حين وصل الطفل «عادل» إلي بيت جدته وجده، وجد نفسه بعيدا عن أبويه اللذين لا يعرف غيرهما، لكن الجدة أخذت تلاطفه وتهتم به واعتبرته هدية الله إليها بعد وحدة طالت هي والجد.. وكثيرا ما اندهش «عادل» من محبة جدته فكان يسألها ببراءة ومكر قديش اتحبني.. وهو ما يعني بالعامية: قد إيه بتحبيني؟.. قصة «عادل» كانت محور الفيلم الجزائري الجديد (إنتاج 2011) للمخرجة فاطمة الزهراء زموم والذي كان فيلم الافتتاح لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط الذي انتهت دورته رقم 28 مساء أمس – الثلاثاء – وكان «قديش اتحبني» أيضا ضمن أفلام المسابقة الرسمية للمهرجان بين 13 فيلما من بينها أفلام من تونس والمغرب أيضا.. وأهمية الفيلم تأتي من تعبيره عن قضية عامة شديدة الوضوح في عالميتها، وهي قضية انفصال الزوجين وتداعياتها، وعالمية القضية لا تنفي خصوصيتها في المجتمعات المتشابهة ومنها مجتمعاتنا العربية، وحين سألت المخرجة فاطمة عن جدارة القضية بالتناول أكدت لي في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم في المسابقة وأدارتها كاتبة هذه السطور، أكدت أن نسبة الطلاق بين الأزواج في مرحلة الشباب مرتفعة في الجزائر، لكنها حين علمت بأنها تعدت في مصر نسبتها الثابتة واقتربت من نسبة 50% انزعجت كثيرا، ومن هنا يبدو فيلمها مهما لتعبيره عن واقع تزداد مرارته في السنوات الأخيرة هنا.. وهناك، لكن هذا لا يعني تقديم فيلم يزعج المشاهد أكثر، وإنما يدفعه للفهم والتأمل. وطرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، ولعل هذه النوعية من الأفلام التي تدفع مشاهدها إلي تشغيل مخه والتفاعل معها بشكل إيجابي هي المطلوبة الآن لأن تشغيل المشاعر هو الأسهل والأكثر خطورة، من هنا جاءت معالجة فاطمة الزهراء لقصة وسيناريو فيلمها كعزف لفرقة موسيقية متناغمة في مقطوعة كتبها المؤلف لنفسه.. في الفيلم نحن أمام قصة «عادل» الطفل الوافد علي منزل جديه، لكن وجوده يعني حركة في اتجاهين مختلفين، الماضي والمستقبل، وحيث نعرف من خلاله كيف أحضره أبوه وقال له سوف نتركك أياما عند جدك، ولكن الأيام تطول والأب غائب، أما الأم «صفية» الشابة فقد طلبت من جدته أن تراه، وأن تجلس معه وحدهما في الحديقة المواجهة للمنزل، وفي هذا اللقاء الدافئ بكت الأم وقالت لعادل لم أشأ أن أتركك ولكنني سوف أحضر لآخذك بعد التفاهم مع أبيك.. وقبل أن تكمل كلامها جاء جده غاضبا وأخذه طالبا منها أن تحضر للمنزل بدل الشارع، وبذكاء يدرك عادل ما لم يقله الأبوان، ولا الجدان، فالخلاف بين أبيه وأمه يكبر، والحياة تتغير بالنسبة إليه فقد مدرسته الكائنة بجانب منزله ولم يعد إليها بالطبع فأمه كانت توصله إليها، ولكنه وجد أصدقاء في الشارع، وأصبح يصحب جده لحديقة الحيوان لمقابلة أصدقائه ويصحب جدته للتسوق، ويصحبها وهي تطهو الطعام وتعلمه سر الصنعة، لكنه لم يفهم لماذا ثار الجد علي الجدة حين علم بذلك قائلا «إن الرجل رجل لا يدخل المطبخ ولا يمارس أعمال النساء» وحذر المرأة من هذا، إلا أن جدته الحنون لم تكترث ولم ترفض طلبه «دخول السينما» التي لم تدخلها في حياتها من قبل لكنها أوصته بكتمان الأمر عن الجد، الذي انتظر طويلا «رشيد» ابنه الأكبر والد «عادل» لكي يعرف منه ما الذي ينويه بشأن زوجته وابنه، ويقرر الجد أن يجمع شمل الاثنين علي عشاء لعله يوفق بينهما ويوقف عملية الانفصال لكن «رشيد» يرفض بعجرفة شديدة التفاهم ووضع قواعد جديدة للحياة المشتركة وهو ما يدفع «صفية» للغضب والرفض.. وينتهي العشاء بفراق مؤكد بينهما ينسحب علي «الطفل» الذي شعر باليتم وبأنه فقد إلي الأبد الأم التي أحبها والبيت الذي كان له فيقع مريضا ويحتار الأطباء في علاجه وأيضا الجيران الذين أحبوه وأصبح صديقا لهم ومنهم «ريم» التي كانت تساعده في المذاكرة، وتبذل جدته جهدا أخيرا من أجله حين تتفق مع حارس حديقة الحيوان علي أن يشاركه العناية ببعض الحيوانات التي يحبها، فقد كان «عادل» متعلقا بعالم الطير والحيوان يجلس ليراقبها بالساعات ويطعمها ويتأملها.. وكانت جدته العجوز الذكية لا تنام من أجله.. ولا تكف عن إبداء حبها بأسلوب عملي ساهم في دفعه للنضج قبل الأوان.. وحيث ينتهي الفيلم به وهو ذاهب إلي مدرسته الجديدة، وحده بدون الأم.. وبدون الجد أو الجدة، فقد كبر الطفل وتعلم الكثير جدا مما لن يتعلمه في كتب المدرسة.. والفيلم هنا يطرح بجانب قضية عادل قضايا وأفكارا عديدة تهمنا أو تؤثر فينا كمجتمع وكأفراد بأشكال مباشرة وغير مباشرة فانفصال الأبوين يطرح علي الأطفال بدائل عديدة منها رعاية الأسرة الكبيرة، أو الأجداد كما رأينا في الفيلم، لكنه أيضا يطرح الضياع في حالات غياب هذا البديل ويطرح التحول من عالم البراءة إلي الإجرام في حالة تخلي الكل عن أطفال الطلاق، أيضا فإن صورة الجدة والجد في الفيلم لابد أن تدفعنا للتساؤل حول مدي انتشارها الآن، وهل مازال الجيل القديم هو الملاك الحارس والراعي لأبنائه وأحفاده؟.. أم أن ما حدث في مجتمعاتنا من متغيرات أصاب الأجداد في مقتل ودفعهم للتخلي عن أدوارهم الجميلة القديمة، ثم ذلك الانسجام الخارجي للجد والجدة بينما يرفض هو بعنجهية ذكورية قديمة أن يتعلم حفيده الطبخ وترتيب المنزل «لأنه ليس امرأة».. أنه فيلم لا يدفعك لتلهث وراءه بفعل حبكته الدرامية أو عقدته اللاشعورية ولكنه يدخل إلي تلافيف عقلك لكي تحمل قضيته وتفكر فيها بهدوء وربما تستدعي ما تعرفه من حالات الأطفال مثل «عادل» قريبة منك أو بعيدة فتحية للمخرجة مرتان، مرة للموضوع.. ومرة للصورة والمعالجة الفنية.