في العقود الماضية.. شهدت الدراما التليفزيونية والسينما المصرية عددا من القضايا التي وصلت إلي ساحات المحاكم!! بل تفاقمت الأمور وازدادت تعقيدا عندما وصل الأمر للتظاهر ورفع اللافتات المنددة بتلك الأعمال الفنية التي تتناول الجوانب السلبية لبعض المهن مثل الممرضات والمحامين علي سبيل المثال لا الحصر. الغريب واللافت أن تلك الظاهرة امتدت لتشمل العديد من مسلسلات رمضان الجاري، من بينها مسلسل "زهرة وأزواجها الخمسة" للفنانة غادة عبد الرازق، ومسلسل "بالشمع الأحمر" للنجمة يسرا بالاضافة للعديد من الأفلام من بينها: "اللمبي 8جيجا" و"كلمني شكرا" ومن قبل "الافوكاتو" للفنان الكبير عادل إمام. تري ما الأسباب الحقيقية وراء تلك الظاهرة؟ ولماذا كل هذا الغضب والضجيج؟ وهل هناك الآن في مصر مهنة تخلو من الفساد؟ وهل الفن انعكاس لما يشهده المجتمع؟ وما حدود الإبداع؟ في التحقيق التالي نحاول الإجابة عن تلك الأسئلة من خلال كوكبة من الفنانين والسينمائيين والنقاد. سمعة مصر المثير للدهشة أن نقيب الأطباء د. حمدي السيد ونقيب التمريض "فتحي البنا" قد طالبا بوقف عرض مسلسل "زهرة" وفيلم "كلمني شكرا" لما يحويه من ألفاظ لا ترق لمستوي المهنة، كما طالبا أنس الفقي وزير الإعلام بالتصدي لمثل هذه الأعمال التي تنال من تلك المهنة وتقدم صورة مشوهة لملائكة الرحمة!! فضلا عن أن مجلس نقابة التمريض قرر عقد اجتماع طارئ تمهيداً لاتخاذ قرار بمقاضاة منتج المسلسل لوقف عرض المسلسل، كما رفع المحامي نبيه الوحش دعوي قضائية يتهم المسلسل بالإساءة للدين الإسلامي! في السياق ذاته اعترض العديد من الأطباء الشرعيين علي مسلسل يسرا "بالشمع الأحمر" وتقدموا بمذكرة لرئيس قطاع الطب الشرعي السباعي أحمد السباعي طالبوا فيها بوقف عرض المسلسل!! من ناحية أخري أقام أحد المحامين دعوي أمام محكمة القضاء الإداري ضد وزير الثقافة لوقف عرض فيلم "اللمبي8جيجا" بسبب إساءته للمحامين والقضاة. وقد تعرض فيلم "الأفوكاتو" لذات المصير عندما تقدم حوالي 150 محاميا بدعوي ضد صناع العمل، مطالبين بوقف عرضه لأنه يصور رجال القضاء والمحامين بصورة ليست لائقة، بل وذهبوا إلي أن الفيلم يسيء إلي سمعة مصر!! رؤية قاصرة يقول المخرج السينمائي هاشم النحاس: ليس من المعقول أن أي عمل درامي يتناول مهنة من المهن أو شخصية تمثل مهنة ما، وتظهر بعضا من جوانبها السلبية، أن يتم اتهام العمل بالإساءة إلي المهنة!! وفي تقديري أنها نظرة قاصرة لو طبقت فلن نري أي عمل من الأعمال الفنية علي الشاشة، ذلك لأن تلك الأعمال تهتم بإبراز القصور في بعض الشخصيات والظواهر الاجتماعية، بهدف نقدها من أجل تطور المجتمع. وأري أنه من دون السخرية من تلك النقائص في الشخصيات أو بعض المظاهر الاجتماعية لا يمكن ضمان ارتقاء ونهوض المجتمع، فمن خلال هذا النقد وما يدور حول تلك الظواهر من مناقشات سواء معه أو ضده يحدث التنوير. أما الاتجاه نحو مصادرة العمل الفني أو اتهامه أخلاقيا أو دينيا أو مهنيا، فهذا أمر لا يدل إلا علي تخلف اجتماعي وثقافي من شأنهما إعادتنا للوراء. حرية الخيال «لا توجد محاذير في الفن» هكذا تحدث الفنان جميل راتب وأضاف أن الحرية تسمح بتعدد الآراء والاختلاف، وواجب الدراما مناقشة جميع العيوب والسلبيات في المجتمع، وعرضها بذكاء حتي يتم القضاء عليها تماما. في نظري إذا تعرض عمل ما للنقد والاختلاف فيجب أن يتم التصدي له ولأفكاره من خلال عمل فني آخر يحمل وجهة نظر مغايرة لما قدم. فليس من العيب الإشارة للأخطاء والسلبيات التي تظهر في المهن كافة. الدراما الجادة يؤكد الناقد السينمائي د. أحمد رأفت بهجت ضرورة الموضوعية في تقديم جميع القضايا الشائكة بأسلوب فني راق يحمل سمات الدراما الجادة، وبالتالي يستطيع الكاتب مواجهة أي احتجاجات، طالما اعتمد علي المنطق في المعالجة، وعكس رؤيته بأسلوب فني بعيدا عن المزايدة. فلا يحق لأحد أن يعترض علي أي سلبيات في أي شخص ينتمي لأي نقابة طالما أن الكاتب اعتمد علي رؤية فنية غير مستفزة وليس المقصود منها التصيد لنقابة ما، وإنما تناول بعض السلبيات وإلقاء الضوء عليها، من أجل إعادة تقييمها، وهذا هو هدف أي كاتب. خاصة أن كل سلبية ليست هي القاعدة في أي مهنة، ولكن تحويل السلبيات إلي قاعدة من شأنه أن يدخلنا في دوامات، علما بأن هناك بالفعل ذلك النموذج من بين الممرضات اللائي تقبلن الرشوة والبقشيش، وفي الوقت ذاته هناك ممرضات تتمتعن بالنزاهة والشرف، لذا يجب أن نتعامل مع السلبيات باعتبارها استثناء وليست قاعدة، وإذا استفحلت تلك السلبيات، علينا أن نرفع السلاح من أجل مواجهتها بمنتهي الحزم والصرامة. الفن الحقيقي من جهتها وصفت المونتيرة والناقدة صفاء الليثي مسلسل "زهرة وأزواجها الخمسة" بالعمل الرديء الذي لا علاقة له بالفن من قريب أو بعيد، وانه ينطوي علي الكثير من الفجاجة، وتري انه ليس به مصداقية ولا يخضع لأسس فنية، وتقول: لو كان العمل جيدا لكان فرض نفسه علي المشاهدين، فأي شخصية درامية بها الجانبان السلبي والايجابي، بالإضافة إلي انه لو كان هناك عمل جاد فيه فن حقيقي لكان خلق حالة من التوازن وهذا بالطبع مسئولية الكاتب إلي حد بعيد، فإذا كان هناك عمق في التناول والكتابة فسوف يفرض الاحترام علي العمل، وهو ما لم يحدث. آداب المهنة من ناحية أخري أكد أحد رجال القضاء السابقين أن لكل مهنة فائدة اجتماعية، ولها تقاليد وقيم وأخلاقيات سواء في القضاء أو المحاماة أو التمريض وهو يسمي بآداب المهنة. وما يحدث من سلبيات في أي من تلك المهن يكون مسئولية الحكم والنظام السياسي القائم، في ظل الظروف الاجتماعية الراهنة التي تخلو من العدالة والمساواة، والتي غالبا ما تؤثر سلبا علي فئات الشعب المختلفة، المؤكد أن كل مهنة بها الصالح والطالح أيضا. أما حالة الغضب التي سادت بين الممرضات عقب عرض أحد المسلسلات جاءت ذلك لأنهن شعرن بالإهانة دون أن يدري أحد شيئا عن أوجاعهم ورواتبهم المتدنية، لذا رأوا انه لا يوجد إنصاف في التناول أوالطرح. وفيما يخص التناول الدرامي فلا يوجد ثمة ما يحول دون التعرض لأي مهنة بالنقد أو عبر إبراز الجوانب الخاصة بها سواء كان سلبا أو إيجابا، وإذا كان التناول سلبا فيجب أن يكون داخل الإطار الاجتماعي للظاهرة.