آسرةٌ هي بداية رواية " الهؤلاء" للأديب الراحل "مجيد طوبيا"؛ فهي تخلب لبَ من يهوى المفارقات الذهنية؛ إذ افُتتحتْ الرواية بشخصٍ بلا اسم قرأ كتاباً يكشف أنَّ دوران الأرض حول نفسها – وهي حقيقة علمية موضوعية – يحدث في اتجاهٍ مضاد لدوران عقارب الساعة، وهي اختراع بشري. إنَّ دوران الأرض عكس عقارب الساعة حقيقة واقعية أيضاً، لكن البطل لم يكن يعلمها. وقد خطَرَ له أنَّ هذا التضاد فأل سيء سوف ينتهي حتماً بنهاية مريبة؛ أخذ على عاتقه مهمة إصلاح الحال بحيث لا تخالف الأرض في دورانها أي ساعة من ساعات بني البشر. فدوران الأرض، السابق على اختراع الساعات، لا يمكن تغييره لكن دوران عقارب الساعة قابل للتغيير. وجد البطل الكتاب في دولة مُتخيَّلة نزل بها، وهو ليس من أهلها، لها لغتها الخاصة، تُسمى "أيبوط"، يحكمها رئيس اسمه "الديجم"، ويصفها بالديار المجيدة. يخوض رحلة مؤلمة لتنفيذ هدفه، يتكشف له فيها أن ما أسماها " ديار أيبوط المجيدة " تحكمها علاقات بيروقراطية من التعقيد في غاية لسلطة شمولية من الاستبداد في نهاية، أفرادها شوامل وشعبها هوامل. أفراد السلطة هم "الهؤلاء"، وهي كلمة يستعملها المثقفون للدلالة على رجال المباحث والمتعاونين معهم، وتسري الشائعات بأن نسبة المبثوثين من المخبرين بين المثقفين بالذات – فهم خطر على الاستبداد بما هم مساهمون في توجيه الرأي العام – تصل إلى الخمسين في المائة؛ من كل عشرة خمسة، ومن كل ستة ثلاثة، وهكذا.. وحدَثَ أنْ جلس اثنان معاً، فسأل أحدهما الآخر إن كان من الهؤلاء، فردَّ نافياً ذلك، فقال له: إذن فهو أنا! يرتدي الهؤلاء الساعات التي تدور في اتجاه مضاد لدوران الأرض في معاصمهم، يميزهم المثقفون بها، ويظنون أن بها أجهزة تسجيل دقيقة. لكن كيف لمن يريدون التجسس أنْ يتميزوا بعلامة واحدة يلاحظها الجميع؟ ربما هي حيلة مقصودة لإسكات المثقفين ولتشويشهم؛ حيث لو رأى أحدٌ منهم شخصاً يرتدي ساعة، حتى لو لم يكن من الهؤلاء؛ سيدرك أنه منهم؛ فيسكت. ولم الساعات بالذات؟ ربما لأن حركة عقاربها التي تدور عكس دوران الأرض تولد زمناً خاصاً بالسلطة؛ محاولة تغيير دوران عقارب الساعة ليطابق دوران الأرض إذن هي محاولة تغيير للسلطة نفسها، وكذلك محاولة تغيير السلطة المستبدة ستبدو كمحاولة تغيير دوران عقارب الساعة ليطابق دوران الأرض. في دولة "أيبوط"، تحت شمولية سلطة الهؤلاء، التي تُفقد الإنسان الشعور بالزمان والمكان والذات؛ لا يجد الفقراء قوت أولادهم، لكنهم لا يخرجون شاهرين سيوفهم على الأغنياء. ويفقد المثقفون دورهم في توجيه الرأي العام، ويسلمون بانعدام الدور الاجتماعي للثقافة في تغيير المجتمع؛ فيغرقوا في طلب الرفاهيات واللذات الجسدية، ويلجؤوا لجلسات النميمة عن الفضائح الجنسية للمشاهير والشخصيات العامة، هرباً من الحديث عن السلطة. ويتواطؤ العلماء مع الهؤلاء؛ فينعزلوا عن الناس في فيلات أنيقة، ويفقد العلم دوره الاجتماعي، وتنتشر الخرافات مدعيةً أنها تقوم على أسس علمية! ويلتحم الجماهير وينظمون أنفسهم ويمزقون حلوقهم بالهتافات والصراخ، لا للاعتراض على الهؤلاء؛ لكن لتشجيع فرق الكرة، وتنشغل الصحافة بهم ويهدد الهؤلاء من يحاول انتزاعهم من التسلية ليدفعهم للتفكير. من الممكن أن نقرأ رواية "الهؤلاء" في ضوء نظرية الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" عن علاقات السلطة المتداخلة وشموليتها، وآليات قمعها للأجساد بالمراقبة والمعاقبة؛ فالسلطة القامعة ليست في الحكم فقط؛ فهي في الثقافة والعلم والتعليم والفن والإعلام، في المستشفيات والسجون والمدارس. وفي مشهد القبض على بطل الرواية، لاشتباه السلطة فيه بعدما أثار قضية دوران عقارب الساعة المضاد لدوران الأرض؛ قال له الضابط "الوقت من ذهب" لكي يسرع ويأتي معه، فقال "كنت قد سمعت تلك الكلمة في المدرسة قديماً؛ فتوجهت معهم". رغم ذلك لم يلتفت "فوكو" – كما لاحظ الناقد البريطاني تيري إيجلتون – للجسد العامل تحت علاقات إنتاج السلطة الرأسمالية التي حللها. لكن ما تفعله السلطة بالجسد العامل نراه في رواية "الهؤلاء"؛ فعند دخول البطل السجن روى له زميله عن تجربته في أيام الحبس الأولى، وقال إنه كان لا يميز الليل من النهار، ورغم ذلك كان يهب مذعوراً في الصباح الباكر ظناً منه أنه سيتأخر عن العمل. انطلاقاً من اعتبار الأدب مرآة للواقع، وأن المرآة تُعكس فيها حروف الكلمات؛ استخدم مجيد طوبيا اسمه ببراعة فنية في رواية "الهؤلاء"، فالبلد في الرواية اسمها "أيبوط" وهي عكس كلمة "طوبيا" التي تعني في الفلسفة كل فكرة أو نظرية تسعى إلى المثل الأعلى ولا يمكن تحقيقها في الواقع، ورئيس دولة "أيبوط" اسمه "ديجم" عكس كلمة "مجيد"، والكلمة المعكوسة هنا تشير لمعنى معكوس لكلمة مجيد أيضاً. وانطلاقاً من أن الأدب – مرآة الواقع – له دور في كشف الحقيقة؛ تجاوزت رواية "الهؤلاء" أدب اليوتوبيا (المدينة المثالية الفاضلة) والديستوبيا (مثال المدينة الفاسدة) فتعالت على كليهما بوصف الدولة بكلمة "طوبيا" معكوسة دون حروف قبلها "أيبوط"؛ باعتبارها مدينة منافية للعلم الذي يسعى لامتلاك الحقيقة الموضوعية الواقعية. فالحروف المكونة لاسم الدولة واسم رئيسها معكوسة كعقارب الساعة التي تدور عكس دوران الأرض. ينحاز البطل للعلم، ويدين الدول التي تتحدث فقط عنه دون أن يدخل في تكوينها النفسي أو الحياتي، ويعتقد بأن تلك هي علة العلل؛ ف "أيبوط" بها بيوت ضخمة يسكنها أناس في ثياب عصرية وأفكار عتيقة متزمتة، الخارج براق والداخل كهف له سراديب مظلمة معنكبة. وهنا إشارة لعلاقة الدول العربية بالحداثة؛ فنحن نستورد منتجات الحداثة ونستهلكها، ونهرب من حقائق العلم الذي أنتجها لائذين بالمعتقد. بعدما يُقبض على البطل المتحمس للعلم للاشتباه به، يسير به مندوب الهؤلاء في جميع أقسام شرطة "أيبوط" للتحقق منه، في رحلة بيروقراطية تبدو لا نهائية، وعندما يصلان إلى القسم الأخير الذي يقع في الصحراء يرى البطل أحجاراً فوق الرمال، فيسأل المندوب هل هي قبور المشتبه بهم الذين دار بهم على أقسام الشرطة قبله؟ يراوغ، لكنه في نهاية الرواية يقول: نعم هي قبورهم، فيتردد صدى الصوت فاصلاً الضمير "هم" عن كلمة "قبور"، فالناس في "أيبوط" صدى للقبور الصامتة.