بعد خروجه من بيروت في صيف 1982 أصدر حلمي سالم كتاباً عنوانه “الثقافة تحت الحصار” (1984) يروي فيه تفصيلات من الحياة الثقافية لمدينة بيروت في اثناء الحصار الإسرائيلي. وعندما وصلني الكتاب أثار فيَّ حنيناً إلي أيام الحصار، وإلي الناس المحاصرين الذين تناثروا هنا وهناك مثل أيدي سبأ، وعلمت ان حلمي ما زال يقيم في بيروت. وحين أصدر حلمي “سيرة بيروت” في سنة 1986 علمت ان هذه المدينة ما برحت تقيم فيه وتسكن في شرايينه ولا تبرحها. ومرَّ حين من الدهر لم نلتق البتة، فقد تباعدت بيننا الدروب وافترقت الخطي إلي ان التقينا، بعد نحو ربع قرن، في بيروت مجدداً. وانهمرت الذكريات كأنها البارحة. فاللقاءات في مثل هذه الحال تستدعي الذكريات بقوة، وتتسربل بأسماء من رحل ومن بقي، وأين صاروا. التقيت حلمي سالم، أول مرة، في مجلة “بلسم” التي كان يشرف عليها الروائي والناقد الفلسطيني عبد الرحمن بسيسو، وكان يكتب فيها “أحمد المصري”، وهو الاسم المستعار لأحمد بهاء الدين شعبان أحد قادة الحركة الطالبية المصرية في أوائل سبعينيات القرن المنصرم الذي خصّه أحمد فؤاد نجم بالذكر في قصيدته المشهورة “أنا رحت القلعة وشفت ياسين”. ثم جمعتنا مجلة “المصير الديموقراطي” التي كانت لنا مقهي اجتمع فيه مصريون أمثال حلمي سالم وسلوي بكر وأحمد بهاء الدين شعبان، وأردني ذو هوي مصري هو غالب هلسا، وفلسطيني امتهن الإقامة في مصر هو عبد القادر ياسين، وكنت أشرف علي الباب الثقافي في هذه المجلة التي ما إن صدرت في سنة 1980 حتي كشفت سرها، فهي مجلة فلسطينية لبنانية بنكهة مصرية. كان حلمي مفتوناً بأدونيس… وأنا كذلك. وكنا بهذا الافتتان نخالف الذائقة الشعرية الفلسطينية السائدة، واللغة الشعرية الطاغية التي “تلعق زيت السلاح حين تعطش، وتأكل لحم الدبابات حين تجوع”. ولما عاد إلي مصر قُيض له، بمخزونه الثقافي الذي حمله معه من بيروت، ان يكون له شأن مهم في حركة الشعر المصري الجديد، فأصبح حلقة مهمة في سلسلة طويلة ضمت إليها عدداً من الشعراء الشبان امثال حسن طلب ورفعت سلام ووليد منير، وحاولوا معاً ايجاد صوت شعري متميز. وفي هذا الميدان كان حلمي سالم محفزاً شعرياً لامعاً في مصر، ومحرِّكاً نشطاً للشعر الجديد (أي قصيدة النثر) الذي أدار ظهره، جزئياً، لصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، واختطّ لنفسه طريقة في الشعر تنهل من جيل الريادة (عبد الصبور وحجازي وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر) وتسعي، في الوقت نفسه، إلي تجاوزه إبداعياً. وكان لحلمي سالم ورفاقه تأثير ظاهر في جيل الثمانينيات من شعراء مصر أمثال محمود قرني وعماد أبو صالح وايمان مرسال وأحمد الشهاوي وغيرهم. حلمي سالم ليس مجرد شاعر من شعراء قصيدة النثر. إنه شاعر مكافح ومشاكس وتقدمي ومناضل في سبيل الديموقراطية ومناوئ للاستبداد. لهذا حاربته المؤسسة السياسية، وأرادت المؤسسة الدينية أن تنال منه، فلم يكترث. وحين نشر قصيدة “شرفة ليلي مراد” في مجلة “إبداع” في شتاء 2007 اعتقدت الجماعات التكفيرية انها اصطادته، فشنت حملة ضارية عليه، ورفع يوسف البدري دعوي ضده بتهمة الإساءة إلي الذات الإلهية… ولم يكترث. وطالب بعض أصحاب الأدمغة الجافة بسحب جائزة التفوق منه إلا إذا أعلن توبته… ولم يكترث. غير أن ما آلمه وأصابه بالخيبة هو انفراط كثير من الشعراء والنقاد والأدباء من حوله، فلم يسانده إلا النفر القليل منهم حين كان يتصدي لعسف السلطات ولعهر الجماعات الظلامية وحده تقريباً. في تشرين الأول 2004 أصابته جلطة سببت له شللاً جزئياً. ولعل أحواله انتعشت حين لاحت بوادر الحرية في مصر. إلا أن فأله خاب مجدداً عندما تسيّدت الجماعات الإسلامية المشهد السياسي. وكانت الأمراض قد نالت منه، وتغلبت عليه، فأراح ركابه المتعب ومضي، بعدما ترك لنا صداقة لا تنتهي، وأثراً لا يُمحي، وذخيرة صنعها بأصابعه، وشكّل قوامها بحروف الأبجدية وهي سبعة عشر ديواناً شعرياً وعشرة كتب نقدية وسجالية مختلفة، وسيرة عبقت بالصداقة المديدة والذكريات المنعشة.