تحرك جديد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 21 مايو قبل اجتماع البنك المركزي    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    المجلس التصديري للملابس الجاهزة: نستهدف 6 مليارات دولار خلال عامين    جهاز تنمية القاهرة الجديدة يؤكد متابعة منظومة النقل الداخلي للحد من التكدس    مصطفى أبوزيد: المؤسسات الدولية أشادت بقدرة الاقتصاد المصري على الصمود وقت كورونا    نشأت الديهي: قرار الجنائية الدولية بالقبض على نتنياهو سابقة تاريخية    جونسون: الكونجرس على استعداد لاتخاذ إجراءات ضد الجنائية الدولية    «بطائرتين مسيرتين».. المقاومة الإسلامية في العراق تستهدف هدفًا حيويًا في إيلات    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 21-5-2024 والقنوات الناقلة    دونجا: سعيد باللقب الأول لي مع الزمالك.. وقمت بتوجيه رسالة شكر ل ياسين لبحيري    حسين لبيب: أطالب جماهير الزمالك بالصبر وانتظروا بشرى سارة عن إيقاف القيد    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    ضحية جديدة لأحد سائقي النقل الذكي.. ماذا حدث في الهرم؟    عاجل.. إخلاء سبيل أبو الحسن بكفالة 10 آلاف جنيه    حقيقة ما تم تداوله على "الفيس بوك" بتعدي شخص على آخر وسرقة هاتفه المحمول بالقاهرة    رصد الهلال وتحديد موعد عيد الأضحى 2024 في مصر    مشيرة خطاب تشارك مهرجان إيزيس في رصد تجارب المبدعات تحت القصف    وزير الصحة يطمئن أطقم المنشآت الطبية بشأن القانون الجديد: «لن يضار أحد»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    صلاح يرد على جدل رحيله عن ليفربول: "مشجعونا يستحقوا أن نقاتل مثل الجحيم"    رئيس الحكومة البولندية يشن هجوما عنيفا على رئيس بلاده بسبب الرئيس الإيراني الراحل    وزير الصحة: القطاع الخاص قادر على إدارة المنشآت الصحية بشكل أكثر كفاءة    بحضور 20 وزارة .. ورش عمل وحلقات نقاشية تكشف أبرز مخاطر الأمن السيبراني خلال «كايزك 2024»    على باب الوزير    الكشف عن روبوت دردشة يستخدم التعبيرات البشرية    المتهمون 4 بينهم جاره.. شقيق موظف شبين القناطر يروي تفاصيل مقتله بسبب منزل    "وقعت عليهم الشوربة".. وفاة طفل وإصابة شقيقته بحروق داخل شقة حلوان    متى تنتهي الموجة الحارة؟ الأرصاد الجوية تُجيب وتكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء    ياسر حمد: ارتديت قميص الزمالك طوال الليل احتفالا بالكونفدرالية.. ووسام أبو علي لاعب رائع    أونانا: سنقاتل بكل قوة من أجل التتويج بالكأس ورد الجميل للجماهير    شارك صحافة من وإلى المواطن    غادة عبدالرازق أرملة وموظفة في بنك.. كواليس وقصة وموعد عرض فيلم تاني تاني    حظك اليوم برج الحوت الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج الدلو الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج الجدي الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عمرو أديب عن وفاة الرئيس الإيراني في حادث الطائرة: «إهمال وغباء» (فيديو)    طبيب الزمالك: إصابة حمدي مقلقة.. وهذا موقف شيكابالا وشحاتة    رودري يكشف سر هيمنة مانشستر سيتي على عرش الدوري الإنجليزي    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    "عبد الغفار": 69 مليون مواطن تحت مظلة منظومة التأمين الصحي    بشرى سارة.. وظائف خالية بهيئة مواني البحر الأحمر    أزمة الطلاب المصريين في قرغيزستان.. وزيرة الهجرة توضح التطورات وآخر المستجدات    نقيب المهندسين يشارك بمعرض تخرج طلاب الهندسة بفرع جامعة كوفنتري بالعاصمة الإدارية    المصريين الأحرار بالسويس يعقد اجتماعاً لمناقشة خطة العمل للمرحلة القادمة    رياضة النواب تطالب بحل إشكالية عدم إشهار 22 ناديا شعبيا بالإسكندرية    تكريم نيللي كريم ومدحت العدل وطه دسوقي من الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    وزير الرى: اتخاذ إجراءات أحادية عند إدارة المياه المشتركة يؤدي للتوترات الإقليمية    ليفربول يعلن رسميًا تعيين آرني سلوت لخلافة يورجن كلوب    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    الشرطة الصينية: مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين إثر حادث طعن بمدرسة جنوبى البلاد    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التى رأت .. رواية .. صفاء عبد المنعم
نشر في الأهالي يوم 12 - 03 - 2022


النصف الأول من رواية التى رأت
———————————–
التى رأت
رواية
صفاء عبد المنعم
*****************
إهداء إلى /
أصدقائى الذين رحلوا فى محرقة مسرح بنى سويف عام 2005
***************************************
" الإنسان منفى متنقل .
وهذا قدره ، وطن الإنسان الحقيقى هو حيث الشعور
بالكرامة وبالأمل الممكن أو بالتفاؤل المستحيل ."
مارجيت شاندان
الهند
********************************
ليس بهذا الشكل تُحل الأمور ياهند !!
فى الصباح
تشرب هند كوبين كبيرين من الشاى ، ثم تجلس على المكتب العريض ، تتأمل الشارع من خلال النافذة . هنا كتبت ، وهنا جلست طويلاً ، وهنا أخذت ترنو إلى الصور المعلقة التي رُسمت لها في الأيام الماضية ، والآن تكتب عنها ، عن أشياء لا تعرفها ، وتبحث فى جذور ماضية ، كانت فى يوم ما ثقافة شعب ، ومنظومة كاملة للأخلاق . فى الآونة الأخيرة ، سقطت مطلقات ، تزحزح التاريخ عن موضعه ، وداعبت الأحلام آمال أناس كانوا فى يوم ما مشتتين أو بعض رعاة ، أو باعة جائلين .. وادعت بعض شعوب أنها صاحبة حضارات كانت لشعوب أخرى ، ونحن الآن نتنازل عنها بمهانة وسهولة وعار.
فى السادسة صباحاً ، تصحو هند ، وقبل أن تذهب إلى العمل ، تكون قد شربت كوبين كاملين من الشاى ، ثم تنزل ، تسير فى شارع 26 يوليو، تتطلع إلى واجهات المحلات ، التي فجأة أصبحت ضخمة وفخمة وبرخام فخم وجميل وجذاب ، رخام يجلب خصيصاً من جنوب أفريقيا لتزين به الواجهات والمداخل . حدثت نفسها : أنا لستُ ضد الجمال ، ولكن لماذا كل هذا القبح المنتشر؟ والسلوك الإنسانى أصبح مذبذباً ( بين بين ) .
تقطع هندالطريق من الزمالك إلى بولاق أبو العلا كل يوم مشيا على قدميها وهي ترى القبح الحديث فى المبانى والأبراج الجديدة وراءه جمال قديم من المشربيات والبيوت القليلة المتناثرة فى بعض الأماكن على طول كورنيش النيل ، تعبر كوبرى (أبو العلا) والذي بناه المهندس الفرنسى (إفيل) والذي انتحرلأنه أخطأ ، خطأ لا يقع فيه مهندس صغير مبتدىء ، ونسى أن يفتح الكوبرى لمرور المراكب الشراعية العملاقة فى ذلك الوقت !
النيل يمتد أمامها متباهياً بخلوده . أول ما يواجه عينيها مبنى وزارة الخارجية الجديد والذى بنى على شكل زهرة اللوتس البيضاء ، الشموخ والجمال والعظمة . تتأمل جمال زهرة اللوتس وتخشى مراقبة الكاميرات المتراصة عالياً فوق المبنى ، تخفض عينيها وتسير ببطء ، تمرق من الكوبرى إلى الشارع ، تنزل متباطئة فى إجلال وإكباروخشوع ، وعيناها تتابعان جمال المبانى القديمة والمشربيات والمقرنصات التى تنظر إليها بحزن من شدة الاهمال والسقوط ، وهى دليل حى على زمن مر وأنتهى بكل حكاياته وأساطيرة .
تتجه عيناها صوب مسجد السلطان "الشيخ حسين أبى على المكنى بأبى العلاء قطب أقطاب المحكمة الشعبية ، وواحد من التاسوع المقدس فى المعتقد الشعبى المصرى ، ويجلس دائما بجوار رئيسة الديوان السيدة زينب أم العواجز كما يسميها المصريون الفقراء ، حفيدة الرسول (ًص) أخت الحسن والحسين أبناء فاطمة ، زوج الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه ، ورضى الله عنهم جميعا ".
هنا فى شارع 26 يوليو بالزمالك ، استيقظت هند من نومها مبكراً صنعت كوباً كبيراً من الشاى ، وانتظرت طويلاً ، مرور العربات التى تدق فى رأسها ، ولكنها لا تمر ، توقفت جميعها فجأة ، لتشهد هذا الحدث الجلل ، لقد عرفت هند فجأة أنها تحب حمزة !
وصنعت كوباً آخر من الشاى ، وانتظرت الساعات والساعات عله يأتى بقامته الفارعة وخطواته السريعة ، وفى النهاية اتصلت به ، هاتفته صرخت فيه : كتبت قصة جديدة ياحمزة .
ضحك عبر الهاتف غير مباليا لصراخها وقال بهدوء بارد ومقزز : إزيك يا هند .
كانت المسافة التى بينهما شاسعة – هو يعرف ذلك – ولكنها أصرت أن تقربها ، قرأت له مقاطع كثيرة من القصة ، وهو ينصت عبر الهاتف ، وفحيح صوته يصل إليها .
ولكنها تواصل القراءة والمتعة ، كأنها أخيراً وجدت من يسمعها ، ثم صرخت فيه ضاحكة : عارف ده معناه إيه ؟ ضحك بفتور : معناه إيه ؟ معناه إنى بحبك !
أغلق الخط غير مصدقا ، ووعدها أنه سيزورها عند عودته من السفر . ولكن بعد يومين أتصلت به . فأعتذر عن ضعفه وضعفها ، ونصحها بالتأنى والأختيار الدقيق ، لأنه ليس هو الذى تريده بالضبط . وقال لها : ليس بهذا الشكل تحل الأمور يا هند !
سمعت ، صوت أم جابر يناديها من بير السلم : يا ست هند ، يا أستاذه .
أطلت هند من الباب ، ونادتها : اطلعى يا أم جابر ، اطلعى يا وليه .
أخذت تصعد الدرجات فى صعوبة وتعب ، ثم وقفت قليلاً ، وأسندت يدها على كتفها وقالت بإرهاق شديد : إزيك يا بنتى .. إزى حالك . ضحكت هند وأخذتها من يدها وأدخلتها : إيه يا وليه يا عجوزة ، تعبتى ؟ دخلت أم جابر وهى تلهث : يالله بقى حسن الختام .
دخلت هند ، ثم توجهت نحو المطبخ ، وضعت براد الشاى على النار، وضحكت : الدهن فى العتاقى يا وليه . قعدت أم جابر وتربعت على الأرض ، ثم فرشت الورقة التى فى يدها وقالت : تعالى باسم الله ، كلى معيا ياست . خرجت هند من المطبخ حاملة كوباً كبيراً من الماء وهى تضحك : إيه يا أم جابر، جايبه عشاكى معاكى ؟ ضحكت أم جابر، وظهرت سنتها الوحيدة التى فى فمها : ما انتى عارفه يا ست الكل ، مابقاش فيه سنان ، ولازم آكل لقمة طرية .
فردت اللفة المغلقة أمامها ، فظهر "كباب ساخن وطرب ولحمة مشوية على السيخ" ورائحته الشهية تفوح وتملأ المكان . ضحكت هند وهبدتها على كتفها : لقمة طرية ، ولا لقمة مغمسة ؟
انكسفت أم جابر، ودارت وجهها بيدها : يوه يا ست هند ، أنا طول النهار شقيانه ، وبقالى أسبوع بسدد فى تمنه للواد عتره اللى شغال هناك فى محل الدهان اللى فى شارع 26 يوليو ببولاق أبو العلا . ثم مدت يدها لهند بقطعة كبيرة : خدى يا بنتى دوقى بألف هنا وشفا ، مدى أيدك باسم الله . ردت هند يدها فى تواضع وخجل : كُلى أنت يا أم جابر بألف هنا وشفا على بدنك ، أنا سبقتك ، لكن هاشرب معاكى شاى ، ثم قامت واقفة ، واتجهت ناحية المطبخ .
صاحت أم جابر ضاحكة : هو كوب الزبادى أكل ياست ؟ وأكيد شربتى عشرين كوباية شاى على ريق النوم . خرجت هند من المطبخ حاملة أكواب الشاى فى يدها ، كوباً كبيراً لها ، وآخر لأم جابر ، ثم جلست على الكرسى الهزاز الكبير المقابل للنافذة ، بحيث ترى الشارع ، ووجه أم جابر التى مازالت جالسة على الأرض تأكل فى هدوء وصمت .
" وجه مصرى قديم منحوت من طمى الأرض ، كأنه منذ عصور قديمة ، وجه لكاهنة معبد ، أو من حاملات القرابين ، كأن نحاتاً حاذقاً قام بصنع الخطوط والتعريجات واللون البنى الذى يحمل تراب السنين ، عينان عسليتان عميقتان ، غائرتان ، صافيتان مثل ماء النيل ، وأنف شامخ ، وجبهة عريضة خطت السنون عليها العبر، وشفتان رقيقتان ، رقيقتان كما وصفهما الشاعر الشعبى وأبدع ، والرقبة كوز العطشان ، كما قال ".
تنهدت هند داخلها وهى مازالت تتأمل فيها : أكيد فى يوم من الأيام كانت أم جابر تحمل سمت ما من الجمال .
أدركت أم جابر بحسها الفطرى أن هند تتأملها ، فضحكت : تعرفى يا ست هند وأنا صغيره كانت حلاوتى مانعه ، كان شعرى أصفر وطويل يوصل لحد خلخال رجلى ، وعودى ولا عود الزان .
ضحكت هند وسخرت منها : وأظن هاتقول لى كانت عينيكى خضره وشعرك أصفر ، وأمك أميرة وخطفها الجن من القصر الكبير ، وأجوزت أبوكى الفلاح ، وتحكى لى حكاية غريبة عن الجن والعفاريت زى اللى بتحكيهم لنور.
ضحكت أم جابر، ودست فى فمها قطعة كبيرة من اللحم : طب وحياتك ، ومن نبى النبى نبى ، كانت عينيا ملونه وزى العسل ، وكنت لما أمشى ، تتشهى عليا الرجاله فى البلد ، طب أنتى عارفه يوم ما اتولدت ، أمى سمتنى فج النورعشان حست بنور خارج منها .
رفستها هند بقدمها بغيظ : يا وليه يا فشاره ، ليه نبيه !
أكملت أم جابر حديثها : طب إنتى عارفه كان حمايا مسمينى إيه ؟ الشاميه على اسم جدتى أم أمى ، كانوا بيقولوا كانت من بلاد الشام وطابع الحُسن فى خدها هياكل حتة منها أكل ، وكان حمايا يقعد يضحك وينادينى : بت يا شاميه تعالى جنبى .أقوله فى خجل : نعم يابا .
يقوللى : ألا هو أبوكى جاب إيه بالمهر الخمسة جنية اللى دفعتها له ؟
أقعد أعدله على أيدى : جاب يابه ( كردان دهب دورين بعروسه ، وجاب طشت نحاس وأبريق مياه ، وطشتيه صغيرة ألمونيا ، ولحاف ومرتبه ومخدتين ، والعشا بتاع العروسة ، وفطير الصباحية ، والكعك والبسكويت ) . يضربنى بعصاه الغليظة ويقول لى : يا بنت النورى دوول بس بالخمسه جنيه اللى أنا دفعتها لأبنى مهرك ! وفضل لحد ما مات الله يرحمه وهو يسألنى نفس السؤال : خدى يا بت يا شاميه ، أبوكى جاب إيه بالخمسه جنيه . وأقعد أعد له لحد لما يزهق وينام .
ضحكت هند ضحكاً عميقاً ، كأنها لم تضحك من قبل : ليه هو كان عايزك تشترى البلد كلها بالخمسة جنية ؟
عقول بقى يا ست هند ، هنقول إيه ، الخمسة جنية سنة 19 كانت ممكن تشترى فدانين أرض وأكتر .
تعتدل هند فى جلستها : طب قول لى يا أم جابر – حكايتك – احكى لى الحكاية ، أنت أصلا منين ، أصل جدودك .
تربعت أم جابر فى جلستها على الأرض ، ثم جمعت الورقة التى كانت تأكل منها أمامها وطبقتها بحرص على الباقى من الطعام ، ومصمصت أصابعها ثم رفعت ذيل جلبابها ومسحت يدها وفمها ، وأمسكت كوب الشاى ورشفت رشفة طويلة بتلذذ وصوت مرتفع ، وقالت :
" شوفى يا ستى ، وما ستك إلا أنا ، صلي على النبي ، قولى عليه الصلاة والسلام زيدي النبى كمان صلاه . زمان أمنا كانت تسيبنا قطط عمى مع ستي فى الدار ، وتروح الغيط مع أبويا ، كان يبقى الغيط بعيد فى بلد تانيه ، واحنا نفضل مع ستى أم أمى ، هى اللى ربتنا ، أمي كانت تاخد العيل الصغير اللى لسه مولود ، أو لسه بيرضع معاها ، وتفوت اللى أكبر منه ، كنا كلنا لحمه حمره صغيرين ، وكانت ستى تأكلنا وتسقينا ببقها زى الحمام ، وفين وفين تلاقى العيل من دوول كبر ومشى ، وفى السنه التانيه تيجى أمى تولد ، وتسيب العيل اللى كان معاها يبقى ابن سنه ، كانت زى الأرنبه ، بتحبل ع الأربعين ، كنت أنا التالته فى ترتيب أخواتى ، كان قبلى أخت كبيره وولد .
وفى يوم من ذات الأيام ..
والله فاكراها زى ما نكون دلوقتى ، وحياة من جمعنا من غير ميعاد ، وكل ما أفتكرها شعر راسى يطقطق وجسمى يقشعر ، جت أمى من الغيط عشان تولد ، كنا فى طوبه – قلب الشتا -وكانت ستى كاسره الركيه وعماله تعمل لنا رقاق رشته على الصاج عشان نتعشى ، والدنيا كانت برد وبتشتى وزى الرصاص ، جت أمى مبلولة وتنتفض وسخنة نار زى الفرن ، وقالت : الحقينى يا مه هاولد ، جريت ستى ونيمتها على الفرن الكبير ، أتارى القرن طش منها فى السكه وهى راكبه الحمار ، أوام أوام ستى ولدتها ، كانت بنت ، وانا كنت بنت تمن تسع سنين ، لكن ماخفتش ووقفت أساعد ستى ، وأجيب لها الميه السخنه ، وأختى الكبيره واقفه زى خيبتها تتفرج علينا ، وبعد أمى ما ولدت ، تانى أو تالت يوم ، بصينا لقينا جتتها قايده نار وبتترعش ، وعماله تهزى بكلام ، وتقول : ولادى ، ولادى ، وكلام مش مفهوم . وبعدين نادت عليا وقالت لى : تعالى يا عين أمك تعالى ، خدينى على صدرك ، قلت لها : يامه انت كبيرة وتقيله عليا . قالت لى : لأ متخافيش ، أنا خفيفه ، خف الريشه ، شوفى أمك خفيفه إزاى ، عايزه أوصيكى على أخواتك ، أمانة خالى بالك منهم . قلت لها : يامه أنا لسه صغيره ، وصى أختى الكبيره . ضحكت ، وقالت لى : لأ إنتى حنينه ، وقلبك كبير، أخواتك أمانه فى رقبتك. وسكتت . على ما ستى عملت لها الحلبه تشربها . كان سر الإله طلع . أتارى جت لها حمى النفاس ، واحنا ما نعرفش . خدت أختى الصغيره اللى لسه مولوده فى حضنى وقعدت أبكى . راحت ستى وخداها منى ومرضعاها من أمى وهى ميته . قلت لها : ليه كدا يا ستى حرام عليكى ؟ قالت : خليها تموت ، هو احنا ناقصينها ، ولا عايزين بنات .
وفعلا أختى الصغيرة ماتت بعد أمى بيومين ، والسنه اللى بعدها أختى الكبيرة أجوزت وماتت هى كمان ، وفضلت أنا والعيال الصغيرين ، كانوا ولدين وبنتين ، وبقو يقولوا لى يامه .
وأبويا هج منا ، سبنا فى الدار لوحدينا ، وفضل هو فى الغيط لوحده ، ورفض يجوز تانى بعد أمى لحد مامات . أصلها كانت بنت عمه ، وهو كان بيحبها قوى ، وفضل ييجى لنا من الزرعه للزرعه ، يجيب الغله ويقعد يومين ، وبعدين يمشى . وأنا ربيت العيال الصغيرين ، بنتين وولدين ، وكان ليا أخ كبير ، هو اللى ورايا على طول ، أصل أمى بطنها كانت بتفسر مره ولد ومره بنت ، وكان أخويا محمد بيحب المغنى والمواويل ، وفى يوم طفش منا ، وسرح ورا الغوازى فى الموالد والأفراح والمغنيين وكان بيحب يغنى موال حسن ونعيمه وأدهم الشرقاوى ، وياسين وبهية ، وذات الهمة ، وعلى ابن أبى طالب ، والسيرة النبوية ، وغيره وغيره من السير ، ومن بلد لبلد ، ومن مولد لمولد ، وأنا دايره أدور عليه ، وأسأل عنه الخلق ، وأسوق عليه طوب الأرض إنه يرجع عن اللى فى دماغه ، ما يرجعش ، وفى يوم كنا فى الشتا – زى دلوقت – كنا فى طوبه لأ فى أمشير، ولقيته داخل علينا ومعاه واحده غجرية من الغوازى ، ومعاه عيش وحلاوة من السيد البدوى ، قعدنا واتعشينا ، هو وهى دخلوا القاعه ونام . وقمت فى الفجر أدور عليه عشان يصلى الفجر مالقتوش ، فص ملح وداب . بعدها بكام يوم سمعت إنهم لقو جتته متقطعه ومرميه فى الترعه . الناس عرفته من الوشم واسمه اللى كان مكتوب على دراعه . أبويا رفض يدفنه وقال : ولا ابنى ولا اعرفه .
واخويا التانى الصغير هرب من البلد . وأنا رحت لفاه فى الشاش الأبيض اللى على راسى وبيساه ودفناه فى ترب الصدقه ، وبعدها بزمن وسنين ، بعد ما أجوزت وخلفت أبنى جابر ، رحت ضيفه عند أخويا محمود الصغير ومعرفش إيه اللى جاب السيرة وفتح الموضوع ، عرفت إن هو اللى قتل أخوه . ولما سألته : ليه كدا هان عليك أخوك ؟!
قالى : هاتسكتى ، ولا أخليكى تحصليه . كنتى عايزاه يعرنا ، ويسرح ورا الغوازى ، عايزاه يطلع مغنواتى هو احنا لنا فى الكلام الفارغ ده ! عايزاه يبقى برمكى ؟ ومن يومها حلفت ما أنى داخله له دار تانى ، ولحد النهاردا ما دخلت داره، أخويا أجوز وخلف ومات ، وعمرى ما خطيت العتبه ، إيه الدنيا الحلوة راحت يا بنتى ، فين أيام ما كانت أمى تجمعنا حواليها ، وتقعد تغنى لنا ، وتحكى لنا الحواديت ، كان صوتها جميل ، عرفت أن أخويا اللى مات طلع صوته حلو زيها ، حب الغنا منها ، فى يوم سمعته وأنا بحط الذرة على السطوح بيقول موال : أنا جمل صلب لكن علتى الجمال . قلت له : الله صوتك حلو يا محمد ، جبت الكلام الحلو ده منين يا خويا ؟ قالى : من الدنيا الواسعه يا بنت أبويا. قلت له : طيب سمعني موال تاني .
قال : يا للي ابتليت بالغرام ،
إياك تحسب الغرام ساهل ،
أنا حبيت أعوم بحر المحبه وأحسبه ساهل ،
وقعت ما دريت قالتلي الناس تستاهل .
وحق من أماته كان جدع تختشى العين تراعى له ، طول بعرض بجمال . ميعظمش على اللى خلقه ، كان شنبه لسه مخضر، وعوده أخضرفارع ، وفى دقنه طابع الحُسن هياكل منه حته ، كان الخالق الناطق شبه المرحومة أمى . كنت أحبه لله فى لله ، ياريته كان فضل وإن شالله كان طلع زمار، ولا طبال . أهو كان أحسن من المخفى أخويا التانى . أخد ورث البنات وكوش على الدار والغيط ، وطلعت يا مولاى كما خلقتنى . كان خشن وقلبه جاحد ، فكرك كنت أطلب منه حاجه . ولا عمره عمل زيارة وقال أشوف اختى . تعرفى أنا يوم ما جيت أتجوز . أبويا رفض إنى ألبس توب الفرح أو أركب الترومبيل إلا لما أدلق ربع الجوره بتاع الميه الوسخه. وليلة الحنه ماجبليش محففه تحففنى زى البنات ليلة الحنة . كنت هاروح بعبلى وشعرى ، ألا لولا واحده حبيبه زيك قالتلى : خدى الحجر الخفاف ده يابنت واطلعى على البحر حُكى نفسك ، وادعكى أديك ورجليك جامد لحد الشعر مايطلع منهم .
خدت الحجر، وطلعت على البحر وفضلت أدعك فى أديا ورجليا لما بقوا قشطه ، وبتراب المحمه شلت الشعر من العانة ومن تحت بطاطى ، وجبت حُمره حمرا من عند العطار ، وقعدت أدعك وأحط فى خدودى ، ومن هباب اللمبه سويت حواجبى . طب انتى عارفه . إحنا كنا ساكنين فى شارع طويل ، وآخره حاره سد ، وكان قدام بيتنا وسعايه كبيرة ، وكنا زارعين فيها شجرة جميز وشجرة نبق ، جريت وقعدت تحتيها أبكى وأندب حالى لا أم جنبى ولا خاله ولاعمه ولاجاره ، بصيت لقيت ملاك لابس أبيض فى أبيض ونازل من السما وبيمد إيده ويملس على شعرى ، ويقولى : متخافيش يافاطمة ، أنا معاكى . وبعد شويه زى ما يكون اتخيلت بأمى وستى واختى داخلين علىً القاعه وواقفين حواليا وانا بلبس فستان الفرح الأبيض القديم ، بتاع أختى الأكبر منى اللى ماتت من كام سنه ، وعمالين يسرحوا لى شعرى ، ويعملوا لى ضفاير ، ويزوقونى . وبقيت زى البدر فى ليلة تمامه ، ولما فتحت عينيا أعدت أنده : يا أمه ، يا ستى ، ياأختى . والله فاكراها زى ما نكون دلوقت . وكانت ساعه مغربيه والعريس على وصول ، والله يا بنتى كل ما افتكرها الدمعه تفر من عينى وتصعب عليا نفسى ، أعمل إيه ما هو اللى من غير أم حاله يغم ، وأنا لا أم ولا أخت ولا جاره ولا حبيبه . أبويا كان مقاطع الجيره وجيرة الجيره . وحياتك ، حلف بالطلاق ما أركب الترومبيل ، ولا ألبس ولا حد يروح معايا الفرح من أخواتى فى البلد اللى كنت ريحاها ، وحرم على أخواتى البنات حد منهم يركب الأتوموبيل ، ويجى معايا ، ولا عمل لى عشا زى البنات فى ليلة الدخلة ولا كحك ولا بستويك ، لولا واحدة حبيبة زيك، كانت صاحبة أمى الله يرحمها ، خزبت لى عيش طرى ، ودبحت لى دكر بط وجوزين حمام ، وحطتهم لى فى شنطة الترومبيل وقالت لى دوول عشاك يابنت الغالية ، وراحت مدا إيدها بجنيه أحمر كبير وقالت دى نقطتك ياغالية . قال إيه أبويا ، كان زعلان عشان أجوزت فى بلد بعيدة وسبت أخواتى الصغيرين لوحدهم . والناس كانت واقفه أمم كتير على الباب سبحان الله ، أعمام العريس وأخواته البنات والرجاله ، وأهله كلهم كان خاله عمدة البلد ، وعامل فرح كبير هناك . وسابنى أبويا أروح لوحدى زى العازبه . ورحت عند دار العريس فى بلدهم . بقى كله يخبط كف على كف ويقولو : إيه العروسه اللى جايه لوحدها. وجايه من غير رجاله وراها ولا أهل وجه جوزى عشان يشيلنى ويدخلنى الدار . قلت له : لأ .. أنا هادخل لوحدى .
أنا كنت تخينه وزى البطه . وهو كان زى العصايا . هيشيل بقرة إزاى . أتاريه كان متراهن مع أصحابه . وأنا ماعرفش . هياخد حته حشيشه مكن وحياتك . فتحت الباب بتاع الترومبيل ، ورحت نازله منه ، وداخله الدار، وجريت على جوه المندرة الكبيرة اللى فيها الحريم زى القطر، وقعدت على الكنبة وسطهم ، والكلوبات والمشاعل منورة فى كل حتة بقت الناس اللى واقفة ، تقول : إيه العروسه الجامدة دى ! وجه مع الداية ، عشان ياخد وشى – العرض – مبقاش عارف يحط صباعه فين ؟ شاب وغشيم . رحت رفساه برجلى ، وقلت له : أوعى أنتَ عايز تضحك الناس علينا ، ورحت ماسكه الشاش ودبه صباعه فى نفسى زى القردة ، راح الدم طالع . جم النسوان يدخلوا . قالهم : خلاص خلاص ، وراح رامى الشاش فى وشهم ، وعاملى فيها عنتر .
ويوم ورا يوم..
اكتشفت أنى خدت راجل عره . طول النهار قاعد على القهوه يلعب قمار. ويقول : أنا جدع .
وسابنى لأبوه الرجل الكبير العجوز الأعمى ، يبهدل فيا ، كان بخيل موت . وساكك على الأكل . ولما الجوع يقرصنى . أقوله : يا راجل اشتغل زى خلق الله . فلح فى الأرض بتاعتك ، أزرع زى الفلاحين . يضحك ويشقلب راسه لورا . ويقول : هو فيه رجل بيه بيشتغل فى أرضه يا مره – أنا بيه – وخالى العمده . وأبوه لما مات ، وهو ورث الأرض فضل يبيع قيراط ورا قيراط . ويلعب قمار ويرجع من القهوه خسران ومحشش . ولما أطلب منه قرش نجيب عشا . كان يمسك البلغه اللى لبسها في رجله ، ويفضل يضرب على راسى .. يضرب يضرب لحد لما كان الوش يروح فى ناحيه والنعل فى ناحيه . ومره جاب رطل لحمه واداه لأخته تسويه . وقعد ياكل . وجه ابنه من بره . وقاله : هات حته يابه . مسك اللحمه على طول دراعه . وقال للكلب : كشك.. وراح رامى له اللحمه . ومرضيش يدى ابنه حته . يعنى للكلب ولا ليك يا مسلم . رحت تانى يوم وحياتك بايعه فردة الحلق اللى فى ودنى . ومشتريه رطل لحمه من عند الجزار ، وسويته وناديت عليه وقلت له : تعال يا قلب أمك كُل لما تشبع . ورحت قافلة عليه باب المندره ، بالمفتاح . ولما جه أبوه من بره . وسألنى : فيه أكل إيه يا مرة ؟ لطمت على خدودى ، وقلت له : جاك مر خره . هو انت سبت نكله عشان تطفح . ورحت ساحبة مشنة العيش وطبق الجبنه القديمة ، وقلت له : كُل . قعد ياكل زى المساكين جنب الحيط فى وسط الدار . تفتكرى دى عيشه دى ؟ هجيت . خدت الواد والبنت صغيرين ، وطلعت من البلد ، بلد تشيلنى ، وبلد تحطنى . لحد ماجيت مصر، وقعدت جنب جامع السلطان أبو العلا حوط علينا وسترنا ، أو مال أنا أحبه ليه . والواد اشتغل واجوز . والبنت اجوزت وخلفت . في الأول قعدت بشوية فول سودانى وبلح ناشف ، ولب وحمص وحلاوة . وبعدين بليت شوية ترمس . وحبه حبه كنت كل مولد أبل شوية فول نابت . وأجيب شوية شخاشيخ ولعب أطفال ، واعمل منديلين بقويه . وأعد أنده على العيال : شمر كمك وعيط لامك وهات تعريفه . وفضلت من مولد لمولد . والحبايب تكتر . وعملت دروا . ورا المسجد عند عطفة باب السر وبعدين حوطها بخيش على قالبين طوب واهى ماشيه ".
صمتت هند ولم ترد .
وقامت أم جابر من مكانها على الأرض ، ودخلت إلى المطبخ ، تضع الأكواب الفارغة .
وبعد أن أغلق حمزة الخط على صوتها الرقيق . بعد يومين من معرفته خبر حبها الذى فاجأه والقصة التى كتبتها . اتصل بها وأعتذر عن سوء تصرفه . وتعاطفت معه وصدقته .
ومن هنا..
ومنذ هذا اليوم عرفت هند كيف تعشقه . وكيف تجعله يتعلق بها ، فى البداية ولأيام طويلة . كانت تفكر جيداً كيف صدقته . بعد أن قال لها : لستُ أنا . كادت أن تنهره . أن تغلق الخط فى وجهه . أن تسبه . أن تقول له : طظ فيك. ولكنها لم تفعلها . وكلما أدارت قرص التليفون ، وسمعت صوته آتياً من بعيد متلعثما خجلا ، تعلقت به أكثر وعشقته.
انتهت أم جابر من غسل يديها ، والأكواب ، وجلست على الأرض فى أسى. ثم نادت على هند : وأخرتها يا بنتى؟ انتبهت هند إلى صوتها : أيوه ياأم جابر! دارت أم جابر فمها بطرحتها وهى تضحك ، بسألك : وأخرتها ؟ أخذت هند نفساً عميقاً ، وملأت صدرها بهواء الليل البارد : مالهاش آخر.. مدفوعة ناحيته وبحبه من غير قصد أو تفكير.
يا بنتى الرجل كل ما يلاقى الواحدة ساكته وسهله ومستسلمه له بيطمع . واللى مايخافش من ربنا خافى منه .
نزلت دمعة صامتة من عينى هند ولم تعلق . كل ما فعلته . أخذت تنظر إلى البيوت والشارع ، وبعض المارة السائرين . ومئذنة السلطان العالية وهى تستدفئ بشالها وتحبكه حول كتفها بقوة
– كل يوم يا أم جابر. أقول هاسيبه. ماقدرش.
– وأخرتها.
– فيه حاجات ملهاش آخر. مابنسألش إيه أخرتها. لكن نفضل مدفوعين كده زى ما يكون حد بيزقنا بايده .
– الشيطان يا بنتى هو اللى بيزقك على الغلط .
– هى كدا علاقتى بيه ملهاش حل .علاقة لا تنتهى . لكن بتسبب لى آلام عظيمة وكبيرة .
– أقول إيه ربنا يهدى ربنا يهدى .
أخذت أم جابر طرحتها ، وقامت واقفة . لأنها تعرف أن هند سوف تدخل فى حالة من البكاء الشديد ، وسوف تدخل حجرتها لتنام . وهى لا تحب أن يراها أحد هكذا مهزومة وحزينة . تقوم أم جابر تفتح الباب ، وتنزل درجات السلم وهى ترفع صوتها : تصبحى على خير يا ست هند . وقولى اللهم اخزيك يا شيطان .
وتعود أم جابر كل يوم من نفس المكان . تعود من القصر من عند الست هند ، عابرة كوبرى أبي العلا الفاصل بين الزمالك و بولاق ، وترفع صوتها وتنادى : يا على يا نورى . انتَ فين يا وله .
ما إن تعبر أم جابر الكوبرى آتية من الزمالك ، وتصبح على الجهة الأخرى من النيل فى بولاق ، حتى تصيح منادية على حفيدها على الذى يلتبس عليها اسمه مع اسم جده ، فتصرخ منادية بأعلى صوتها : يا على يا نورى . أنتَ فين يا وله .
يخرج على من البيت طفلا ، حافى القدمين فاتحاً حضنه ، يستقبل جدته ويأخذها بين ذراعيه .
وهى تفتح ذراعيها الكبيريين وتحتويه وتقبله قبلات حارة وسعيدة . ثم يسحب كل منهما الآخر ويدخلان إلى البيت . تتربع أم جابر على الأرض فى الحجرة أمام السرير الجالسة عليه زوجة أبنها جابر وإلى جوارها نور الله فتضحك نور وتناديها : وأنا يا جدتى ، مش حبيبتك. تخجل أم جابر، وتفتح ذراعيها للطفلة الصغيرة : دا انتى ستى ، وتاج راسى ياقمر . تنط نور فوق جدتها ، وتقبل رأسها : كنتى فين يا جده طول النهار؟ تمسح أم جابر على رأسها وترقيها وهى تقرأ الفاتحة والصمدية وقل أعوذ برب الفلق . – ليه يا نور؟ – أبويا جابر كان عايزك . تدفس نور رأسها فى صدر جدتها . احكى لى حكاية يا جده .. طب قوليلى فزوره . تضحك أم جابر وتملس على رأسها : يا نور، الحكايات بالليل حرام.. فلوسنا تصدى .- طب قولى يا جده .. واوعى تنامى فزورة صغيرة ."حجر حجنجر فى الأرض ينجر، يبيض ويفقس ما حد ينضر."
يبقى إيه يانور ؟ – الثعبان يا جده ، قولتيها ميت مره ، أنا عايزه حكايه طويله ، حكايه ماتخلصش . تفضلى تقولى وانا اسمع . – طيب اسمعى يا ستى ، صلى على النبى .
– عليه الصلاة والسلام .
" كان ياما كان يا سعد يا إكرام ، ولا يحلى الكلام اللى بذكر النبى عليه الصلاة والسلام . كان فيه واحده غنيه وكانت عايشه لوحدها فى قصر كبير.. كبير ، قام فى يوم من الأيام جهزت العشا ، وقعدت عشان تاكل ، بصت لقت نفسها لوحدها ، صعب عليها وراحت معيطه ، وبعدين كبس عليها النوم ، قامت نامت . بعد شويه جه حرامى عشان يسرقها ، لقاها نايمة جنب الأكل ، جميله زى القمر حب يسرق الدهب ، لقى نفسه جعان : قال لما آكل . كشف الأكل ولسه بيقول باسم الله . راحت مفتحه عينيها وقالت له : من ترك شىء فى الحرام ، فى الحلال ناله . قالها : تتجوزينى ! قالت له : أجوزك . واجوزها واتعشوا وناموا ، أتريها كانت ملكه وهو ما يعرفش . وبص لقى نفسه عايش فى قصر كبير، وخدم وحشم . وعاشوا فى تبات ونبات وخلفو صبيان وبنات . وتوته توته ، خلصت الحدوتة . وكنت هناك وجيت وكلت فرخه وديك ".
غطت نور فى نوم عميق . قامت سمرة زوجة جابر من مكانها وأخذت الطفلة ووضعتها على السرير ثم جلست أمام حماتها على الأرض وحدثتها : وأخرتها يا أم جابر؟ تتصنع أم جابر الغباء وتضع يدها تحت رأسها ، ثم تفرد جسدها على الأرض ، وتذهب فى النوم . ومازالت سمرة تحدثها : وأخرتها يا أم جابر . – خليها على الله يا سمره . واقصرى الشر ونامى . أم جابر تتصنع النوم . ولكنها تظل تفكر وتفكر فى على ونور وجابر وسمرة ، والزمن الذى سيأتى ، وأحياناً تصرخ وهى نائمة . يا سلطان يا أبو العلا فك الكرب عنا بقى .
تقوم زوجة أبنها فى الفجر تراها مازالت مستيقظة وحولها بركة كبيرة من الدموع ، تملس على رأسها وتناديها : وأخرتها يا خالتى ؟ تغمض أم جابر عينيها ، وتنقلب على الجانب الآخر : مالهاش آخر يا بنت اختى . نامى . ولا اسكتى ، ولا غورى فى داهيه من قدامى . تقوم سمرة واقفة ، تفتح النافذة الضيقة المطلة على جامع السلطان تسمع أذان الفجر، تبكى . وهى تتحدث : وأخرتها يا سلطان . فين سرك الباتع . تقوم أم جابر واقفة وهى تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم تدخل الحمام وراء الستارة المعلقة على الحائط ، تغسل وجهها وتتوضأ ثم تخرج للصلاة . تخرج سمرة وراءها ، تسير فى الحارة المجاورة . يأتى جابرمن العمل فى فرن العيش ليلا ، حاملاً بين يديه العيش والفول ، ويدخل منادياً : يا على، يا نور. يقوم كل منهما من مكانه ويحتضناه بقوة . تأتى سمرة حاملة جردل الماء . ثم تعد الفطور. وتصنع سندوتشات المدرسة. يجلس جابر على السرير متعباً : هى أمى خرجت ؟ تقف سمرة تلف السندوتشات وتضعها فى الشنطتين : من بدرى . من ساعة الفجر . يتمدد جابر على السرير مغمضاً عينيه وهو يحدث سمرة : أمى بتتعب قوى . وأنا مش قادرأحوشها عن الخدمة فى البيوت . تكمل سمرة الحوار وهى تأكل باقى الفول من الطبق : ومش هاتقدر . أمك مش هاتسيب الخدمة فى بيت هند أبدا ، بتقول : لا فراق إلا بالخناق . ينقلب جابر على جنبه الآخر، ويغط فى النوم . تخرج سمرة مع على ونور، تحمل لهما الشنطتين ، وتخرج من الحارة الضيقة المحصورة بين مبنى السلطان ومبنى وزارة الخارجية . وتسمى حارة باب السر .
– ليس بهذا الشكل تُحل الأمور يا هند !
جلست هند ليلة كاملة من ليالى يناير الباردة فى النافذة المطلة على النيل ، تحدث نفسها ، وتتذكر جملة أم جابر لها ، وحديثها الطويل معها . كانت دائماً تضحك هند مع أم جابر وتقول لها : إحنا لتنين من محاسيب الست يا أم جابر . تضحك أم جابر بدرديرها والسنة الوحيدة تظهر كأنها نتوء وسط بحرهائج . تستغرب هند بماذا تقصد أم جابر . تقول أم جابر: الست هى مبنى وزارة الخارجية الجديد االله يسامحها ، كانت زمان كل الأرض الواسعة دى شوارع وبيوت ، وناس عايشة ، الوزارة خدت الدار والجار ، ودفعت للناس ملاليم ، أنا الوحيدة اللى رفضت أبيع ، قسموا نص البيت ، خدوا حتة كبيرة وسابولى حتة قد الحق صغيرة ، يادوب واخده سرير ودولاب . تضحك هند : ولا يهمك يا أم جابر، ربنا موجود. تبكى أم جابر وتمسح دموعها . الجار من ساعة ما راح ، والفرح ما رجعش .هند لا تصدق حكايات أم جابر الكثيرة فهى ترى أن الزمن قد اختلط عليها ولديها بعض المصطلحات الخاصة التى لا تفهما هند ، والحكايات الغريبة التى تحكيها عن الماضى ، أصبحت تشبه الأساطير، ولكن ترويها باستمتاع وحب . تقول أم جابر وهى تنظف الحجرة ، طب أنت عارفه يا ست هند : مرة الشيخ إبراهيم الدسوقي اللى فى دسوق ، سأل الشيخ السيد البدوي اللى فى طنطا ، وقال له : يا شيخ العرب ، لو أنا أختفيت تعرف فين مكاني ؟ ضحك السيد البدوي وقال له : ولوكنت في بطن الجبل أعرف . راح الشيخ إبراهيم الدسوقي أختفى بين عيني الرسول (ص) وفضل السيد البدوي يدور عليه في سابع أرض ، وسابع سما ، وآخر ما تعب قال : يا رسول الله أعني .
فجأة لقى إبراهيم الدسوقي قدامه بشحمه ولحمه وبيضحك وقال له : أنا كنت بختبر معرفتك وقدرتك يا شيخ العرب . ظلت هند تضحك وهي غير مصدقة : يا وليه يا خرفانه كفاية كدب بقى . إيه عرفك بحكايات الشيوخ والدراويش وكراماتهم ؟ تضحك أم جابر وهى سعيدة : أعرف من الناس ، كل الناس بتحكى وعارفين الحكايات دى وحفظنها زى اسمهم ، مش كل الحكايات ولا العلم فى الكتب بس ، فى الحياة ياست هند ، وجيل بيحكى للجيل اللى بعده ، وكأنه بيسلمه الرسالة ، وأنا أمى كانت حافظة حكايات كتير عن مصر زمان ، وجدتى كانت تحكى لنا حكايات عن بلاد الشام ، والحجيج ، دى حكت لى عن جد جدى اللى راح يفحت البحر مع الناس زمان فى الفرما ، وهربوا من الضرب والجوع ، وراحوا بلاد الشام ، وهناك جدى قابل جدتى وأجوزها ، ولما مات هى جت مصر ، وكانت أمى عيلة صغيرة على كتفها ، وأولاد الرجال اللى هربوا مع جدى من السلطة . هند لا تصدق حكايات أم جابر ، ولا تصدق أعذار حمزة ، وتشعر أنها بين فكى رحى أم جابر وحمزة . وتحدث نفسها : كذلك أنتِ يا هند تتداخل عندك الحكايات والصور وتتشابه الهزائم . سمعت هند جرس المدرسة ، قامت من شرفتها وأخذت الشنطة ، وخرجت كى تستعد ليوم طويل من الشقاء والألم ، داخل جدران قديمة فى مبنى قديم كان قصراً قديماً لأغا خان وتبرع به سبيلا ووقفاً لأبناء الفلاحين يتعلمون فيه فى ذلك الوقت الماضى البعيد وقبل بناء مبنى وزارة الخارجية بعشرات السنين . ولم تستطع وزارة الخارجية الحصول عليه لأنه وقف خيرى للعلم ، فأخذته بين أحضانها كطفل رضيع، ترعاه وتتكفل به . والسلطان يطل شاهداً من زاويته ومأذنته العالية ومبناه الكبيرالقديم جامع السلطان أبو العلا – قطب الأقطاب – أحد التاسوع فى المحكمة الشعبية . وحارس بولاق القديم الذي قتل الوحش الذي خرج على الأهالي من البحر . تنزل هند الكوبرى ، وتقرأ الفاتحة ثم تدخل إلى المدرسة وتبدأ يوما جديدا .

******************************************



لماذا أكلتِ قلب حمزة يا هند؟


رن الموبايل..
خرجت هند من اللجنة. وعينا ناهد صديقتها تتابعانها. حاول التلاميذ الهرج. ولكنها زعقت فيهم من الخارج : إيه يا روح أمك أنتَ وهو. صمت التلاميذ، ونظر كل منهم فى ورقته.
فتحت هند الخط وتحدثت بهدوء شديد .
– أهلاً.
..
– كويسه.
..
– عندى برد.
..
– أصل إمبارح روحت مشى.

– كان فيه صخرة كبيرة على قلبى. قلت أكسرها بالمشى.

– وهى دى أول مره.

– طول عمرى لوحدى.

– أخاف. من إيه؟

– الليل. وكلاب السكك.
اطمن ماعنديش حاجة أخاف عليها.

– أروح بدرى لمين؟

– اطمن أنا بخير. شكراً على سؤالك.
ثم أغلقت الخط بعصبية وعادت ، جلست وسط التلاميذ فى لجنة الأمتحانات . أخذت ناهد صديقتها ، تنظرإليها صامتة. والتلاميذ ازدادوا خشوعاً وصمتاً. كانت نظرات ناهد تتفحصها تحاول أن تعرف ماذا حدث ، ومن الذى كان يحدثها ، ولماذا هذاالصمت الرهيب المخيم على وجه هند ؟ فتحت فمها كى تسألها. أشارت هند لها بيدها أن تصمت. قامت ناهد من مكانها وأخذت تدور فى اللجنة ذهاباً وإياباً ، وهى عاقدة ذراعيها تستدفئ بهما من البرد. هند مازالت مكانها صامتة. تتأمل التلاميذ والأوراق ، وتشعربلسعة برد ديسمبر تأتى إليها من الباب. تتأمل فى صمت ، ثم تضم الشال حول كتفيها ، ومسحت بيديها دمعة دائمة التعلق على وجهها ، لا تسقط إلا إذا مسحتها هند بكف يدها فى صمت . وأخذت تردد قصيدة قديمة لصديق كانت تعرفه وتحفظها عن ظهر قلب .
قلبي يحدثني بأنك متلفى روحي فداك عرفت أم لم تعرف .
مالي سوى روحي وأذل نفسه في حب من يهواه ليس بمسرف.
دخلت أم جابر من الباب حاملة لفة فى يدها وهى تضحك. يا ست هند. ياأستاذة ناهد ، الفطور. أشارت لها هند أن تظل مكانها وخمسة فى وجهها. باقى خمس دقائق. جلست أم جابر على باب اللجنة تنتظر، وأخذت تتحدث من بعيد: يا ست هند. شوفى لك صرفه مع السكان اللى فى العمارة القديمة . أنا تعبت من كتر المناهدة معاهم . مُصرين يا حبيبتى تدفعى فلوس الميه ، زى ما كانت المرحومة معوداهم . وقالوا العقد شريعة المتعاقدين . أشارت لها هند ثانية أن تصمت. ولكن واصلت أم جابر كلامها. ومازال الأكل فى حجرها تغطيه جيداً كى لا يبرد : ما هو حرام تدفعى 150 جنيه مياه كل شهرين . والبيت بيلم ملاليم . دا ظلم والله العظيم .
ضحكت ناهد من بعيد واقتربت من أم جابر: الصيت ولا الغنى ، يامرضعة قلاون .عمارة ضخمه في شارع 26 يوليو وبتلم مائة جنيه. نظرت هند فى ساعتها ، وقامت تجمع الأوراق من التلاميذ. دخلت ناهد كى تساعدها. خرج أول التلاميذ صائحاً : شى حا ناجحين إنشاء الله.
ضربته أم جابر على مؤخرته بيدها ونهرته : على نيلة إيه ، قال يا عنى الواد شملول وفالح .
أخذت ناهد الأوراق وخرجت. ودخلت أم جابر، وفردت ورقة الطعام على الدرج ، ونادت : يالله يا غاليه ، سندوتشات الفول والطعميه هاتبرد . ضحكت هند وأمسكت الورقة : طعميه وفول فى اللجنه يا أم جابر! أمسكت أم جابر رغيفاً وقسمته نصفين، وأخذت تأكل فى شراهة : وهو الزبادى أكل ، كلى كلى الفول مسمار البطن . ضحكت هند : عارفة ياأم جابرالفول علف الحيوان . ضحكت أم جابر وهى تأكل : الفول فطور الملوك ، دخلت ناهد حاملة كوبين من الشاى، وهى تضحك : كدا تسبقونى . ضحكت أم جابر وقالت : قربى باسم الله ، الست هند بتقول الفول علف الحيوان . وضعت ناهد الشاى على الدرج أمام هند وأم جابر وهى تضحك : بالهنا والشفا أنا صايمه . النهاردا وقفه عرفات. صمتت هند ولم تعلق. ضحكت أم جابر وهى تمضغ الطعام بدارديرها . الست هانم سمرة مرات ابنى نسيت تقولى، على العموم هاعتبر الأكل ده سحورى ، وأكمل اليوم صيام . ضحكتا هند وناهد بصوت مرتفع . جمع بعض المدرسات من الخارج حولهما : خير يا أبلوات . مضحكونا معاكم . ضحكت ناهد وهى لا تستطيع أن تسيطر على نفسها : أم جابر بتتسحر دلوقتى . ضحكت أخرى وهى تعدل الإسدال على رأسها : نعمل إيه بقى ! حد يقول امتحانات يوم الوقفة . الخبر عرفناه من الراديو بالليل ، وفيه ناس سمعت وعرفت ، وناس نامت . مسحت أم جابر فمها بورقة وقالت : أنا عامله حسابى الصوم بكره. إيه اللى خلاه النهاردا ؟ ضحكت هند ضحكات متواصلة ، وبصوت شديد كادت أن تقع على الأرض لولا أنها أسندت يدها على الدرج وقالت : نعمل إيه البدو سرقوا يوم من الشهر! صمت الجميع صمتاً شديداً، ولم يستطع أحد أن يعلق، أو يحاول أن يناقشها. فهى الوحيدة التى نطقت ، وصمت الآخرون . أمسكت أم جابر كوب الشاى ، وأعطت هند الكوب الآخر وقالت : اشربى.. اشربى .. الرب مسامح . خرج الجميع، وتركوا الفصل. وهند واقفة أمام الباب ، مازالت تتأمل الجملة جيداً ، وهى تبتسم . اقتربت ناهد منها وسألتها بهدوء شديد : مين اللى كان بيكلمك على الموبايل يا هند؟ صمتت هند ولم ترد عليها .
«المريد الصادق لا يخوض في الذات تعظيما لجانب الله عز وجل. المريد الصادق لا يرجع عن الطريق، ولو قاسى كل الأهوال . وكل مريد لا يجد نفسه صادقا في طلب الطريق وجب عليه الخروج منه .»
جلست أم جابر إلى جوار ناهد تسألها عن حكاية هند بنت عتبة وحمزة عم الرسول وهى مندهشة : وهى صحيح كَلت قلبه يا ست هند؟ كَلت كبده يا أم جهل زى ما انا هاكل كبدك دلوقتى عشان القلقاس لسه على النار ومستواش واليلة ليلة الغطاس ، وأنا بحب أعمل قلقاس بالسلق زى المرحومة أمى ، وهند طلبته منى . ضحكت هند وهى جالسة أمام النافذة ، مكانها المفضل ، حيث تحب أن تنظر إلى النيل والشارع ومبنى الخارجية. أمسكت ناهد السكين ، وأخذت تقشرباقى القلقاس ، بجوار أم جابر وهى تتعجب من هند والتصرفات الغريبة وغيرالمفهومة . صرخت ناهد متزمرة من مكانها . يا هند حد ياكل قلقاس النهاردا ؟ نصوم نصوم ونفطر على قلقاس فى وقفة عرفات . أيوا يا ست ناهد ، النهاردا عيد الغطاس ، ودى عادة مصرية قديمة عند المصريين . انتظرت ناهد قليلاً غير متوقعة الرد ، ثم قالت مندهشة .
– واحنا مالنا ومال الغطاس وعيد الغطاس دا عيد المسحيين . النهاردا وقفة عرفات !
قامت هند من مكانها بجوار النافذة المطلة على الكوبرى ، وهبدتهاعلى كتفها :
" النهاردا يوم الدموع يا أم جهل ، النهاردا بكت إيزيس ونفتيس على أخيهم أوزوريس بعدما قتله اخوه ست ورمى جثته داخل التابوت في النيل " .
صمتت أم جابر وهى تنظف السلق بهمة ونشاط . وهند عيناها تراقبان الطريق . يا ناهد قلتى للعيال ييجوا من المدرسه على هنا. – والله قلت لهم يا حبيبتى . وعلى العموم محمد ومحمود صايمين . ردت أم جابر مكملة الحديث .- ونور وعلى كمان ، وجابر ومراته ، صاموا من غير سحور، لما عرفوا إن النهاردا الوقفه ، مع إنهم كلوا سندوتشات مع العيال الصبح .. يبقى صوم إيه دا ؟ ضحكت هند وهى تضع كوب الشاى الفارغ على المنضدة التى أمامهما وتحبك الشال حول كتفيها ، ألا أنتى خرجتى الفرش فى البلكونة يا وليه ؟ – من بدرى . بس الدنيا مش هتمطر . شكلها مصحصح ودافى . والصبح طوبت جسمى من مية الزير. والبت سمره مرات ابنى دخلت ورا الستاره وعملت زيى . قالت لى : عشان أعيش كتير زيك يا خالة . أهو كله كلام . حد عارف عمره لحد فين . تعرفى يا ست هند أبويا زى اليومين دوول كان ييجى من الغيط حامل ومعبى خس وملانه وفول أخضر وقصب وقلقاس وسلق . وكانت ستى تضحك وتقول : روحى يا طوبه ياللى ما بليتيلى عرقوبه. وكانت أمى ترد عليها : بكره أخوها أمشير يخلى عضمك على الكوم نسير. يضحكوا ويقولوا : يقبح مهما يقبح فيه روايح من روايح الصيف. كان خير يا ست على خير. تقشر أم جابر القلقاس ودموعها تتساقط على خديها . والله اللمه حلوه . واحنا عيال كنا نلعب ونضحك. ونتعشى ليلتها قلقاس وزفر، ونفضل نمص قصب ونقشر برتقان ونكرع . والدموع نازله من عينينا من كتر الضحك. قامت ناهد من مكانها ، وأخذت كوب الشاى كى تصنع غيره . سألت أم جابر هند مستفسرة: هى صحيح ياست هند زوجة أبو سفيان كلت قلب حمزة عمى النبى ولا كبده يا ست هند . ضحكت هند وهى ترنو إلى الخارج باحثة بعينيها عن الأولاد – كلت كبده يا وليه. سلطت عليه العبد وحشى . أعطته حريته مقابل قتل حمزه .
– حمزة مين؟
– عم الرسول يا أم جهل.
– وحصل.
– الله أعلم ، فيه ناس قالوا أكلته ، وناس قالو دغدغته بسنانها وتفلته على الأرض ، وناس قالوا دا مجاز ، حصل يا أم جابر جايز . – أكيد اللى تعمل كدا تبقى جباره. اسمها إيه؟ – هند.. هند بنت عتبه . انتظرت أم جابر قليلاً ثم قالت غير مصدقة : وأكلت كبده إزاى ؟ هبدتها هند على كتفها وقالت : زى ما أنا هاكل كبدك دلوقتى يا وليه خلصى . وانتى ثرثاره كدا. – عايزه أفهم، هى هند كلت كبد حمزه ازاى؟ وانتى يا ست هند بتخافى من خيالك.أخذت هند السكينة ، وجلست مكان ناهد وأخذت تقطع القلقاس : بكره هاكل قلبه. واقطعه بسنانى عشان استريح .
– هو مين يا ست؟
– اللى بالى بالك.
أتت ناهد من المطبخ حاملة كوب الشاى ، ووضعته على التربيزة ، ثم أخذت السكين من يد هند وجلست مكانها. قامت هند، وأمسكت كوب الشاى، وهى ترشف فى بطء. مالت ناهد برأسها على أم جابر، وسألتها بصوت هامس : هند هتاكل قلب مين ياأم قويق ؟ خفضت أم جابر رأسها وهى تضحك والدموع تتساقط من عينيها..- اللى بالى بالك. – لأ.. لأ. هند حاجه تانيه ، مش ممكن تاكل قلب حمزه .
" من شرط المريد أن يصحب شيخه بلا نفس ولا ملك ولا اختيار. بل يرى نفسه ملكا لشيخه يتصرف فيه كما يشاء. ومن طلب الوصول إلى مقامات الرجال بغير محبة شيخ ومخالفة نفس، فقد أخطأ الطريق ، ولا ينال المريد الصادق درجة الرجال حتى يبذل الروح ويفنى الإرادة تحت مراد شيخة ".
قامت هند من مكانها، وهى تتجه نحو الباب : شهلى منك لها . المغرب قرب يؤذن . والعيال صايمين . ثم فتحت الباب ، وأخذت تقبل الأطفال فى حب وود . وجابر وراءهم حاملاً لبشة كبيرة من القصب. وسمرة خلفه حاملة كيسين كبيرين من البرتقال.
فى 26 يوليو.
وبعد تغير البدو ليوم وقفة عرفات عام 2005 . ضحكت أم جابر على اليوم الضائع من عمرها والذى ولدتها فيه أمها. وسخرية هند منها ؛ لأنها لا تعرف تاريخ ميلادها. وهذا العام بالذات قررت الاحتفال به. قالت لها هند: يا وليه يا فقده الزمن، أنت عارفه مولوده إمتى؟
ضحكت أم جابر ودارت دراديرها بيدها : أيوه يا ست هند. أمى قالت: ولدتنى قبل وقفة العيد الكبير بيومين. ضحكت هند وهى تجهزنفسها للنوم ، سنة كام لو شاطرة؟ رصت أم جابر الغسيل النظيف ووضعته داخل الدولاب : سنة اللى سنة. أهو اتولدت وخلاص.كانت هند تعلم أن أم جابر كانت تخدم فى بيت والدها منذ سنوات بعيدة ، وظلت فى البيت بعد وفاته. ثم جاءت مع هند إلى هنا. أخذت هند تشعل عوداً من بخور الصندل وعوداً من المسك، وهى ترص أشياء كثيرة داخل صندوق صغير. التفتت أم جابر نحوها وسألتها بتطفل وهى تضع عينيها داخل الصندوق: إيه دا يا ست؟ مازالت هند مشغولة بأشيائها، قالت دون أن تقف عن الحركة : الصندوق ده يا أم جابر فيه أهم صور فى حياتى. وفيه حاجات بحبها. صورة أبويا وأمى، وصورة العدرا والمسيح، وصوره جمال عبد الناصر، وصوره حمزه. ودى صوره نور وعلى. انتبهت أم جابر، ونظرت نحو الصندوق كأنها تعرفه ، ثم صرخت: مش ده صندوق الست رباب. تمددت هند على السرير، وأغلقت عينيها. – هو يا أم جابر.. هو. ذهبت أم جابر خارج الحجرة، وقبل أن تطفئ النور قالت: تصبحى على خير يا أم نور. اعتدلت هند فى مكانها وقالت صارخة : اقفلى الباب ده وراكى يا وليه يا خرفانه. نور أخت على، وبنت جابر وسمرة. وتصبحى على زفت .
"ومن رأيتموه يطلب الطريق فدلوه علينا، فإن كان صادقا فعلينا وصوله، وإن كان كاذبا طردناه، لئلا يفسد المريدين ، فإنه لا يصل إلى المحبوب من بغيره محبوب" .
********************************
هند .. ياهند !!


كل مريد عنده حسد لإخواته لا يرجى له إرتقاء أبدا .
لأن حمقها عليه ، قطع همزة الوصل بينهما . عادت حزينة تدق جرس الباب. تفتح لها أمها صامتة ، ثم صرخت فيها : مالك يا بنتى . تدخل هند حجرتها صامتة ، تلقى بثقل جسدها على السرير، متقطعة الأنفاس، والدموع فى عينيها قد تحجرت ، ثم صرخت بعلو صوتها : ألحقونى .
كانت المدينة البعيدة ، النائمة فى أحضان الصحراء هى الملاذ الأخير لها. فاختارت أن تكون الرحلة الأخيرة لها هناك يتواصلان يمد كل منهما شباكه المصنوعة بخيوط من الحرير والحب ، تجاه الآخر، علهما يقتربان ، يتحدان ، أو يمتد الجسر الذى سقط بينهما فى يوم من الأيام . إنه (حمزة ) شيخها وهي مريدته الصغيرة .
دفعت الباب ودخلت.
كان استقباله لها حاراً، حميمياً. وكان البرد قارصاً يحنى ظهره للأمام، وعيناه مليئتان بالدموع
ولكنه لم يراها ؛ لأن عينيه كانتا مغمضتين . فانصرفت مسرعة تجاه الباب تجرى، وهى تجر أذيال الخيبة وراءها. وهو يناديها بعلو صوته : هند.. ياهند !!. كان معتقداً أنها تنفر منه ، وتستهين به لأنه أعمى ولا يراها جيداً.
« كل مريد عنده حسد لإخواته لا يرجى له إرتقاء أبدا ».
أخذ يرددها كثيرا بصوت عال .وعندما عاد بعصاه إلى كرسيه ، ليستريح ويشعل سيجارته . كانت هى قد اختفت تماماً ، ولم تعد تسمع صوته ، ولا نداءه .
" كل مريد عنده حسد لإخواته لايرجى له ارتقاء أبدا ".
الشمس انطفأت. وعاد الليل إلى سكونه الدائم . والصوت مازال يناديها : ياهند.. يا هند !!.
من هنا كانت حاجته إليها. ولكنها لم تدرك ذلك جيداً. استيقظت هند على صوت أم جابر، وهى تفتح الباب وتدخل ، حاملة فى يدها كوباً كبيراً من الماء ، وتضىء النور. خير.. خير، اللهم اجعله خير. مالك يابنتى بتصرخى .اعتدلت هند فى جلستها على السرير وهى تفرك عينيها وقالت : وحش ! شفت وحش كبيرعمال يجرى ورايا ، وعايز ياكلنى .- يا ساتر يارب.. احكى يا بنتى .- شفت اللهم اجعله خير.. أبويا فى صحرا كبيرة ملهاش آخر، وهو عمال ينده عليا، وأنا مش سمعاه . لكن عماله أجرى ، وهو يجرى ورايا ، وأنا خايفه .. وبعدين شفته تانى لابس جلبية أبيض فى أبيض ، ونايم على الأرض جنب السرير بتاعى ، وحاطط تحت راسه مخدة بيضا ، وأنا عماله أئن من الألم ، وهو عمال يقول بصوت هادى : أهدى ، أهدى يابنتى .. وأنا عماله أئن ، الغريبة إنى كنت سمعه صوتى ، سمع صوت الأنين فى ودانى ياأم جابر ، وهو عمال يقولى : أهدى .. أهدى . ولما زهق منى ، قام وأخذ المخدة ، وخرج من الحجرة ، وهو بيقولى : أهدى .. أهدى . وأنا سامعه صوتى بائن بشدة فظيعة . أقتربت منها أم جابر وهى تمد يدها بكوب الماء.- خير يا بنتى خير.. اشربى. هو كان بينده عليكى ليه؟ – الله أعلم. بس أنا شفته كان أعمى . وانا كنت خايفه منه قوى. كنت حاسه كأنه وحش كبير ومخيف ، عايز يفترسنى .- هو خد منك حاجة ؟ – لأ .. لا خد.. ولا أدى . لكن كان بينده عليا بصوت عالى..هند.. يا هند !!. وبيقول كلام كتير مش فاهماه ، أنا خايفة ياأم جابر قوى .
"كان بيقول : المريد ، حسد ، إخوانه.."
أخذت أم جابر كوب الماء من يد هند وقالت : بالهنا والشفا .اقتربت هند منها وسألتها : ألا هو جعفر أبويا مات إزاي يا أم جابر؟
نظراً لجمالها، والتفاف البنات حولها، ولصوتها الجميل رنة حلوة، كانوا يسمونها شادية . تقف فى الحفلات المدرسية تشدو بصوتها الجميل ، بعض الأغانى والقصائد. والجميع ينصتون بإهتمام . ضبطها يوماً أبوها ، تقف أمام مرآة الحمام وهى تغير ملابسها بملابس أخرى ، وتضع كماً هائلاً من المكياج على وجهها لدرجة أفزعته . فتحت باب الحمام ، وخرجت تغسل يديها على الحوض ، وهى غير مصدقة.. وهو من آن لآخر ينظر إليها. ثم انفجرت ضاحكة . إيه يا بابا كل البنات كدا ! فوجئ بأنها تعرف ما يدور فى رأسه . وأنها كبرت . سهمت للحظة ، ثم نظرت إليه طويلاً ، نظرة عميقة متحدية ، ثم أعطته قبلة فى الهواء وخرجت . زحف الصداع على رأسه ، وفوجئ بها تكاد تنفجر، وضعها أسفل الصنبور والماء البارد يسقط فوقها ، ثم خرج إلى الشارع مهرولاً. أوقفته البنت التى تعمل بالمكتبة عنده ونادته : يا عم جعفر.. يا عم جعفر. التفت بكامل وجهه نحوها ووقف .
…….
– مالك يا عم جعفر؟
تركها ، وانصرف .
ثم نادت البنت بعلو صوتها على البنات الواقفات أمامها : يا هند ، يا ناهد ، يا صباح ، تعالوا يا بنات. أتين جميعاً دون معرفة السبب اعتقدن أن هناك مشكلة ما فأسرعن: خير، فيه حاجة ؟ قالت البنت وهى تمسك ورقة وقلم : أنا عايزه أسمع أغنية شاديه الجديدة ، أغنية خلاص مسافر، إللى غنتها إمبارح فى الحفله.. واحده منكم حفظاها يابنات . ضحكن بصوت مرتفع، جعل بعض المارة يلتفتون نحوهن ، ثم نادين فى صوت واحد : هند .. أسرع واحدة تحفظ أغانى شادية . جاءت هند، ووقفت بينهن ، ثم أخذت تشدو بصوت جميل ، مقاطع من الأغنية ..خلاص مسافر.. صحيت فى يوم من الأيام .. أخرجت كل منهن منديلاً ، وأخذت تمسح دموعها ، لأن الصوت كان شجياً وهند تقلد شادية تماما فى الصوت والحركات . جاء رجل مسن ، يسمع بود ثم قال : مالكو يا بنات . نهرته أكبرهن بعنف : نعم يا جدو.. اتكل.. روق .
سار مبتعداً ، ثم من آن لآخر يعود ينظر نحوهن مبهوراً بالجمال والصوت والشجن ، ثم اقترب ثانية وفى سخرية لاذعة نهرته البنت ثانية : شوفوا الراجل الكوهنه بيسبل عينيه إزاى . ردت أخرى : أصل المشرحه ناقصه قوتلا . أمسكت فتاة المكتبة بيديه ثم أبعدته قليلاً : يا عم دى مش فته. ثم أخرجت ورقة أخرى ، وأخذت تكتب. وهند تشدو بصوتها الجميل صحيت فى يوم من الأيام حسيت إنى يا عينى وحيد.. حسيت بغدر الصحاب ، قلت أسافر.. مسافر(. وقفت البنات يستجمعن ذاكرتهن، ويكملن الأغنية. وأحياناً كان يرتفع صوتهن وراءها ، منشدات مثل الكورس، ناسيات الشارع والناس . وأعدن الأغنية مرات ومرات ، حتى تأكدن من صحة الكلمات . اقترب منهن الرجل مرة ثالثة ، ولصق جسده بهند . أخذت البنات تتقاذفه فيما بينهن : يابا ارحمنا ، يا عمنا ابعد حبه تزيد محبه . كانت عينه الزجاجية واضحة ، وجامدة ، لا تتحرك وبروزها جلى يتحدى البنات والضحكات . أما عينه الثانية ، فكانت تدور فى حركة مكوكية بين البنات والصوت . يختار الأجمال ، ويدفس رأسه بالقرب من صدرها ، ويميل بجسده نحو وجهها ، يتشممها بعمق . وكل منهن تحاول أن تزيحه من وقت لآخر. وهو لاهياً مثل فراشة ، وببلاهة يتحرك ، ويتنقل من غصن إلى غصن، يمتص رحيق الزهرات الجميلات ، مادا يده مشيراً ناحية الكلمات المكتوبة ثم يضيف ساخراً بعض الكلمات من عنده إلى أن اقترب بخفة ومسكنة من صدر إحداهن ، ومد يده فى رشاقة وخفة وقرصها. صرخت البنت: يا ابن الكلب . ثم خلعت فردة حذائها، ونزلت على رأسه ضرباً.وعندما أحست الأخريات بالموقف نزلن معها ضرباً وركلا. وعندما رأت هند وناهد ذلك أخذتا تجريان بسرعة ، وتركتاه نائماً على الرصيف ووجهه ينزف دماً ، ثم سارتا فى الشارع ، وهما تضحكان منشدتان ، مغنيتان خلاص مسافر مسافر مسافروانضمت باقى البنات وأخذن يضحكن فى نشوة وطرب .اقتربت منه فتاة المكتبة، ومدت يدها ورفعته من على الأر ض ونظفت له ملابسه، وأجلسته على الكرسى. كدا يا عم تبهدل نفسك.
هند المنجذبة من أذنيها إلى الذكريات والحب والواجب والهزيمة والموت . تعود حاملة مزهرية من الورد جميلة ، وتضعها أمامها ، أسفل صورة رباب المعلقة على الحائط ، والشريط الأسود حول طرفها . متأملة فى ورع واسترخاء . كأن الصورة تحدثها ، وتنظر إليها وتحدثها.
«كيف خاض الأحبة القدامى المعارك ؟»
وكيف نجا الجرحى من الموت ؟ الصورة والمزهرية وهند ، ثلاثة فى غرفة واحدة ، والموسيقى وصوت شادية يعيد الزمن والذكريات. وأغنية خلاص مسافر، هند لم تجرب من قبل معنى الحب بهذا الشكل العنيف. ضحكت من كل قلبها عندما سمعت هذا المثل من أم جابر وهى تضحك بدراديرها الباهتة وسنتها الوحيدة "الحب خايله كدابه" ضحكت هند، وضحكت ، إلى أن زفرت الدموع من عينيها مثل دش فتح فجأة ثم قالت: قصدك إيه بالخايله.
– يا بنتى من حبنا حبناه ، وصار متاعنا متاعه .- ما انا عرفاكى خرفانه ومجرمه. ياست هند " الحب خايله بنار هايله عوج السليمه وعدل المايله ". ثم دخلت حجرتها، ومازالت الدموع تنهمر من عينيها . إنها تقف الآن على مبعدة ، بين حدود النوم واليقظة وتسمع صوت الهاتف يرن بشكل متواصل. تكمل دموعها إلى آخرها وتقول له : رن شوف مين يعبرك . هى الآن حزينة . لأنه بعد دقائق سوف يأتي إليها ، ينام جوارها إلى ساكنا ثم يتركها، ويترك بقياه، وأثره إلى جوارها . لن تفتح عينيها ، سوف تغلقهما عليه ، تتسمع خطواته وهو يقوم من جوارها ويفتح الدش باردا على جسده ، ثم يرتدى ملابسه فى سرعة وينصرف منتشياً ، ساحباً خطواته فى بطء وهو يهبط الدرجات فى رشاقة. ويتركها لدهشتها المفرطة ونشوتها ، وأسئلتها التى لا تنتهى .
فأما غرامي واصطباري وسلوتي فلم يبق لي منهن غير أسامي
ينج خلي من هواي بنفسه سليما ويا نفسى أذهبي بسلام

تسللت أم جابر على أطراف أصابعها ، ودخلت الحجرة ، ووضعت كوب الشاى على الكومدينو جوار السرير، وقبل أن تخرج . نادتها هند : خدى هنا . اقتربت أم جابر فى حذر وخوف ، وسارت بضع خطوات ثم وقفت على بعد مسافة آمنة لا تقترب منها يد هند وتطولها : نعم . – انتى لسه زعلانه منى . اقتربت أم جابر من السرير، وجلست على حافته وهى مازالت حذرة ، وعندما رأت هند هادئة ، جلست مطمئنة . – احكى لى حكاية رباب . – يا بنتى نبش القبور بالليل حرام . – احكى ولا. قالت أم جابر مترددة . – شوفى يا ستى ، صلى على النبى . – عليه الصلاة والسلام .
" كانت رباب بنت ولا كل البنات ، جميله جمال الملكات بيقولو كان شعرها طويل ، طويل . كانت تدلدله من شباك القصر اللى ورا الجنينه . والعشاق يطلعوا وينزلوا من عليه . وكان أبوها الجعفرى الكبير يخبيها عن العيون ، ويقفل عليها السبع بيبان. وكان عندهم عبده حبشيه كان اسمها أم قويق . كانت تاخد المفتاح من الجعفرى ، وتجيب الكرسى وتحطه ورا الباب وتقعد عليه. وكانوا بيقولوا إن العبده دى هى أمه. وكانوا بيقولوا إنها ساحره ، كانت تسحر الرجل من دوول غراب ، أو عصفور وتطيره ، أو تخليه دبوس وتشبكه فى شعرها .
أنا شفتها مره بتشترى بخور من الحاج عليش الكبير، كان فاتح دكانه جنب السلطان . مكان باب الخارجيه . كان شكلها أسود وعفش وخارمه مناخيرها ومعلقه فيها حلق . المهم بيقولوا والعلم عند الله ، إن الجعفرى كان بيحب رباب . وعشان مش قادر يدخل عليها ، راحت الحبشيه سحراه فار أجرب مذعور. وبقت كل ليله تهدده وتقوله : أنا ولا بنتك ؟
يخاف ويهرب منها فى الزروعات اللى كانت ماليه العشش زمان خلف القصر ، وساعات كان يغطس فى الميه ولا حد يعرف مكانه . كان بيخاف منها موت ".
آه وبعدين . اسرحى بيا اسرحى ، ما هو انتى فكرانى نور ولا على وبتحكى لهم حدوتة قبل النوم . يا وليه ياخرفانه ، حد يحب بنته ؟ – والله يا بنتى الله أعلم . كانت بنته ، ولا عمته .
– قومى يا أم الهم .. انتى بتحكى حكاية من كتاب ألف ليله وليله . – طب واللى خلق الخلق .. ده سمعته زمان وأنا شابة صغيرة ، أول ماجيت مصر من البلد . أقول إيه بس . ما هو سيدى جعفر مات بسببها. جلست هند مزعورة على السرير مثل الفأر، واعتدلت فى جلستها ، ونظرت فى عيني أم جابر بدهشة : أبويا كان من عشاق رباب ! – هاقول إيه يا بنتى .. اذكروا محاسن موتاكم .- بس .. بس . افتكرت ، ليه يوم ما مات . أمى رفضت تاخد العزا وكان كل ما واحده تقول لها : شدى حيلك يا أم هند . تقولها : شدى حيلك انتى واخرجى بره ورفضت تلبس أسود . – يا بنتى دا كله كلام حواديت . حد يصدق الحواديت . – ما فيش دخان من غير نار .. يا أم الغم . وابويا كان فى الأيام الأخيره حيران ومضايق . وكنت حاسة إنه زى المخنوق ، أو زى اللى حبل لافف حوالين رقبته . أو زى اللى معمول له عمل أو مسحور .
– هى الحبشيه منها لله بقى . شافته قاعد قدام المكتبه زى البدر المنور . كان راجل ولا كل الرجاله .. كانت تختشى العين تراعى له . شافته الحبشية عقلها طار. – إيه سحرته؟ – لأ. خطفته. ومره واحده اختفى .اللى يقول مات فى حادثه ، واللى يقول مات محروق أيام حريق القاهرة في يناير سنة 1951 واللى يقول لقوه مخنوق وغرقان فى النيل .- والحقيقة؟ – علمى علمك . لكن مش بعيد تكون الحبشيه سحرته.
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
وإن كان فرط وجدي في محبتكم إثما فقد كثرت في الحب آثامي .
وهكذا هند.
كل يوم تفقد أحبة من تاريخها القديم ، وترتاب فى الأحبة الجدد ، خاصة المبتسمين فى وجهها دائماً ، والذين يلوحون لها بأيديهم بحب وود . إنها ترتاب لدرجة الهوس.. وكلما عرفت أكثر تعمق هذا الخوف ، ورغم هذا تعشق عينيه ، حزنه السرمدى الذى يخرجها من صمتها . وهو يضحك ، كى تتعاطف معه بكل مشاعرها : ازيك يا هند. إلى متى تظل هذه الكلمة تبتز كل هذا العطف؟ ظلت هند تنزف نزيفاً متواصلاً. ولم تستطع أم جابر بكل خبراتها، أن تمنعه أو توقفه عند حد معين. وهند ترفض الذهاب إلى الطبيب. كانت تريد للدم أن يفجر الحياة. يفجر الحب. ويظل ينزف منها لآخر قطرة. إلى أن جاءت ناهد بعد أن أعيت أم جابر الحيلة. ونهرتها بعنف. – البت هاتموت يا وليه يا مجرمه. كانت هند تشعر أنها كل يوم تجلس على خشبة المسرح ، تقوم بأدوار قديمة ، فى مسرحية هزلية. وتحيا وحدتها بقلب امرأة عجوز مهملة عن عمد وطيبة. سوف تخرج فى يوم ما إلى الشارع هاربة. تشترى أفخم الثياب ، وتبتاع نظارة ضخمة بضخامة الحزن وتضعها على وجهها. مدت أم جابر يدها على كتفها ، ثم ربتت عليه بحنو وحب: تعيشى وتفتكرى يا بنتى . مسحت هند دموعها بظهر يدها ، وقالت وهى غير مصدقة : تفتكرى يا أم جابر، أنا قصرت وسبت أبويا يموت ؟

*********************

تحيا جمهورية مصر العربية
كانت ناهد تقف عند العلم ، وسط التلاميذ . هناك عند حدود الذاكرة بين الأسود الفاحم ، والأبيض القريب إلى السواد، بطولها الفارع وابتسامتها المفرطة الدهشة، حينما تحدثها هند عن حمزة. تبتسم فى طيبة وود: ياحبيبتى. كل ده أنا عشته. طب إيه رأيك فى كوبيتين شاى، حلوين زيك. ضحكت هند ودارت وجهها عنها بدفتر التحضير حتى لا تشعر بأنها تسخر منها.
لو عشتى قصة حب حقيقية. زي ماكانش سابك أبدا،وأكملت ناهد حديثها ما انتى عارفه. أنا سافرت سنة 80 . كنت بنت بنوت ، واشتغلت مدرسة ، وبعد تلات سنين ، وقبل ما نزل عملت قرشين حلوين ، هيصت أهلى ، ومابخلتش على اخواتى . وجه فى يوم ، وانا فى البنك بحط الفلوس ، اتعرفت على واحد مصرى ، كان بيشتغل هناك حبنى . واجوزنا . كنت ستر وغطا عليه . وهو كان ملوش شغلانه ثابته كان طيارى . وكل شويه فى بلد ، كنت مسمياه إبراهيم الطاير . المهم كنت أنا صاحبه دخل ثابت . قلت له وماله المليان يكب ع الفاضى . وانا إيه وانتَ إيه. وكفايه إن احنا فى غربه. منه لله بقى ، المهم مرت ليام . وجبت محمد ومحمود توءم زى الفل. وكان لازم أرجع . أمى ماتت. وصعب عليا الغربه وحشه قلت له : هارجع وابقى حصلني قال لى : أرجع مفلس، لازم اعمل قرشين ، كلام.. وكلام . وكل مره يبعت لى ، عايز فلوس ، أبعت له قرشين . أبعت . عايز أنزل .. العيال وحشتنى . يبعت . والسنين جريت . والعيال كبرت . والحمل تقل . والفلوس بتخلص . وبقاله خمس سنين لا حس ولا خبر . عرفت إنه عمال يسرمح من بلد لبلد ، ومن واحده لواحده . ومن تلات تيام اتصل . وشغل اسطوانة الغربه والعيال والفلوس وعايز ارجع . وفى الآخر أفوجئ النهاردا الصبح بواحده بتطلبنى فى التليفون وتقوللى: إنها مراته. وإنه مطلقنى من زمان ومجوزها . تقدرى تقوللى : أعمل إيه؟ طب والله العظيم اللى بقوله ده حصل. وإن كنت بكدب أطس فى نظرى.
ربتت هند على كتفها بحنو، وقبلت رأسها برقة عندما لمحت الدموع تنساب من عينيها مترقرقة. وناهد تواصل بكاءها : منه لله بقى . خلانى زى البيت الوقف ، لا أنا طايله سما ولا أرض ومالت على كتف هند وبكت. مما جعل الجميع ينظرون إليها. ثم وضعت وجهها بين يديها ، وراحت فى نشيج طويل. تعالت نهنهاتها، حتى تحلق الأطفال حولها.
– مالك يا أبله. مالك.
نهرتهم هند بعنف. حتى انصرفوا مبتعدين. ثم أجلستها ، وأتت لها بكوب ماء. وصممت أن تشربه. ثم أخذتها من يدها. ودخلتا حجرة المدرسات. لتواصل ناهد حكايتها. ووجهت حديثها بمرارة وأسى. تعرفى يا هند لو كان مات. كان أهون عندى. على الأقل كان زمانى بترحم عليه. وافتكر له حاجه حلوه. لكن ياخد اللى ورايا ، واللى قدامى ، ويبتز مشاعري السنين دى كلها ، وبعدين يروح يجوز. وهى تكلمنى وتسخر منى فى التليفون. شوفى لما الحب يتحول لكره. ولو طلت اقتله. هاقتله. ابتسمت هند وداعبتها : كله كلام من ورا قلبك. عمر الموت ما كان حل. وترقرقت عيناها بالدموع. قامت ناهد من مكانها منتفضة وضمتها لصدرها : يقطعنى. والله ما كان قصدى. مسحت هند عينيها بظهر يدها وابتسمت فى أسى : كفاية حسه فى الدنيا. ضحكت ناهد، وجلست أمامها ضامة يدها بدفء : يا اختى قطيعة.. يابنت خالى. هو فيهم سحر إيه. يخلى الواحده متتنزلش عنهم. دق الجرس فخرجتا هند وناهد مبتسمتين متعطشتين لحضن رجل دافئ . كانت فكرة تغيير الشقة والعفش من الأمور المستعجلة والملحة على رأس ناهد.
كل يوم تسير فى الشوارع ، تقرأ الإعلانات ، وتتصل بشخصيات وتصنع علاقات لدقائق عبر الهاتف، وتبتسم وتغلق الخط. إلى أن تلفنت لها صديقة ثرثارة من الزمن القديم. الذى يشبه الرائحة العطنة. ورنت ضحكتها وقالت: إزيك يا بت وحشانى. كده متسأليش؟
ابتسمت ناهد ورجعت بظهرها إلى الوراء مين صباح فينك من زمان؟ وأخذت تتأرجح على الكرسى أمام المكتب وتواصل مشاغباتها : إيه أخبارك.
– خدت شقة جديدة.
– فين؟
– فى الصحرا.. في أرض الجولف وانتِ.
– لا جديد.
رنت ضحكتها مجلجلة وبخبث. اطلعى من دوول بقى معقولة مافيش جديد. طول عمرك زى البير ملكيش أرار. أخذت السماعة من على أذنها اليمنى ووضعتها على اليسرى.
– أقولى لى أى خبر مفرح.
ضحكت صباح بهستيرية.
– يا اختى كان على عينى . سمعتى آخر نكته.
– لأ.
– طب اقفلى .. معايا تليفون . هابقى أكلمك ، يالا باى .
ما إن عرفت أم جابر أن هند تقوم ببحث ميدانى وجمع مادة عن المرأة ، وتسجيل الحكايات والمشكلات ، حتى أتت بنساء الحى جميعهن دفعة واحدة ، وأجلستهن على الأرض متراصات فى انتظار خروج هند من حجرتها. هن معتقدات أن هناك معونة سوف تقدم لهن، أو أن الست هند سوف تقيد أسماءهن فى الشئون الاجتماعية. وفتح باب الحكى ، ولن يغلق حتى نهاية الرواية ، ونهاية البحث ، ونهاية العمر . فماذا تفعل هند بكل هذه الحكايات؟
ما كان وجودها فى هذا المكان ، وهذه اللحظة ، وهذا التاريخ إلا منحة إلهية وهبة منه.
الحكاية الأولى
( بخت أمى خدته فى كمى
يا اختى اسكتى . ها قول إيه ولا إيه.
جوزى مات ، وساب لى تلات عيال . أكبرهم عنده 13 سنة وأصغرهم عنده سنتين. وكان فيه عيل من الراجل الأولانى، بس مات وعمره شهور. جوزى الأولانى كان نكدى، ودون. كان أهلى كل ما اغضب يرجعونى. وفى يوم خرجت مرجعتش. كان موسوس وعنده مرض اسمه مراتى عايزه تسمنى. مراتى حطه سم فى الأكل. وكان يمسك الطبق والمعلقة ويقف على الباب ويقول: يا ناس يا خلق مراتى حطه سم فى الأكل. الناس تتلم وتمسك المعلقه وتاكل وتقول: الله دا طعمه حلو هات هات. وينزلوا أكل حتتك بتتك. وفى الآخر يروح يشترى من الدكان عيش وجبنه وزيتون ويقعد ياكل. واليوم اللى ما طبخش فيه يعمل عاركه وشبطه. وكان يخش من الباب ويقعد يفتح فى الدولاب ويدور تحت السرير. وأسأله بتعمل إيه؟
يقول: بدور على السم اللى عايزه تسمينى بيه.
أقوله : ليه؟
شوفى بقى يا بنتى البهدله والضرب وقلة القيمه كوم، وكلام السم ده كوم تانى. طفشت وأهلى رجعونى، إنه يخلى عنده دم، أبداً. كان فيه قبلى اتنين مجوزهم. وانا معرفش. آخر مازهقت. رحت داخله الأوضه ودلقه على نفسى جاز. وقلت لهم الموت أهون من العيشه الحرام. المهم اطلقت. وبعدها بكام شهر الواد مات. قلت أحسن. أهو كان هايفضل مسمار جحا. واجوزت غيره. جه ألعن منه. كان ديمن ساكت. ويوم ما يتكلم، يقول الكلمه تنفد من الحيطه، وكلامه كان زى الرصاص. زى السم. وكان يقعد طول النهار يعايرنى بجوزى. اللى كان حازز فى نفسى إنى انا من النوع اللى مايطلعلوش حس أبداً. فى حالى. كافيه خيرى شرى.
أقعد طول النهار فى البيت، والباب مقفول عليا. كنت أسيبه يهوى ويقول إللى يقوله : أقول مسير الأيام تعقله. وجم العيال واحد ورا التانى. واهو مات وسابهم قطط عمى .

الحكاية الثانية
( قاعدة الخزانة ولا الجوازة الندامة )

تقدرى تقوليلى أنا ليه بقيت كدا؟
أصبح وزنى ..
100 كيلو وطفلين وراجل مريض ، وأم فوق البيعه ، وأنا بنت فضلت أدلع وآكل لقمه وأرمى عشرة ، وأقول النينى النينى لما يجى اللى ينقينى . دخل علينا بالحنجل والمنجل ، مسافر، مكنتش أعرفه ، قلت أهو أحسن من غيره ، فرحت بالشقه والهدوم المستورده ، وحياتك كل ده طلع ريش على مافيش . اكتشفت إن الشقه فى أوسخ مستنقع فى مصر، وإيجارجديد ، والشبكه خدها وباعها بعد الفرح بيومين ، والقرشين اللى معاه خلصوا ، والعفش طلع بالتقسيط ، وطلع بيئه ومقرف ، وكان بيشتغل بره مصر شغلانه أى كلام ، والفيلم اللى كان عامله أنه غنى طلع أونطه ، عشان أوافق عليه . ودلوقتى رقد فى الخط ، عنده القلب ، عايزه الإيجار والقسط وحق الدوا والمم والمصاريف والمدارس والعيشة واللى عايشنها .
الحكاية الثالثة
( اللى راح راح ياقلبى وشكوتك لله )

أنا اجوزت ، راجل بيقولوا بيشتغل هناك في بلد عند الرسول . جبت بنتين وولدين . وكان يروح وييجى . يغيب يغيب ويرجع . وكان كل مرة يطلب منى حاجات غريبه ، وأوضاع معرفهاش . ولما أرفض كان يضربنى . قلت له : احلق لى شعرى وطلقنى . وانا هابريك بالحق والمستحق ، واطلع بالجلبيه اللى عليا . وحياتك حصل . حلقت شعرى أقرع عند الحلاق وبريته عند المأذون ، وأمى جابت لى جلبيه من عندها . وخرجت يا مولاى كما خلقتنى . أخذ منى العيال . وسمعت إن قالهم ماما ماتت وهى بتعمل عمليه ، وأنا ماجصرت معاها ، والله ما جصرت وقعدت مع أمى . كانت تروح السوق تجيب الخضار . وتاخد طبق طبيخ وتخش أوضتها . وفى يوم لقيت الباب بيخبط . لقيت شاب وعروستين يشرحوا القلب واقفين . وقالولى : انتى ماما . صوت وزغرط وعيط ، ولطمت على خدود ، ولميت الشارع . أتارى واحده جارتى حبيبتى حكت لهم الحكايه . ومن ساعتها ماشفتهمش . واللى راح راح ياقلبى وشكوتك لله . وأمى ماتت أول ما شافت العيال زى الورد ويشرحوا القلب الحزين .
غرقت هند وسط الأوراق والحكايات والشكاوى .
فى الفترة الأخيرة أصبحت الكتابة بالنسبة لها سهلة وبسيطة ، مجرد أن تمسك الورقة والقلم وتشرع فى الكتابة حتى تجرى الكلمات على الورق الأبيض حكاية وراء حكاية . ومن أبسط الأشياء والمشاهد تصنع الحكايات وتنسج القصص . وتقرأ ما كتبته من أحاديث النساء وتدونها بالترتيب والتواريخ والاسم .
وقالت أخرى..
لى صديق كلما هجرته أوحشنى. وكلما قابلته أشعر كأنى رأيته بالأمس. أصبحت ألعب معه لعبة القط والفأر . يغيب ويختفى ، ثم يعود مبتسماً كأنه لم يغب. وأنا كذلك عرفت قانون اللعبة . وكلما تغيبت عنه يشتاق إلىّ . أرفع سماعة التليفون ، أدير القرص أسمع صوته ، ثم أغلق الخط بسرعة . وفى يوم حدثنى أنه كل ليلة يضرب زوجته ؛ لأن هناك مكالمات تليفونية عندما يسمع صاحبها صوته يغلق الخط فوراً . ضحكت فى خبث . وقلت له : وعرفت منين إنه واحد ؟
– أنا سمعت صوته .
وفى كل مرة يغيب عنى . أرفع السماعة ، أدير القرص ضحكت ، وضحكت ، وضحكت . أسمع صوته ، أغلق الخط بسرعه . وأنا أتخيل الصفعات والركلات والسباب والشتائم لزوجته
أغلقت هند الورق على الكلام ، وصرخت بصوت مرتفع : يا أم جابر. انتى يا زفته.
جاءت أم جابر من المطبخ مسرعة ، حاملة كوب الشاى ، وضعته أمام هند على المكتب ، ووقفت صامتة . صرخت فيها :عجبك كدا. جيبالى مره مهشكه بتعاكس الرجاله .
ارتعشت أم جابر أمامها، وهى تعرف مدى غضبها ، وحدوده. فربما تطردها ، أو تضربها ، لحظة غضبها . قالت وهى ترتعد: والله يا بنتى . دوول مظاليم..مساكين .
– يا وليه هو أنا فتحناها تكية. ثم ألقت بالورق فى وجهها ، فتناثر على الأرض . أخذت أم جابر تجمعه بسرعة ودون ترتيب ، ووضعته على المكتب .. ثم قالت لها : من الصبح ياست هند . أنا اسمع الحكايه الأول . والحكايه اللى تعجبنى أحكيها لك.
– يا سلام يا ست الحُسن والجمال . ما تيجى تقعدى مكانى وتكتبى أنت البحث ، وتاخدى الدكتوراة كمان .- العفو يا ست هند العفو .- طب غورى.. روحى . خرجت أم جابر وهى مازالت منفعلة من رمى الورق فى وجهها، وأخذت تبكى وهى تمسح الدموع بظهر يدها.
اغتاظت هند من الحكايات التى تقرأها وفتحت النافذة ونظرت إلى الخارج .
كان مبنى وزارة الخارجية بقعدته التى تشبه زهرة اللوتس يقف شامخاً أمامها. نظرت إليه جيداً وضحكت فى نفسها : المبانى أصبحت ترهقك يا هند . وحكايات النسوان أصبحت تافهة .
أدارت عينيها ونظرت إلى مأذنة أبى العلاء العالية ، الشاهدة على الزمن ومضى السنين ، والتاريخ والأحداث الدامية .
" هنا فى بولاق وأثناء ثورة القاهرة الثانية أيام الحملة الفرنسية ، أشعل كليبر النار فى الأهالى ، لم يرحم كبيراً ولا صغيراً . ثلاثة أيام والنار مضرمة فى المبانى والوكالات والدكاكين والقصور ورائحة الشواء تفوح وتملأ الأحياء المجاورة.. هكذا قال: الجبرتى هجموا على بولاق من ناحية البحر، النيل ومن ناحية بوابة أبى العلاء ، وقاتل أهل بولاق بكل جهدهم ، ورموا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيس عليهم وحصروهم من كل جهة ، وقتلوا منهم بالحرق والقتل ، وبلوا بالنهب والسلب ، وملكوا بولاق ، وفعلوا بأهلها ما تشيب من هوله النواصي . وصارت القتلى مطروحة في الطروقات والأزقة ، واحترقت الأبنية والدور والقصور ، وخصوصا البيوت والرباع المطلة على البحر . وقطعوا بعدها الأشجار والنخيل من جميع الحدائق والبساتين ليصنعوا منها السفن ".
عادت هند تنظر ثانية حولها إلى الأماكن والتاريخ ، والرائحة تملأ أنفها وتتذكر تلك الكلمات التى قرأتها بالأمس فى كتاب القاهرة والجبرتى . أغلقت الشباك ، ودخلت حائرة ، ماذا تفعل بكل هذه الأحاديث . ثم صرخت فى أم جابر .- انتى يا أم الزفت .. اعملى براد شاى كبير . ثم جلست إلى المكتب وتناولت الأوراق . وأخذت تقرأ
يقول الجبرتي :
" لم يكن يوجد في مصر قبل الحملة ، الفرنسية . شعب بالمعنى المفهوم والمدلول الدارج . ولم تكن توجد أمة متوحدة متجانسة ، بل كانت في مصر أخلاط من الناس متنافرة ، وأمشاج من خلق متحاربة ، لا يجمعها جامع ولا يضمها هدف . فكانت كل جماعة ضد الأخرى ، وكل طائفة في حرب مع غيرها . وكان كل فرد غارق في الجهل والأنانية . لا يعني بوالد أو بولد أو ببلد إذا ما حزب الأمر أو حلت كارثة ".
– أنا.
– وأنا.
– وأنا.
سرب من الطيور المجنحة ، سقطوا فجأة على المكان ، بأجنحتهم المزركشة ، هبطوا جوقة بزقزقاتهم ، وصيحاتهم المتعالية .
– أنا.
– وأنا.
كان مبنى الخارجية شامخاً ، يليق بمهابة السادة الموظفين ، الخارجين تواً من حماماتهم الأنيقة وعرباتهم الفارهة تتراص خلف بعضها فى هيبة ووقار، لا يقربها المارون من أمام المبنى حيث الحواجز الحديدية والعساكر تمنعهم . كان عند الباب الخلفى فى 26 يوليو ببولاق أبو العلا سور صغير، مزنوق بين مبنى السلطان ومبنى المدرسة الصغيرة ، تطل منه شجرة دقن الباشا عالية بأزهارها الحمراء . والجندى يقف منتظراً حدثاً جليلاً يليق بوقفته الطويلة ، الشامخة ، والتى دعمتها أوامر السادة ، بالطاعة والولاء لهم ، أفواه عظيمة مليئة بالقهوة ، ومغسولة بمعجون أسنان جيد ، وملابس أنيقة تفوح منها رائحة عطرغالى الثمن .
كانوا جوقة من أطفال المدرسة ، يقفون وهم يهللون ، مرفرفين فى طزاجة خارجة من أعمارهم الصغيرة ، ومن المدرسة الملاصقة للمبنى ، والتى تقف فى احتضان غريب بين مبنى السلطان وبين مبنى الوزارة وهى مثل طفل يتيم ، يقف حائراً ، حقيراً باهتاً فى خيبة متواصلة . زقزقت العصافير ثانية ..
أنا
وأنا
وأنا.
والعسكرى الواقف عالياً بجوار السور ، يلقى عليهم الورود الحمراء من الشجرة وهو سعيدا بوجودهم . زهور حمراء جميلة فى أيديهم الصغيرة . وكلما سمع زقزقاتهم تتعالى .
– وانا يا عم .
– وانا كمان .
– وانا .
– وانا .
شعر بنشوة وغبطة ، وأن وقوفه ها هنا أصبح له معنى جديداً ومختلفا ، وحنيناً طاغيا للطفولة لا يوجد تناسق فى المشهد ، مبنى الخارجية بفخامته ، ومبنى السلطان بتاريخه وشموخه . والمدرسة بجوارهما أرهقتها السنون وتساقطت جدرانها .
يقول الجبرتى :
" هنا ومنذ سنوات بعيدة تكاتف أهالى الحى ، وقاموا بخلع الأعمدة الحديد من المساجد والقصور، وقاموا بعمل مسابك حديد لتصنيع السلاح فى ورش صغيرة وفقيرة وأياد عفية ، صنعوا البنادق والقنابل.. وضربوا بها مدافع كليبر. والشيخ البولاقى يحثهم على الجهاد. والسلطان أبى العلاء ، جمع دراويشه وأخرج مريديه وشحاذيه ،يقفون وجهاً لوجه ضد الفرنسيين . وعمت الثورة البلاد ، انطلقت من أقصاها إلى أقصاها.. رملة بولاق ، الساحل ، روض الفرج ، إمبابة ، الجيزة .. أحياء تلاقى مصيرها وأحياء دمرت ومعارك دارت. ثلاثة أيام والنار مشتعلة ، ثلاثة أيام ورائحة الشياط يشمها الثوار. والأهالى يقاومون. نزع الفرنسيون الأبواب والمتاريس، وملأوا الحارات بالفوضى والخيول ودخان النار والبنادق والأتربة والموت ".
والعسكرى هنا فوق السور الآن .. ما زال يلقى الورود على العصافير المزقزقة. وهم يهللون
أنا
وأنا
وأنا.
ويقول الكتاب أيضا :
"وكان النيل فى تحولاته القديمة.. يسكن هنا.. يلقى بطميه ويفيض خيراًعلى البلاد من دموع إيزيس وأختها نفتيس على أخيها التائه."
وقفت هند تتأمل المقرنصات والمشربيات الباقية ، وهى تتساقط دموعها من الإهمال والفوضى . والمئذنة شامخة ، والعصافير تتطاير وترفرف . تنزل الكوبرى على مهل ، متأملة المشهد فى هدوء المحبين ، وتراهم وهم يتصايحون من بعيد.
– وانا والنبى يا عم.
– وانا يا رب يخليك.
أيديهم الصغيرة مليئة بالورود، وقفزاتهم الشقية ترتفع. وعندما رأوها قادمة من بعيد، هرولوا نحوها ، سعداء فرحين .- كل سنه وانتى طيبه يا ميس .. النهاردا عيد الأم.
وأعطوها الورود الحمراء الجميلة .ألقى العسكرى من مكانه وردة كبيرة أمامها.
رفعت عينيها تجاهه . أومأ لها برأسه سعيدا ، مبتسماً ، صائحاً مثل الأطفال : كل سنة وانتى طيبة يا ميس .
أخذت الصغار حولها ، ودخلوا المبنى الصغير الذى تحتضنه وزارة الخارجية ، ويرعاه السلطان . كان الطابور قد أوشك على الانتهاء ، وصيحة تحية العلم تتعالى فى الفضاء الواسع العريض ..
– تحيا جمهورية مصر العربية.
– تحيا جمهورية مصر العربية.
وقفت والأطفال حولها يرددون معاً.
– تحيا جمهورية مصر العربية.
وقفت فى خشوع وعظمة وإجلال والعلم يرفرف فى الهواء بألوانه الثلاثة الزاهية . والورود الحمراء فى أيديهم جميلة ، متحفزة ، وجميلة وطازجة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.