بكري : الجماعات الإرهابية تقود حملة لتشويه اتحاد القبائل العربية    رئيس دفاع النواب يهنئ البابا تواضروس والأقباط بعيد القيامة المجيد    الغرف التجارية: مصر تستهلك 175 طنا من الرنجة يوميا.. وتراجع الفسيخ ببورسعيد ل190 جنيها    مراعاة للأغنياء.. الحكومة تؤجل ضريبة أرباح البورصة للسنة العاشرة    مجلس مدينة العريش يشن حملة لإزالة المباني المخالفة    نميرة نجم: أي قرار للمحاكم الدولية سيؤثر على الحراك بالولايات المتحدة    روسيا تعلن تدمير قاعدتين للمسلحين في سوريا    بعد التتويج ببطولة إفريقيا لسيدات الطائرة.. الزمالك يتأهل لمونديال الأندية    عمر وردة: تزوجت من فتاة جزائرية منذ شهور لكي استقر    صلوات وزغاريد وفرحة.. آلاف الأقباط يحتفلون بعيد القيامة بقنا| فيديو    مصرع سيدة صدمها قطار ب سوهاج    بعد شائعات الانفصال.. مها الصغير تستعيد ذكرياتها مع أحمد السقا في الجونة (فيديو)    دعمتم مناقشة هذا الأمر | رمضان عبد المعز يوجه الشكر ل المتحدة    عرض قطري.. أول تعليق من مستشار الرئيس على تأجير المستشفيات الحكومية    مختلف عليه..ما حكم أكل الفسيخ في الإسلام؟    محافظ القاهرة يشهد احتفال الطائفة الإنجيلية بعيد القيامة نائبا عن رئيس الوزراء    أسامة كمال يُحيي صحفيي غزة: المجد لمن دفعوا أعمارهم ثمنا لنقل الحقيقة    قرار من القضاء ضد ممرضة ووالدها بتهمة قتل عامل بالمقطم    قتل «طفل شبرا الخيمة».. أوراق القضية تكشف دور تاجر أعضاء في الواقعة    تعرف على شروط التقديم لمدرسة فريش الدولية للتكنولوجيا التطبيقية 2024-2025    وزير الخارجية الأسبق: نتنياهو لا يريد الوصول لاتفاق مع حماس    قصواء الخلالي: العرجاني وأسرته وأهل سيناء يتباهون بمشاركتهم في تنمية أرض الفيروز    71 مليار جنيه لقطاع التعليم المدرسي والجامعي خلال 24 /25    حكم الصلاة على الكرسي وضوابط الصلاة جالسًا.. اعرف الشروط والأحكام    بدء قداس الاحتفال بعيد القيامة المجيد في المنيا (صور)    لجين عبد الله تفوز بكأس أفضل سباحة في البطولة الإفريقية بأنجولا    أحمد موسى عن شم النسيم: «باكل فسيخ لحد ما يغمى عليا.. وأديها بصل وليمون»    طارق إمام للشروق: المعارض الأدبية شديدة الأهمية لصناعة النشر.. ونجيب محفوظ المعلم الأكبر    مطران إيبارشية أسيوط يترأس صلاة قداس عيد القيامة المجيد 2024    وكيل صحة القليوبية: استقبال 180 شكوى خلال شهر أبريل    تسويق مغلوط للأولويات سيكون له ما بعده..    بالصور.. أهالي قرية عبود بالفيوم يشيعون جثمان الحاجة عائشة    المقاولون 2005 يفوز على أسيوط بثلاثية في دوري الجمهورية للناشئين    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    سفير فلسطين في تونس: مصر تقوم بدبلوماسية فاعلة تجاه القضية الفلسطينية    غدا وبعد غد.. تفاصيل حصول الموظفين على أجر مضاعف وفقا للقانون    القس أندريه زكي يكتب: القيامة وبناء الشخصية.. بطرس.. من الخوف والتخبط إلى القيادة والتأثير    «صحة الفيوم»: قافلة طبية مجانية لمدة يومين بمركز طامية.. صرف الأدوية مجانا    السعودية تصدر بيان هام بشأن تصاريح موسم الحج للمقيمين    خاص| زاهي حواس يكشف تفاصيل جديدة عن مشروع تبليط هرم منكاورع    خبير اقتصادي: الدولة تستهدف التحول إلى اللامركزية بضخ استثمارات في مختلف المحافظات    وكيل صحة الشرقية يتفقد طب الأسرة بالروضة في الصالحية الجديدة    وزير الشباب يفتتح الملعب القانوني بنادي الرياضات البحرية في شرم الشيخ ..صور    لوبتيجي مرشح لتدريب بايرن ميونيخ    مفاجأة- علي جمعة: عبارة "لا حياء في الدين" خاطئة.. وهذا هو الصواب    موعد ومكان عزاء الإذاعي أحمد أبو السعود    لاعب تونسي سابق: إمام عاشور نقطة قوة الأهلي.. وعلى الترجي استغلال بطء محمد هاني    محمد يوسف ل«المصري اليوم» عن تقصير خالد بيبو: انظروا إلى كلوب    جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 والثانوي الأزهري    استعدادًا لفصل الصيف.. محافظ أسوان يوجه بالقضاء على ضعف وانقطاع المياه    الانتهاء من 45 مشروعًا فى قرى وادى الصعايدة بأسوان ضمن "حياة كريمة"    رويترز: قطر قد تغلق مكتب حماس كجزء من مراجعة وساطتها بالحرب    ما حكم تلوين البيض في عيد شم النسيم؟.. "الإفتاء" تُجيب    ماريان جرجس تكتب: بين العيد والحدود    التموين: توريد 1.5 مليون طن قمح محلي حتى الآن بنسبة 40% من المستهدف    القوات المسلحة تهنئ الإخوة المسيحيين بمناسبة عيد القيامة المجيد    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عيد عبدالحليم يكتب: في ذكرى رحيل عميد الرواية العربية:مقاهي نجيب محفوظ .. جامعة مفتوحة
نشر في الأهالي يوم 31 - 08 - 2022

تمر هذه الأيام الذكرى السادسة عشر لرحيل عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، والذي ترك تراثا أدبيا وإنسانيا رفيعا، وذكريات لا تنسى مع كل من اقترب منه في حياته، فلم يكن محفوظ من ذلك النوع الذي يسكن في برج عاجي، رغم أنه الأديب العربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب، لكنه كان قريبا من الناس فمن عاداته اليومية السير من بيته في العجوزة إلى جريدة الأهرام، وفي تلك الأثناء يذهب ليشرب قهوة الصباح في مقهى "ريش" في شارع طلعت حرب.
كما ارتبط "محفوظ" في حياته بعدد من المقاهي التي كان يلتقي فيها بأصدقائه يوميا، وكذلك بالأدباء الجدد ومن القراء أيضا.
هنا إضاءة حول بعض الذكريات لمحفوظ على مقاهى القاهرة.
في منتصف الخمسينات من القرن الماضي جاء "جورج بهجوري" إلى القاهرة يبحث عن ربة الفن في حواري وشوارع العاصمة بعد أن ندهته النداهة من صعيد مصر فجاء محملا بموروث ثقافي متعدد الملامح، ولم يكن يملك إلا ريشة وورقة بيضاء. زاده اليومي التجول في الشوارع والتأمل في وجوه البشر بحثا عن فضاءات لخطوط تشكيلية مغايرة.
وذات ظهيرة قائظة أخذته قدماه إلى مقهى "أوبرا" بميدان العتبة وهناك اختار ركنا قصيا ، لخجله الريفي، ربما، وربما أيضا ليرصد تفاصيل المكان دون أن يراه أحد أو يزعجه، فإذا به أثناء اندماجه في رسم لوحاته تقع عيناه على "نجيب محفوظ" الذي كان يدوام على الذهاب للمقهى صباح كل يوم جمعة ويتحلق من حوله المريدون من الأدباء والمثقفين. فتقرب البهجوري بأوراقه ورسومه، والتي كانت عبارة عن تخطيطات تشكيلية لبعض أبطال روايته من الحرافيش والجبلاوي. وفي إحدى المرات وبعد ان تعمقت العلاقة بينهما اقترب بهجوري من الأستاذ بعد أن انفضت الندوة الأسبوعية وقال له:
أنا مسافر باريس أرسم هناك من أجل العالمية".
فأجاب محفوظ:
"خليك محلي هنا وكلما زادت المحلية أصبحت عالميا".
العابر للأجيال
ومنذ منتصف الأربعينيات كان نجم نجيب محفوظ الأدبي قد بدأ في التصاعد خاصة بعد خروجه من مرحلة كتابة الروايات التاريخية إلى مرحلة الروايات الواقعية والتي بدأت برواية "القاهرة الجديدة" والتي كتبها عام (1945)، ثم "خان الخليلي" عام (1946)، و"زقاق المدق" عام (1947)، وهو ما لفت إليه نظر القراء والنقاد على حد سواء نظرا لحسن تصويره لحياة الناس في هذه المنطقة من القاهرة على حد تعبير د. فاطمة موسى في كتابها "نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية" "حيث استطاع أن ينقل إلى القارئ صورة حية لجو حي خان الخليلي، أضحت خالدة في ذاكرة قراء العربية.
ولا جدال في أن اسم زقاق المدق هو أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذا الموضوع، إلا أن لخان الخليلي مكانة خاصة في هذا الصدد، فهي أول ثمرة لانفعال الكاتب فنيا بالحي الذي ارتاده سنوات بحكم عمله كموظف في وزارة الأوقاف، كانت خان الخليلي بمثابة استكشاف للإمكانيات الفنية للحي القديم، وتلتها رحلة أخرى في الزقاق".
ونتيجة للشهرة التي حصلت عليها هذه الأعمال انجذب عدد من الشباب الذين كانوا يحاولون الكتابة في ذلك الوقت منتصف الأربعينيات إلى جلسته بكازينو أوبرا والذي كان يطل وقتها على ميدان إبراهيم باشا بالعتبة ومن هؤلاء القاص يوسف الشاروني والذي يحكي عن بداية تعرفه بنجيب محفوظ وبندوته الأسبوعية قائلا: "في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وعقب تخرجي من قسم الفلسفة بكلية آداب القاهرة، تعرف جيلي من طلبة الكلية وطلبة كلية الحقوق المجاورة: بدر الديب، محمود العالم، توفيق حنا، عباس أحمد، أحمد بهاء الدين، فتحي غانم، مصطفى سويف، فاطمة موسى، لطيفة الزيات، أنجيل بطرس، محمد عودة، حسن فتح الباب على نجيب محفوظ من رواياته التي كانت تنشرها تباعا مكتبة مصر: الروايات التاريخية الثلاث ثم القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق والسراب وبداية ونهاية.
فانبهرنا بهذا الكاتب الذي يقدم لنا مصر المعاصرة بإيجابياتها وسلبياتها بهذا الأسلوب المتميز.
ونما إلى علم البعض منا أنه يلتقي بأصدقائه صباح كل جمعة بمكان يعرف بكازينو أوبرا. فسعينا إلى لقائه واستمتعنا بصحبته التي كانت تتميز بضحكته المجلجلة وسط أصدقائه المبدعين أذكر منهم: عبدالحميد جودة السحار (الأديب وأحد الممولين للجنة النشر للجامعيين مع شقيقه سعيد السحار" والكاتب الفكاهي محمد عفيفي، وأنور المعداوي، ويوسف السباعي الذي كان يحضر بزيه العسكري وينتحي جانبا بنجيب محفوظ أو عبدالحميد جودة السحار يتناقشان فيما لا نعرفه ثم ينصرف.
أما أصغر الحضور فكان شابا ربما لم يتجاوز سن المراهقة طالب في المرحلة الثانوية ولم تكن المرحلة الإعدادية وقد اخترعت بعد يحضر مستمعا بشغف لما يدور من مناقشات ويلقي من نكات يقهقه لها نجيب محفوظ قهقته العالية المرحة هذا الشاب كان ماهر شفيق فريد الذي أصبح فيما بعد أحد نقادنا ومبدعينا الكبار، كل ما كان نعرفه عنه وقتئذ أن أباه ناظر إحدى المدارس الثانوية ومثقف أسهم في الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية وهذا ما حدث أيضا مع الأجيال التالية مثل جيل الستينيات ومنهم الناقد د. صبري حافظ الذي يشير في كتابه "سرداقات من ورق" وفي معرض حديثه عن الكاتب الراحل صالح مرسي إلى أن بداية تعرفه عليه كانت في ندوة محفوظ التي كان تعقد في كازينو أوبرا حيث قال: "بدأت معرفتي بصالح مرسي في أواخر الخمسينيات في ندوة نجيب محفوظ في كازينو أوبرا الذي كان وقتها في ذروة عطائه الأدبي وقد فرغ من نشر إنتاجه الصرحي العظيم "الثلاثية" وتربع معها بحق على عرش الرواية العربية. وكانت ندوته بؤرة الاستقطاب الرئيسية لكل المتطلعين إلى أدب جديد، ولكل الذين يدركون قيمة الكتابة الجادة والأدب الجيد الأصيل، لم يكن نجيب محفوظ من نجوم الحياة الثقافية وقتها. فقد احتكر يوسف السباعي وأمثاله كل الأضواء، ولكن ألق الأضواء لم يعش يوما رؤية الحياة الثقافية الجادة، ولم يشتت بوصلتها. وكنت وقتها وفدت إلى القاهرة لدخول الجامعة، وبعد سنوات طويلة من إدمان القراءة في الريف تدرجت فيها من إدمان قراءة رواية أرسين لوبين، وشرلوك هولمز، ومغامرات الأومباشى عكاشة والشاويش درويش، إلى قراءة مترجمات عبد العزيز أمين من الروايات العالمية وصولا إلى قراءة الأدب العربي الحديث والتعرف على نماذجه الجيدة التي كان ينشرها الكتاب الذهبي في الخمسينيات وكنت قد اكتشفت أعمال نجيب محفوظ وفتنت بها في أخر دراستي الثانوية، فلما قدمت إلى القاهرة بعد انتهاء دراستي الثانوية عام (1957) كان أول ما فعلته قبل التردد على قاعات المحاضرات بالجامعة هو التردد على استحياء على ندوة نجيب محفوظ في كازينو أوبرا والتي سرعان ما سحرني مناخها الودي الأليف".
كانت هذه الندوة مدرسة كاملة بأي معيار من المعايير وحينما استرجع دورها في تكويني الثقافي الآن، أشعر أنها قامت بالنسبة لي وقطاع كبير من شباب المثقفين في هذا الوقت، بدور الجامعة حينما كانت الجامعة قد بدأت في التخلي عن دورها كمؤسسة لتعليم الطلاب أسس التفكير الحر، والحوار الموضوعي، واستقلال الرأي ومقارعة الحجة بالحجة فبينما كانت الجامعة تنحو صوب الاعتماد على التلقين، وتميل نحو الرأي الواحد أو انعدام الرأي وتعادي أصحاب الرأي المخالف، كانت ندوة نجيب محفوظ ومعها ندوات أخرى وبؤر كثيرة للثقافة في هذا الوقت، ساحة للحوار الجاد والرأي الحر".
هذه شهادة د. صبري حافظ وأظن أنها تعبر عن رأي جيل بأكمله حيث لم تكن الندوة مجرد مكان للتعارف بقدر ما كانت مجالا لتلاقح الأفكار والرؤى في السياسة والأدب والفن والحياة، فانفتحت آفاق أخرى للكتابة، واتسعت أحداق المغتربين القادمين من القرى والدساكر لتواجه اتساع المدينة وشهوتها في احتواء العابرين.
أما المفكر سلامة موسى (1887 1958) وهو أول ناشر لنجيب محفوظ، فقد نشر له رواية "عبث الأقدار": في دار "المجلة الجديدة"التي كانت يملكها سلامة موسى، وأعطاه أجره عن تأليفها كما ذكر محفوظ في أكثر من موضع خمسمائة نسخة.
ومع صدور رواية "بين القصرين" (1957) فوجئ محفوظ بمقال منشور في يوميات الأخبار لسلامة موسى يشيد بالرواية، وفي تلك الأثناء قام المفكر الكبير بزيارة لشلة "أوبرا" وجلس معهم وقتا طويلا تناقشوا فيه حول أفكاره التقدمية وحول إبداعهم الجديد. وقد حضر "موسى" ليهنئ تلميذه القديم الذي كان هو أول من اكتشف موهبته الروائية.
مواقف طريفة
ومن الأشياء الطريفة التي رواها "محفوظ" في أحاديثه مع رجاء النقاش في كتابه "نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته" أنه أثناء نشره لرواية "أولاد حارتنا" مسلسلة في "الأهرام" وكان في تلك الفترة من رواد كازينو أوبرا وفي الندوة الأسبوعية لاحظ وجود فتاة جديدة وعرف أنها ابنة أخت الدكتور حسن الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر، وبعد إحدى الندوات التي حضرتها همست في أذنه بأن سيارة محملة بمجموعة من العسكر ومنهم ضابط برتبة كبيرة ذهبت إلى بيته لاعتقاله، وقبل أن تصل إلى منزله جاءها الأمر بالعودة وعدم إكمال المهمة، ولم تذكر له الفتاة تفاصيل أخرى، ولا يعرف مدى صدق هذه الواقعة ولم يحاول التأكد من صحتها ولكن أثناء نشر الرواية كانت زوجته تشكو له من وجود مراقبة مستمرة لها، وأن أشخاصا لا تعرفهم يتتبعون حركتها، وحتى أثناء تجولها في السوق لشراء احتياجات البيت. ويضيف محفوظ: "وربما لو كنت أنتبه أثناء سيري في الطريق لاكتشف أنني مراقب، ولكن الأفكار التي كانت تدور في ذهني وأنا أمشي كانت تشغلني عن مثل هذه الأمور".
***
وعلى مقهى "أوبرا" أيضا كان اللقاء الأول الذي التقى فيه محفوظ بناقده الأول سيد قطب الذي كان يواظب على حضور الندوة الأسبوعية في الأربعينيات. فمع صدور رواية "كفاح طيبة" عام (1944) كتب قطب أول مقالة نقدية عن محفوظ، وكان من الممكن أن يستمر تجاهل الحياة الثقافية ببعدها النقدي لأعماله، لولا هذا المقالة التي كتبها قطب والذي كان يعده البعض في ذلك الوقت التلميذ الأنجب في مدرسة العقاد الأدبية فقد أعلن فيها عن ميلاد روائي يملك ناصية الكتابة وتحريك الحدث الروائي باقتدار، وهذا ما أعلنه قطب في الثناء على القصة حيث قال عنها: "تغلبني حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها، هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر واستعين على رد هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه!!
ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها: فاليوم أتلفت فأجد بين يديّ القصة والملحمة، في عمل فني واحد في "كفاح طيبة" فهي قصة بنسقها وحوادثها، وهي ملحمة وإن لم تكن شعرا ولا أسطورة بما تفضيه في الشعر إلى ملحمة".
وأضاف قطب في مقاله: "ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان ولأقمت لصاحبها الذي لا أعرفه حفلة من حفلات التكريم، التي لا عداد لها في مصر، للمستحقين وغير المستحقين".
وقد كتب قطب بعد ذلك عن رواية "القاهرة الجديدة" فور صدورها عام (1945) مؤكدا أن الرواية بمثابة العتبة الأولى للرواية الواقعية التي صار محفوظ عميدا لها..
هكذا كانت العلاقة بين نجيب محفوظ وسيد قطب، في بداية الأمر علاقة أدبية تقوم على فهم الأفكار وسبر أغوارها وتفحص دلالتها ومعانيها، لكن بعد تحولات قطب الفكرية، وتزعمه لحركة الإخوان المسلمين باعتباره أحد مراجعها الكبرى انقطعت علاقة محفوظ به، ولم يزره إلا مرة واحدة بعد عودة قطب من رحلته إلى أمريكا والتي تغيرت فيها أفكاره مائة وثمانين درجة.
شخصيات واقعية
ارتبط "نجيب محفوظ" في بداية شبابه بمقهى "عرابي" بالعباسية حيث كان قريبا من بيت الأسرة التي انتقلت إليه من حي الجمالية الذي ولد ونشأ فيه وقضى فيه أيام طفولته وصباه.
وترجع تسمية المقهى إلى "كامل عرابي" فتوة الحسينية الذي قضى في السجن (20) عاما بعد أن كسّر وحطم وأطاح بعين أحد الأشخاص، وكانت هذه الحادثة سببا في إلغاء نظام "الفتونة" في الثلاثينيات من القرن الماضي.
وقد تحدث "محفوظ عن علاقته بهذا المقهى في الكتاب الذي أعده الناقد رجاء النقاش عن أحاديث مطولة معه عن حياته وذكرياته وحمل عنوان "نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته" فيقول "محفوظ" عن بداية تعارفه بالمكان:
"تعرفت على عرابي بعد خروجه من السجن وكنا انا وأصدقائي نذهب للجلوس في مقهاه، وكان أحيانا يتشاجر معنا لأنه كان محبا للهدوء والنظام، ويكره أن يصفق أحد بيديه لاستدعاء الجرسون وكان صوتنا يعلو كثيرا وندخل في فاصل من المشاغبة البريئة. فلما يضيق بنا يتجه نحونا ويقول في غضب: هذا مقهى أم مدرسة أيها الأفندية؟ من الغد لا تدخلو المقهى.. فننتقل إلى مقهى الفقي، وهي مقهى صغير في آخر العباسية وبعد عدة أيام يمر علينا في بيوتنا، يصالحنا ويعلن انتهاء فترة الطرد، ونعود إليه من جديد".
ويضيف محفوظ: "في أيام الانتخابات كان مقهى عرابي يتحول إلى معسكر لأنصار الوفد، لأن عرابي كان وفديا، وكان كبار السياسيين من أهل الحسينية مثل الشواربي باشا وأحمد ماهر باشا يخطبون ود عرابي حتى يساعدهم في كسب أصوات الناس بما يتمتع به من تأثير جماهيري رهيب ورغم السنوات العشرين التي قضاها في السجن إلا أنها لم تؤثر على شخصيته، وكان شكله وتركيبته يوحيان بالزعامة، وفيه هيبة سعد زغلول، وكان في صوته شموخ لأنه تعود أن يأمر فيطاع".
إذن كان عرابي هذا كما يصوره محفوظ شخصية ذات تأثير قوي في محيطها الاجتماعي، وبمنطق ذلك الزمان الذي كانت فيه الفتوة إحدى تجليات القوة في ذلك العصر، وكان الفتوات بإمكانهم فرض الأتاوت على التجار في الأسواق والمحلات، وكانت الحكومة في كثير من الأحيان تساعدهم على فرض هيمنتهم على الحواري الشعبية، فكان لكل حي فتّوة خاص به.
وكانت شلة العباسية والتي كانت نواة لما عرف بعد ذلك ب"الحرافيش" تضم في بداية تكوينها كل من مصطفى كاظم شقيق السيدة تحية كاظم زوجة الرئيس عبدالناصر، وأحد الحفناوي وهو غير الموسيقار المعروف وحسن عاكف والألفي مأمون، والمعلم كرشو، ونجيب الشويخي الذي وصفه محفوظ بأنه شرير الشلة فقد اعتدى بالضرب على معظم أعضائها ومهددا أي عضو من الشلة يختلف معه بعدم الخروج من بيته حتى لا يتعرض للضرب وكان من بين أعضاء الشلة أدهم رجب وهو طبيب هاجر منذ أكثر من ستين عاما إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومازال مقيما فيها حتى الآن وقد تجاوز المائة عام.
ثم بعد ذلك تكونت الحرافيش من خلال مجموعة من الأدباء الذين فازوا بالجائزة التي أقامتها وزارة المعارف في بداية الأربعينيات في القصة وهم على أحمد باكثير ويوسف جوهر وعادل كامل ومحمد عفيفي ونجيب محفوظ.
وانضم إليهم بعد ذلك الفنان أحمد مظهر والمخرج توفيق صالح.
وقد كان محفوظ ورفاقه يلتقون في مساء كل يوم خميس من كل أسبوع أما باقي الأيام فكان المقهى تمتلئ بالزبائن من كل طوائف المجتمع، ويذكر محفوظ في حديثه مع رجاء النقاش أن مقهى "عرابي" كان أكثر المقاهي التي كان يجلس عليه الضباط الأحرار قبل الثورة ومنهم عبد الحكيم عامر وعبداللطيف البغدادي وجمال سالم.
يقول محفوظ:
كل هؤلاء الضباط.. يتحدثون معنا في كل شئون الحياة، ونعرف أسرار حياتهم الشخصية ولكننا لم نعرف أبدا السر الخطير الذي يدبرونه في الخفاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.