عن روايات الهلال صدر للأديب قاسم مسعد عليوة رواية «الغزالة» وهي الرواية الأولي له بعد أربعة عشر عملاً ما بين القصة القصيرة والمسرحية نذكر منها «أنشودتان للحرب» و«الضحك» و«تنويعات بحرية» و«صخرة التأمل» و«غير المألوف» و«حدود الاستطاعة» و«وتر مشدود» و«الديداموني» وغيرها من الأعمال السردية علي مدار أربعين عامآً. حول الرواية وطرائق السرد بها والقضايا التي تناولتها كان ل «الأهالي» معه هذا الحوار : تبدو لغة الرواية مختلفة تماماً عن اللغة الروائية السائدة، بما فيها من حمولات رمزية تفتح أفقاً مختلفاً من الدلالات - حدثنا عن هذا الجانب؟ - اللغة بحر عميق في أغواره لآلئ وأصداف قد نظن أننا قد وصلنا إليها وجمعناها والحقيقة أن الكثير منها لم يكتشف بعد، وعن هذه الرواية - بالتحديد - فقد كانت اللغة بالنسبة لي تمثل هاجساً خاصاً إذ إن كتاباتي السابقة معروفة بميلها إلي القاموس الواقعي أحيانا، وأحيانا أخري إلي التعبيرات الشفيفة التي قد تتماس - أحيانا - مع لغة الرومانتيكيين. وواقع الأمر أنني اندهشت لما أقترفته أثناء كتابة هذه الرواية فقد كنت مشغولاً بالكتابة بأسلوب واقعي عن قاع الحياة في مدينة من المدن المصرية وهي «بورسعيد» إلا أنني فوجئت بأنني أنحي هذا المنحي الذي لم أكن استهدفه استهدافاً، حالياً استطيع تفسير هذه الحالة بأنها نوع من أنواع التطهر - لماذا؟ لأنني كنت منغمساً من خلال عملي الإداري بالحكومة في الأوساط الشعبية وقريباً جداً من قاع القاع في مدينة بورسعيد. ولعلي كنت أخشي - وهذا ما لم أدركه وقتها - أن تأتي روايتي علي غرار روايات شارلز ديكنز مثلاً لما وقفت عليه من مظاهر الفساد الاجتماعي الرهيب. هذه نقطة ، الثانية أنني كنت قد مرضت بداء القلب بالإضافة إلي أمراض أخري - فلعلها كانت كلمتي الأخيرة - وقتها كانت بمثابة «المانيفستو» الخاص بي والرسالة التي أوجهها للأحياء من بعدي. الجمال الصوفي - إلي هنا لم أتكلم عن اللغة، لكنني لاحظت أنني أكتب مجترحاً المنجز الجمالي الصوفي فخشيت أن أقع فيما يقع فيه المتعاملون مع هذا المنجز - بمعني أنني قد أتلبس حالة من حالات الصوفية، وهنا تكون هذه الصوفية صوفية زائفة لأنني لست صوفياً. هذه واحدة ، الثانية: أنني لم أتقنع بقناع الصوفية. متتالية قصصية من ناحية الشكل تبدو الرواية كمتتالية قصصية - من ناحية كثافة السرد، والوصف ، مع اختزال الأحداث ، إلي أي حد- من وجهة نظرك - استطاع هذا الشكل أن يقترب من البعد الروائي؟ - أولاً أحييك علي هذا السؤال لأنك وضعت إصبعك علي نقطة كانت تؤرقني كثير فبالفعل أنتويت أن أصنفها علي أنها «متوالية قصصية» لمجموعة اعتبارات منها ما تفضلت بإيضاحها في السؤال كاختزال الأحداث وكثافة السرد، وأضف إليها - أيضاً - أن البناء نفسه يعتمد تقنية التقطيع، بالإضافة إلي أنه بناء أفقي لكنها - في الحقيقة - رواية، وقد تناقشت مع بعض أصدقائي من الأدباء والنقاد التقليديين - إن صح التعبير - والحداثيين وانتصروا للرأي الذي يقول إنها «رواية» ، والحقيقة أنا رأيت أنها رواية بالمنطق الحداثي الذي خرج علي كل الأطر المألوفة وفك ما اعتاده قارئ الروايات. هي رواية لأنها تتضمن شخصيات وتتضمن أحداثا وهذه الشخصيات والأحداث تتحرك في أزمان وأمكنة وبين كل هذه العناصر علاقات . - إذن هي روايات لكنها رواية ذات حبكة بسيطة لأن الشخصيات الرئيسية قليلة، وإذا كانت هي تتبني تقنية أفقية في بنائها فهي أيضاً تسير علي نهج خطي - بمعني أن أول الرواية وهو أول له سابقة ابتداء غير مسبوقة في الرواية، وأن نهاية الرواية هي نهاية مفتوحة علي آفاق التأويل علي الرغم من أن البعض ربما نظر إليها بسبب البداية والنهاية علي أنها رواية مغلقة أو دائرية. ربما لم يعتد النقاد مثل هذا الشكل - لا أقول مثل القراء ولكن مثلي أنا أيضاً لكني أطرح المسألة للنقاش. من هنا كان إصراري علي ذكر عبارة «رواية غير مألوف الروايات.. رواية ككل الروايات» علي الغلاف بدلا من ذكر مفردات التجنيس المعروفة. تداخل الأنواع ولكن هذه العبارة تحمل دلالات كثيرة، ربما توقع القارئ العادي في حيرة، هل تري أن فكرة الجنس الأدبي أصبحت الآن - في ظل تطور الكتابة - منفتحة أكثر لما يمكن أن يسمي ب «تداخل الأنواع الأدبية»؟ - أظن أن السؤال يحمل الإجابة في طياته، لكن أسمح لي أن أتكلم - بعض الشيء - عن مكونات هذا السؤال ، بداية من هو «القارئ العادي» هل هو قاري الروايات تحديداً، أم أي قارئ آخر من قراء الصحف وغيرها. الحقيقة أن هذه الرواية مكتوبة للقراء كافة، أينما ووقتما كانوا، وكل قارئ وذائقته وقدرته علي التفاعل مع النص. ولعلك تندهش - ولا أري محلاً لهذا الإندهاش إذا أخبرتك أن نجاراً بسيطاً في مدينتي قرأ الرواية وأطنب في مديحها ، وسعي إلي ملاقاتي، ومثقفاً يحتل مكانة جيدة في مجتمع المثقفين أعترف أمام عدد من الأصدقاء بأنه لم يستطع إكمال الرواية لصعوبة اللغة، وأكاديمي مرمرق له كتاباته النقدية وإسهاماته في التراث هنأني علي رؤوس الأشهاد بما أخجلني حول اللغة واقتحام دروبها الصعبة بطريقة سلسة. هذه نماذج ثلاثة ممن قرأوا الرواية - كل وذائقته وتفاعله مع النص. - فيما يتعلق بجزئية التداخل بين الأنواع الأدبية - أنا واحد ممن يؤمنون بعدم وجود حدود بين الأنواع الأدبية المختلفة وأن التخوم التي قد يظن أنها تفصل ما بين نوع وآخر هي تخوم ودرر جراجة فالرواية فيها كثير من العناصر الموجودة في الدراما المسرحية والدراما المصورة، وتأخذ من تكنيك القصة القصيرة، وتأخذ من الشعر ، مثلما - تأخذ من المعمار والسينما، والنحت، والموسيقي .. إلخ. من هنا أعتقد أن هذه الرواية تكتسب شرعية أدبية حقيقية لأنها تعاملت مع كل هذه الأجناس لكنها مع هذا حافظت علي الخط الروائي وإن كان خطاً مغايرا للمألوف. حلم الرواية هناك عدد من كتاب القصة مصرون علي كتابة القصة - فقط وقد كنت منهم فلأكثر من 40 عاما في الكتابة القصصية جاءت هذه الرواية - ما الذي جعلك تتجه إلي الرواية؟ - بالفعل أنا كنت واحداً من الذين أخلصوا للقصة القصيرة أيما إخلاص، واعتقد أنني حققت - كما يقول الآخرون - بعض الإنجاز في هذا الميدان ، لكن في الحقيقة قبل انجرافي في كتابة القصة القصيرة كنت أكتب المسرحية ولي محاولات قديمة في الشعر لا أظهرها. لكني كنت أكتب المسرحية أساساً لكنني عرفت طريقي للقصة القصيرة من خلال حرب الاستنزاف، وبدأت تذاع لي هذه القصص من «البرنامج الثاني» منذ عام 1968، وفي عام 1970 بدأت نشر قصصي القصيرة نشراً ورقياً، ومع حرب الاستنزاف كتبت روايتين يمكن تصنيفهما نقدياً في إطار روايات الحرب. وبعد أن أنهيت خدمتي العسكرية كتبت رواية ثالثة كان عنوانها علي ما أذكر «تحت التمرين» ونشرت فصلاً منها في مجلة «أدب ونقد». ولكن إلي أين آلت هذه الروايات؟ - الروايتان الأوليان أحرقتا في المحرقة التي أشعلها أهلي في مكتبتي وكتبي عقب اعتقالي في عام 1974 خوفاً علي من أن أتهم بأي تهمة أخري بعدما رأوا أن الشرطة ورجال المباحث قد صادروا الكتب التي كانت موجودة في شقتي واستخدموها كدليل إدانة واتهام ، وهذه الكتب والكتابات التي أحرقوها لم تكن في شقتي ولكن كانت تشغل محلاً واسع المساحة أسفل العمارة التي نسكنها فقام أهلي بما لم تقم أجهزة الأمن خوفاً علي ابنها من بطشة السلطة. هذا عن الروايتين. أما الرواية الثالثة فقد كتبتها قبل أحداث عام 1977 وهي «تحت التمرين» فكانت قيد الاكتمال وبسبب حملات الاعتقال خشيت عليها من أن تقع بين أيدي البوليس، وقمت بتهريبها إلي أحد الأصدقاء، وكلما قمت باستردادها تأتي بطشة بوليسية أخري فأقوم بوضعها عند صديق آخر- وهكذا إلي أن ضيع أحد الأصدقاء جزءاً كبيرا منها ثم مات. ومعي الآن مخطوطة في طور المسودة لهذه الرواية - وهي كما يتضح كانت تتعامل مع المشهد السياسي لمصر في السبعينيات.