليها من طريقته في إدارة تلك الأزمة، فلو كان الجالس مكانه علي مقعد رياسة الإذاعة أحد المذعورين من السلطة لاختلفت النتائج تماما.. كل ما فعله أنه أبعدني عن الإذاعة علي الهواء لمدة شهرين بينما سمح باستمراري في تقديم برنامجي الأسبوعي «ربما لأنه يسجل» المهم أنه فعل ذلك بتعليمات شفهية لرئيس صوت العرب، ولقد أثارت قراراته دهشة الجميع، فقد كنا علي مسافة شهور قليلة من حملة الإبعاد التي شملتها «ثورة التصحيح» وظن كثيرون أنني سألحق بالمستبعدين، ويبدو أنني كنت قاب قوسين أو أدني لولا تماسك بابا شارو.. أو ليس هو الذي تماسك من قبل وقال للدكتور عبدالقادر حاتم وزير الإعلام من 1960 – 1965«لا.. لا ينفع». يقول الراوي إنه في أواخر الخمسينيات تقرر إرسال محمد محمود شعبان في بعثة لدراسة التليفزيون وفور عودته من البعثة طلب إليه الدكتور عبدالقادر حاتم الاستعداد لأنهم يريدون افتتاح التليفزيون المصري في غضون ستة أشهر، لكن بابا شارو طلب إمهاله عامين ولما رفض الطلب اعتذر عن المهمة وقبع في مكتبه لما يزيد علي العامين، وهكذا امتنع عن المناصب أو منعت عنه، لكنه واصل دوره كمعلم في معهد التدريب الإذاعي وبعد فترة عاد ليواصل حلقات ألف ليلة وليلة والأغاني للأصفهاني ثم عُين رئيسا للإذاعة (7/4/1972).. والمهم أنه رجل يعرف أنه صاحب دور ورسالة، وهو قادر علي أن يلتزم بما يراه صوابا غير عابئ بالنتائج. ولقد صدرت كتابات كثيرة ترصد الألف حلقة من ألف ليلة وليلة والثلاثمائة حلقة من الأغاني للأصفهاني وكذلك البرامج الغنائية التي قام بإخراجها مثل الراعي الأسمر وعذراء الربيع وأغاني الأطفال كعيد ميلاد أبوالفصاد وأنا الدبة دبدوبة وحكايات بطة وأخواتها الستة وبكير بياع الفطير، وبالمثل تجدون علي «اليوتيوب» أحاديثه القليلة لبعض برامج الإذاعة والتليفزيون.. كل ذلك سهل قريب المنال، لكنه لا يفك أسرار تشبثه بمنهجه في الإخراج، قراءة النص ليتعرف كل ممثل علي دوره ثم قراءة ثانية يحدد لكل مذيعة الأداء التي يريدها.. ثم قراءة ثالثة لتجويد الأداء ثم دخول الاستديو حيث يكون الأداء بمصاحبة المؤثرات الصوتية، ثم يعيد التجربة للتجويد ثم تبدأ الإذاعة علي الهواء مباشرة في حالة برامج الأطفال، أو يبدأ التسجيل الفعلي إن كانت الحلقة من برنامج غنائي أو تمثيلي. وفي حجرة التحكم الهندسي، يحبس الجميع النفس، ومرة بعد مرة، عزز النجاح لبابا شارو مكانة وانبهارا غير مسبوق حتي أنه كان إن لاح بجسمه الضئيل في الممر المؤدي للاستديو يتراجع الموجودون باتجاه الحائط يكادون يلتصقون، وقد علت الوجوه ابتسامة من يحسد نفسه أن حظي بالنظر، وفي قلبه يدعو للمبدع بابا شارو بدوام التوفيق.. وما إن يدخل الاستديو حتي ينصرف الجميع من المنطقة احتراما وإجلالا لما يتم داخل استديو بابا شارو من إبداع.. أما دخل الاستديو، فكأني به يقود الممثلين خطوة خطوة علي طريق من التركيز عميق حتي يصل بهم إلي مراتب من الصفاء والدقة توحدهم بعناصر الكون من حولهم ويكون بذلك قد بلغ ذري من الرفعة والتماسك لا يمكن أن تهزها ترهات أي صاحب سلطة حتي لو كان وزير إعلام.