شقق التضامن الاجتماعي.. تفاصيل تسليم 1023 وحدة سكنية ب 400 مليون جنيه    محافظ الغربية يتابع عمليات نحر الأضاحي بالمجازر في ثان أيام عيد الأضحى    بلينكن يبحث مع نظيره السعودي وقف إطلاق النار في غزة    غرامة مالية كبيرة.. الزمالك يعاقب عواد بعد مشادته مع حسام عبدالمجيد    مدفعناش للجماهير.. آل شيخ يكشف أسرار تواصله الأخير مع الخطيب    حجاج السياحة يواصلون رمي الجمرات في أول أيام التشريق بمنى    عمرو أديب: حضرت تنفيذ «ولاد رزق 3» وأتمنى تقديم جزء رابع وخامس    الخارجية الأمريكية: نعمل مع مصر وإسرائيل على إعادة فتح معبر رفح    وكيل صحة قنا يوجه رفع درجة الاستعداد القصوى بمستشفى الصدر خلال أيام عيد الأضحى    سقوط كتل خرسانية كبيرة من عقار بمنطقة طه الحكيم بطنطا.. صور    أبرزهم خالد زكي وحمدي حافظ.. شائعات الوفاة تطارد كبار نجوم الفن    «حياة كريمة» تعيد الابتسامة على وجه بائع غزل البنات.. ما القصة؟    الخارجية الأمريكية: 9 كيانات مقرها في الصين سهلت حصول الحوثيين على أسلحة    ثبات سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بختام ثاني أيام العيد الاثنين 17 يونيو 2024    "على نفقته الخاصة".. طلب عاجل من الأهلي بشأن مواجهة الزمالك    «حياة كريمة» تعلن تكفلها بإقامة مشروع لصاحب واقعة «غزل البنات»    فسحة ب 5 جنيه.. زحام شديد بحدائق القناطر الخيرية في ثاني أيام عيد الأضحى (صور)    9 سيارات كسح لشفط المياه.. استمرار العمل على إصلاح كسر خط رئيسي بأسيوط    مشروع الضبعة.. تفاصيل لقاء وزير التعليم العالي بنائب مدير مؤسسة "الروس آتوم" في التكنولوجيا النووية    بتوزيع الهدايا للأطفال.. محافظ الأقصر يهنئ متحدي السرطان بعيد الأضحى    ذكرى رحيل إمام الدعاة    الإفتاء توضح حكم طواف الوداع على مختلف المذاهب    منظمة الأغذية: مصر تنتج 413 ألف طن لحوم أبقار سنويًا    انتبه- 3 روائح يصدرها جسمك عند الإفراط في لحم العيد    ستولتنبرج: نصف الإنفاق الدفاعي في الاتحاد الأوروبي يذهب إلى الولايات المتحدة    بترا: الأردن يثمن تنظيم مؤتمر السلام بشأن أوكرانيا ويرفض الانضمام للبيان الختامى    رئيس وزراء الهند يهنئ الرئيس السيسي: عيد الأضحى يذكر بقيم التضحية والرحمة    ثاني أيام عيد الأضحى.. استمرار انقطاع المياه بالفيوم    أيمن الرقب يكشف السيناريوهات المتوقعة عقب حل مجلس الحرب الإسرائيلي (فيديو)    شروط القبول في برنامج البكالوريوس نظام الساعات المعتمدة بإدارة الأعمال جامعة الإسكندرية    البابا تواضروس يستقبل عددًا من الأساقفة    حمامات السباحة بالقليوبية تشهد إقبالا كبيرا في ثانى أيام عيد الأضحى    مرض العصر.. فنانون رحلوا بسبب السرطان آخرهم الموزع الموسيقي عمرو عبدالعزيز    أسقف السويس يهنئ قيادات المحافظة بعيد الأضحى المبارك    أسماء 23 مصابا في حادث تصادم ميكروباص بسيارة قمامة على صحراوي الإسكندرية    تفاصيل جديدة حول الطيار المصري المتوفى خلال رحلة من القاهرة إلى الطائف    حقق حلمه.. إشبيلية يعلن رحيل سيرجيو راموس رسميًا    دعاء يوم القر.. «اللهم اغفر لي ذنبي كله»    إطلاق مبادرة «الأب القدوة» في المنوفية.. اعرف الشروط    تعرف أفضل وقت لذبح الأضحية    هيئة نظافة القاهرة ترفع 12 ألف طن مخلفات في أول أيام عيد الأضحى    بالترددات وطرق الاستقبال .. 3 قنوات مفتوحة تنقل مباراة فرنسا والنمسا في يورو 2024    محمود الليثي ينهار من البكاء في أول تعليق له بعد وفاة والدته    لبيك اللهم لبيك    بعد إعلان رغبته في الرحيل.. نابولي يحسم مصير كفاراتسخيليا    بالصور.. شواطئ بورسعيد كاملة العدد ثاني أيام العيد    ثاني أيام عيد الأضحى 2024.. طريقة عمل كباب الحلة بالصوص    مدير صحة شمال سيناء يتابع الخدمات الطبية المجانية المقدمة للمواطنين    القبض على شخص بحوزته أقراص مخدرة بالخصوص    التحقيق مع حلاق لاتهامه بالتحرش بطفلة داخل عقار في الوراق    الفرق بين التحلل الأصغر والأكبر.. الأنواع والشروط    «لست محايدًا».. حسام فياض يكشف صعوبات مسرحية النقطة العميا    مصرع طفل صعقا بالكهرباء خلال شرب المياه من كولدير في الفيوم    الخشت يتلقى تقريرًا حول أقسام الطوارئ بمستشفيات قصر العيني خلال العيد    مانشستر سيتي يحدد سعر بيع كانسيلو إلى برشلونة في الميركاتو الصيفي    زلزال بقوة 6.3 درجة يضرب جنوب البيرو    في ثاني أيام العيد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    بيلينجهام: ألعب بلا خوف مع إنجلترا.. وعانينا أمام صربيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنازة جديدة لعماد حمدي..رواية..وحيد الطويلة..الجزء الرابع
نشر في الأهالي يوم 18 - 09 - 2021

العزاء ما زال في نصفه الأول، ليس هناك مكان شاغر، والليل طويل.
سرادق مهول، عزاء كبير المنطقة، لكن ناجح ليس كأي كبير، هو كبير الحاضرين والغائبين والذين يحلمون، العاشقين والطامحين وأولي العزم من النشالين، صبيان المخدرات وحريفة البانجو، والذين يحملون مشارط في جيوبهم الخلفية، والذين يدفنون الأمواس بين اللثة والشفاه.
وربما جاء بعضهم ليتفرج عليه في أصعب موقف قلب حياته بأكملها، وربما دمرها كلها بضربة واحدة ستقضي عليه.
لا مكان فارغاً حوله، يحاول أن يبدو متماسكاً، ليس أمام المصيبة، هو يعرف تماماً أنه غير قادر ولن يستطيع، لكنا لا بد أن يتماسك أمام هذه العصبة التي يعرفها واحداً واحداً، شعرةً شعرة، حتى لا يتحدث به أحد، حتى لا يلطخ سجله بالدموع.
الكبير لا يجب أن يكون موضع أسى، أو شفقة من أحد حتى لو فقد ضناه، وإلا سيفقد هيبته في لحظة، ولمعت سكاكين الطامحين إلى حز رقبته، ونزلت الستارة على أيامه الباقية إن كانت هناك أيام باقية.
دموع الكبار تكتب جملة النهاية.
سينسى الناس فقيده بعد أيام، وتبقي حكاية دموعه لسنوات.
كان ينتظر أن يكون هذا السرادق لعزائه هو في حضرة ابنه، ليُشيع عزيزاً كما عاش عزيزاً.
ربما لو مات هو الآن لن يحضر ربع هؤلاء، وربما اكتفوا بتشييع جنازته وعادوا لبيوتهم دون عزاء، ليبحثوا عن معلم آخر، وربما اختاروه وعقدوا البيعة فوق مقبرته قبل أن يغلقوها.
لعبة الحياة التي حاول أن يعلمها لهوجان، صب في أذنيه وعينية الخبرة التي حصدها، عصارة الليالي السود والأيام البيض، فرد يديه أمامه وحكى له الشريط كله، يتذكر أنه أمسكه من كتفيه في نهاية المشهد، أعطاه خلاصة كبد النمل وقال:
" اتنين ملهمش أمان، الفرامل والنسوان".
بعينين زجاجيتين يسحب الشريط كله ثم يزيحه بسرعة: الآن ليس وقت الأسى والذكريات، يجب أن يعرف من قتل ولده حتى يعيش مستريحاً أو يموت مستريحاً.
هناك عدة خيوط يجب أن يجري وراءها حتى لو كانت كلها غامضة، عليه أولاً أن يبدأ من خيط النسوان، من حكاية البنت نانيس التي عرفها فقيده بالصدفة، البنت الحلوة صاحبة الملامح الدقيقة الفاتنة والجسد الممتلئ، الممتلئات اللواتي كان يعشقهن هوجان، يثرن شهيته، جسم بخيره على حد قوله وشهوته.
لا بد من البحث خلف كل واحدة.
أغوته كثيراً نحيلات، لكنه لم يكن ليطيل معهن، يتوب ويعود إلى صفائح السمن البلدي أو صفائح القشدة.
نانيس، البنت التي غيرت اسمها، لم يعجبها اسم عزة، لم يأت على مقاس طموحها: اسم بلدي، بيئة، غيرته حتى لا تمشي باسم عتيق لا يسيل له لعاب أحد، باب سيء للدخول إلى عالم تحلم به وتخطط له.
الأسماء بوابات كما أن الأقدام حظوظ.
مَنْ تُبدِّل اسمها بحثاً عن طبقة أعلى تُبدِّل كل شيء، تُغيِّر مبادئها، وبالقطع مَنْ تُغيِّر اسمها تُغيِّر عشيقها، ومَنْ تُخفي طينتها تُخفي كل شيء.
عرفْتَ ذلك من بطاقتها الشخصية، حين كانت تريد خدمة من صديقك الضابط.
تمر أمامه التفاصيل حين طلب منه هوجان حبة القلب أن يكلم صديقه الضابط، يستغل نفوذه ويتيح له أن يسهر في ملهى الجاكس الموجود في فندق الهيلتون، والذي لا يدخله إلا الكبار.
وهوجان كبير، وعلاقتهما محسوبة.
يشير عليه من بعيد حتى لا يخدش المسافة بينهما، ثم من قريب حين يشعر بالخطر عليه،
يعرف أنه وإن كان معلماً كبيراً، إلا أنه أهوج في موضوع النسوان، ذكر بلا فرامل، وحتى إن داسها يدوس على موضع البنزين، الدنيا أخذته، وسعت له فطار معها، لم تعد قدماه تحطان على الأرض، السلطة والفلوس والنسوان بين رجليه، تحت قدميه، فنسى أن له قدمين:
لا تترك الأرض مهما كان، حين ترتفع يسهل صيدك بنبلة صغيرة، اغرز حيث أنت.
والبنت تلاعبه وناجح يُذكِّره:
حاسب، حاذر أن يلعب الفأر في غطاء الحلة.
حين ذهب إلى الملهى كان يلبس القميص اللميع الذي يليق بالمكان، رآه على المطرب شعبان عبد الرحيم، بالألوان نفسها، ولأنه ليس مسموحاً بالدخول لفرد ذكر بمفرده ولو كان هوجان، اختار من بين الممتلئات نانيسَ، التي لم تفتح له باباً سهلاً رغم ظروفها الصعبة، هو الذي تعوَّدَ أن ينال فوراً كل ما يسيل له لعابه.
تعامل دائماً مع النساء كما يتعامل النشال، يخطف ويجري، كان عليه أن يتعامل معهن كتاجر مخدرات، يخبئ، يراقب، ينتظر، يجرب بحيطة وحذر شديدين، ولا يخرج قلبه ولا أي شيء آخر إلا لحظة الاطمئنان التام إلى نوع البضاعة، لا يفتحها ولا يقطعها إلا بعد أن تطيب تماماً.
الأنثى وما أدراك.
كانت تلعب ببراعة، تناغشه قبل أن تذهب للجامعة، بعد أن تعود، وبين الذهاب والعودة تتركه على جمرها.
تأكل بشراهة، تحب اللحم المشوي والقلب المشوي، حلوة ملفوفة، وخفة دم تسيل الدموع الضاحكة، هكذا أخبرتني العيون التي أرسلتها.
طامحة تريد أن تعيش لها يومين، تعرف أن هوجان من الصعب أن يطلق امرأته ليتزوج أية واحدة، رغم أنها تسمع صوت لعابه وهو يسيل لمجرد سماع صوتها، تسمع دقات قلبه تجري كحصان هارب، هائج خلف فرس لعوب.
هي ليست طامحة للزواج منه، وإنما للعب معه حتى إشعار آخر، على أن يلعب الفأر خارج المصيدة كما شاء، وإن أراد أن يدخل المصيدة فعليه أن يأكل قطعة الجبن تحت جبة المأذون.
انتظرت حتى تسويه كقط جائع.
وأنا حذرته من قبل: لا تقد سيارة بدون فرامل فتفقد عمرك، لا تقُد امرأة بلا فرامل فتفقد سمعتك، ركب لها أنت الفرامل.
لكنه وقع على جذور رقبته، قالت له: أريد ان أنجب منك.
المرأة تقول نعم للرجل الذي تريد الإنجاب منه.
وقع في هوى العيون الساحرة الشريرة كما وقع في هوى المسجلين الساحرين الأشرار، تقع عائلتنا في هوى العيون الخطرة كما في هوى الوقوف عند الحافة.
للمغامرة ألف سيف وجناح.
غازلها أحد الموجودين بالملهى، قابلت غزله بدلال، حاولت أن تخفف الموضوع بأن المغازل سكران، لكن هوجان طاح في المكان كسكير عفي، ضرب من ضرب وكسّرَ ما كسر لأجل عيونها وشرفه.
أخذت ما أخذت دون أن تعطى سوى الوعود، قبلة تنقلها بإصبعها من شفتيها لشفتيه، سوى مماحكات طرية تؤججه، وهو على لهب يصرف عليها ثمن طربة حشيش في الأسبوع.
تقترب منه فيرتفع منسوب لهاثه، يكاد ينتح جناً عاشقاً، لا يستطيع أن يطلق امرأته بنت أحد المعلمين الكبار، لكنها تدفعه إلى الحافة كي يأخذ قرار الهبوط إلى الجنة.
غابت طويلاً، خصص لها فرقة نشالين كاملة تتابعها، حين وجدوها ادَّعت أن أهلها صادروا هاتفها، والأهم أن ابن الرئيس يطاردها، ينتظرها عند سور الجامعة، وأنها خافت عليه، واضطرت أن تركب معه خوفاً لا طمعاً.
وتعقدت الحكاية، رآها تركب سيارة مرسيدس فاخرة بلا أرقام، قدر أنها سيارة ابن الرئيس فعلاً.
لكل جنة ثعبانها.
والسرادق عن بكرة أبيه، يمسح ناجح عينيه بيد يخفضها بسرعة خشية أن يعتقد أحد أنه يبكي.
ربما أرادت هذه البنت التي غيرت اسمها وتسعى لتغيير جلدها أن تتخلص من هوجان فدست له عند ابن الرئيس فتخلص منه، ولن تستطيع مباحث العالم كله أن تقول من القاتل، وربما اختلقت هذه الحكاية بعد أن وقعت على أفندي بمرسيدس، ولم تعد في حاجة لأموال هوجان ولا لقوته، وربما هذا المجهول هو من اشترى أحداً ممن حول هوجان أو اكترى أحداً ليقتله في الزحام.
لكن من يقتل أو يكتري أحداً ليقتل من أجل امرأة!
هذا سؤال يجب ألا تسأله أنت، يسأله أي واحد سواك.
ستعثر على نانيس، ولو في قلب الحوت، سواء كانت باسمها أم باسم عزة.
ستفتش في مصر القديمة كلها والحديثة، في الأحوال المدنية عن اسم عزة وطالبة جامعية مهما كلف الأمر.
لعبت معه لعبة الدم، وخزت إصبعها وإصبعه وامتزج دمهما، لعبت معه لعبة الدم فراح دمه هدراً.
يتمتم ولا أحد يسمعه:
مش باقي مني غير شوية هم،
متلوثين بالدم،
مرين وليهم سم،
مقدرش أسقي في مواجعهم.
يمسح وجهه بحركة عنيفة، يتمتم كأنه دخل في هذيان القطط.
لا بد أن أعثر على هذه البنت وأمسك خيطها حتى يمتد أو ينقطع، وأعرف لماذا انقطع.
هوجان كان له مائة خيط وفرامل واحدة معطلة، وما تبقى من العمر ربما لا يكفي لتتبعها، لكنني لن أسلم روحي لعزرائيل قبل أن أعرف ما حدث.
كيف يمكنني أن أقابل ابني دون رأس قاتله، سأعثر عليه واحتفظ برأسه وأوصي أن يدفن معي، أن يوضع بين يدي جثتي حتى أصعد به.
أقل ما يمكن أن أقدمه للفقيد الحبيب، ولا يعنيني إن رمى الرأس في النار أو أكلها.
وإن لم أصل سأحمل رأس البنت نفسها، رأسها أمام اعترافها، ولا أعرف هل سيكون سعيداً إن رآها بين يدي، أم سيكون تعيساً لأنه لا يعرف اسم قاتله.
ساهم سارح، غارق في ملكوته لا يرى شيئاً في السرادق سوى صورة البنت، يرى وجهها في جموع الحاضرين.
يزم شفتيه، بعينين حادتين لا ترمشان، لا تعرف إن كان ينظر في آخر السرادق أم أن العمى قد أصابه؟
يسمع أصواتاً عالية في الخارج، تتحرك عيناه في اتجاه باب السرادق.
12
إذا كنت لا تعرف الدكتور ناجح فأنت معذور، فهو ليس مرشداً معلناً في منطقته، ظهوره بهذه الصفة قد يقوض مملكته.
نعم، هو المقرب من الحكومة، عينها ويدها ورجلها في المنطقة، هو من الآخر أبو المرشدين، يبدو كبيراً وسط محيطه وإن لم يلعب دور الزعيم إلا وسط مسجليه.
أقرب لدور المنقذ في الأزمات، يريد أن يعيش دور المتخفي، يلعب في الظلام، تستطيع أن تقول إنه زعيم الظل، أو رئيس حكومة الظل كما يقولون، رأيه مطلوب، محسوب ومقدر، ولأنه أدمن الظل فقد طبع عليه، حتى هيئته وهو يمشي، كأنك تراه كأنه يختفي، رجل بالحبر السري، لا تستطيع أن تمسكه رغم أنك تحس به، يمكن لك تمييزه عن بعد لكن لا يمكن لك أن تصفه.
المسيح ليس له إخوة وكذلك ناجح.
اسمع، هذا الكلام ليس كافياً لأن تتعرف عليه أو ترسم صورة واضحة له، مسجل خطر من الفئة الممتازة، أعلن توبته في غرفة ضابط المباحث كأنما أشهر إسلامه، لكن القحبة كما تعرف إن تابت لا تترك المبغى، الأيام دوارة والثعلب لا ينام بعينين مغمضتين تماماً مهما تحسن الطقس.
لا يقترب من البضاعة- إن جاءه واحد معه لوط مخدرات – يمسها ولا يفكها، يعرف قيمة الصنف بحركة صغيرة بين إصبعين، يعرف المخلوط بالحنة من المخلوط بالكحول، بشمة واحدة طويلة، أفضل من كلب بوليسي مدرب، الكلب يشم المخدرات وناجح يشمها ويحدد قيمتها، يتصرف بشهامة ومعلمة تليق بمقامه، يقوم بتصريف البضاعة من المنبع إلى الأنهار أو المجارير، من بعيد، يزوج العروس للعريس كمأذون غير معروف عنوانه، بعقد عرفي، يحمي الولد الذي جلب المصلحة، يضع حوله حراسة غير مرئية، يفرض عليه ألا يقترب من أي تليفون، تعلم اللعبة من البواكير، يعرف أن عبقرينو يحرس المجال الجوي، وفي نهاية الصفقة يستلم الثمن عبر أحد أولاده المسجلين، يحسب عمولته وحده، ولا نقاش، إياك أن تناقشه وإلا ستدفع ثمن ذلك غالياً، ستجد في انتظارك قضية مع ربع طن حشيش أصلي تم ضبطه بلا صاحب، ستكون أنت هذا الصاحب.
نعم، يحمي الولد، يحمي مصدر معلومته كابنه، يقوم بتخليصه من الحكومة إن سقط في يدها، يجرسه أمام الضابط، يمسح به الأرض، يتوعده بالسجن الطويل وأحياناً يلطعه على قفاه، ثم يعقد الصفقة: الولد مقابل التاجر الأصلي.
يُسلِّم التاجر الأصلي.
يقول بارتياح واضح: بطني وحمامتي والحمد لله على سلامتي.
الضابط الناجح يسمح بهذه النوافذ، يتركه ليفتح له أبواباً فيما بعد، والمرشد الذي يجد باب الضابط موارباً، الذي يشعر أنه قريب وعلى ساقه، و"يده في الشغل" يفعل المستحيل من أجل معلومة تضع القضية تحت رجل هذا الضابط.
وحتى لا تتوه مني وسط التفاصيل، فحين أعلن ناجح توبته كانت توبة بالعقل لا بالقلب، توبة محسوبة، عرف أن الطريق أصبحت خطرة، وأن اندفاعة الشباب وإن كان لها ما يبررها وقت الشيطنة، لكن لحظة الفرملة حانت بعد أن وصل لسن الأربعين، وحل محلها بعض العقل والرشد الذي يناسب مرشداً كبيراً.
كان عليه مثل الديكتاتوريين العظام أن يقوم بعملية تحول في مسار الإجرام وسيرة المجرمين، وأن يقوم بالحركة التصحيحية بنفسه ولنفسه، ولديه من الأسباب ما يملأ جوالاً أو كونتينر من المخدرات، أدرك بحاسته التاسعة أن الحكومة لن تنتهي، وأن زندها قوي مهما طالها من عطب أو تواطؤ أو تساهل أحياناً، أو حتى بانشغالها بأمور أخرى.
لم يصدر بياناً لمعاونيه ولا لأحد، اكتفى بجملة واحدة: عائلة الحكومة كبيرة، ويجب أن نصاهرها.
لعله أحس في لحظة فارقة أنه تأخر في عملية التحول، إلا أنه مع ظهوري وتوطد العلاقة بيننا أدرك أنها جاءت في ميعادها بالمقادير بعد أن سمع في التليفزيون أناساً كباراً يقولون: الإصلاح من الداخل أفضل من الإصلاح من الخارج.
سمع خطيب الجامع يقول: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، سمعه يحكي حكاية أبي سفيان الذي رشق قدميه في مكانه ليحصل على مكانة تليق بمكانته السابقة.
.. أنا يعجبني الجدع أبو سفيان ده، حفظ مقامه في القديم والجديد.
كان مأخوذاً بنفسه، بإصراره على أن يكون في صدر الصورة لا على الهامش.
تقدم بشجاعة ليصحح المسار ويبدأ عمليه الإصلاح بنفسه، وسوف تتبعه بقية الفصائل، هو القائد والملهم والمسجل الخطر الضرورة، ومن الآن فصاعداً سيتحول إلى مرشد خطر ضرورة.
نعم لا يليق به أن يصير مرشداً فقط، هذا للصغار، للجرابيع، هذا لواحد مثل منير، عاطل لم تنسه السماء، ساقط إعدادية، يسكن في بيت قديم لجدة غادرت، مات من مات بعدها وتركوه وحده على الحميد المجيد بلا إرث ولا فلس، لا يأسى على شيء، ولأنه شعر أنه وحيد في هذه الدنيا التي قد تغدر به في أية لحظة فقد درب نفسه على القليل، قليل الأكل، لا يبدل ملابسه إلا حين تأتيه نفحة من أحدهم.
إذا كنت قد رأيته منذ عامين ستجده الآن بنفس الملامح والملابس، كأن الزمن لم يمر من أمامه، درب نفسه من البداية على هذا ثم أصبح دستوره في الحياة، ولأنه عصامي أو ظن نفسه هكذا، قرر أن يستكمل بناء نفسه على المنوال ذاته، يخرج في المساء ويعود في الصباح التالي دون أدنى مشكلة، ينام إن نام مثل كل العزاب، ملكاً على مملكة من مزاج.
نعم، مشكلته الوحيدة هي المزاج، ليست مشكلة بل غاية وغواية، يموت في الحشيش، دينه ودنياه، يعشقه مثل عشقه لسيرة أمه التي لا يتذكرها جيداً إلا وهو مسطول، يراه أفضل ما أنتجت البشرية، يراه أفضل من القطار: القطار يذهب بك واعياً لمحطة معلومة، أما الحشيش فيذهب بك لمحطة غير معلومة، محطة غير محطة الأمس، مجهولة دائماً، القطار يأخذك للعمل للفسحة للسهر، أما الحشيش فيطير بك للأعالي.
المزاج يحتاج لوظيفة وهو عاطل، محتاج ومتعجل، لكنه مؤمن أن المزاج يحب العاطلين بل ينتقيهم، ولأن العطالة لا تعني الغباء خلق لنفسه وظيفة على مقاس أحلامه، المزاج يحب العاطلين لكنه يعشق النقود والنفوذ.
العاطل الغبي يرمرم في أي مكان، العاطل الذكي يخترع وظيفة لم تخطر ببال والسماء لا تبخل على العاطلين الأذكياء، قرر أن يصاحب الأغنياء، يرمي جثته على أي واحد منهم، كل غني يحتاج عاطلاً يضحكه، يشتمه، يقضي له مهماته السرية.
قرر أن يعمل في تجهيز السهرات لهم، يجهز مصافي الحجارة، يقوم بتعميرها بنفسه وتوزيعها أثناء السهرة بالعدل على الساهرين كخادم أمين محترف، يوماً بعد يوم اكتسب سمعة وطنية، وضع قدمه على أول السلم ثم صعد بعرقه وأنفاسه، ما إن تقام حفلة- وهي تقام كل يوم تقريباً- إلا وكان أول المدعوين ثم تكر اللائحة، أصبح المنسق العام لحفلات المزاج، القفزات البطيئة لا تناسبه، ودع الماضي الخامل وانطلق وسط الجو الخامل، طبع كروتاً كتب عليها: مؤسسة منير وأعوانه، ثم في لحظة سحرية غيرها إلى منير لا شريك له.
لا تعتقد أن هذا هو عمله، فمنير ولا فخر هو من يشتري الصنف، بل احتكر اللعبة من بابها، قبل أن يذهب للحفلة يكون قد شرب نصف قرش حشيش على الأقل، عملية إحماء بسيطة كلاعبي الكرة قبل نزول الملعب، يجب أن يذهب في أفضل حالة كي يقوم بعمله على أكمل وجه، يشتري قرش الحشيش من هنا، أو قرشين حسب السهرة ثم يعود به للتاجر بعد قليل مدعياً أن هناك خطأً في الوزن، أحياناً يفعلها في الفجر حيث يأخذ معه الحشيش المتبقي من السهرة، يطالب التاجر أو صبيه بإعادة وزن القرش، لا تعتقد أن المسألة سهلة، بل تحتاج لموهبة أخرى من مواهبه التي لا تعرفها أنت بالطبع، له قدرة على تحريك شفته السفلى إلى تحت قليلاً بطريقة غير عادية وهبته إياها الطبيعة، وطورها خلال كفاحه، ينفخ دون أن تراه أو تشعر به، يواصل بصوت مخفي تماماً، بهواء خفيف لكنه مؤثر على كفة ميزان الحشيش ليظهر الوزن ناقصاً، ينفخ برعشة الموهوم، نصف ارتعاشة الليل البارد في شفته.
ولأنك لا يمكن أن تحصل على السمن من بطن النمل اكتشف التجار لعبته، صار عدد اللطمات التي تلقاها على قفاه يقارب عدد حجارة الحشيش التي شربها أو رصها في تاريخه.
لا تعتقد أن مواهبه قد تتوقف عند هذا الحد، يبكي بحرارة بعد العلقة المتينة، يبكي بعينين منخفضتين وشفة متدلية، يرد له التجار القرش كاملاً خوفاً من افتضاح أمرهم، إنها الضريبة التي يدفعها بجسارة كل تاجر حشيش ناجح للزميل العزيز منير أبو شفة.
لكن الحفلة كي تكتمل تحتاج إلى قعدة طرية، واحدة طرية أو واحدات، الحشيش يجلب النساء، للهروب من دنيا ثانية إلى دنيا ثالثة، ومنير يتألق مع الوقت ووظيفته تتسع لكنه لم يطبع كروتاً جديدة، جلب واحدة طرية لأحد الكبار، جلس في الخارج يشرب تعميرته ويعلي مزاجه ويسافر وحده كما عاش وحده، أعجبته التعميرة أو لطشته، راح يعلو عن كرسيه قليلاً، يسمع أصواتاً عالية محمومة، يتخيل العراك في الداخل ، قرر أن يهدئ اللعب قليلاً كما يفعل فريق كرة قدم أثناء الهجوم الضاغط، حمل الجوزة للرجل في حضن المرأة، وأصر بكل الأيمان عليه أن يشرب نفساً واحداً ثم يستكمل رحلته.
ولأن المتعوس متعوس مهما كانت حلاوة الفانوس وقع الفحم المشتعل على بطن الرجل فانتكس طرفه إلى خيمته، طار مزاجه وانقضت الليلة بعد علقة أخرى.
الضرب لا يغير شيئاً، وما حدث لن يؤثر على طيبة قلبه، ذهب للمرأة معتذراً وهو يصهلل لا يدري موضع دماغه، قدم لها بطيبة كبيرة السوتيان والكيلوت وقد تركتهما مرغمة بعد هياج الرجل.
قبل أن يمضي سألته:
وأين ثمن النط يا زبالة.
أعطاها ربع قرش حشيش، وصار اسمه منير زبالة بعد أن تضاعف نشاطه.
يمضي كأن شيئاً لم يحدث، القادمات أكثر من الرائحات، يبدو بعد كل سهرة كأنه خارج لتوه من الحبس، لا يعدم الأمر أن يتقدم للحبس، حين يفيق يختار القضايا الصغيرة التي لا تتجاوز ثلاثة شهور، الوقت عامل مهم بالنسبة له، يريد أن يخرج سريعاً ليستمتع بباقي حياته، بالجماهير التي لا بد أنها لم تعد تقيم حفلات، وحتى إن حدثت فهي مثل أكلة رديئة بدونه.
لا يُسلِّم نفسه للقسم إلا بعد الفجر قبل انصراف سيارة المتهمين بسويعات قليلة، حتى لا ينام في الحجز مع الجرابيع والزبالة، حتى يأخذ حكماً في نفس اليوم ويبدأ في عد الأيام على أصابعه.
من الحشيش إلى القوادة إلى الحبس، كوكتيل لعب بل كوكتيل زبالة.
إن صادفته صباحاً على مقهى، يقول لك دون أن يعرفك وهو يفتح عينيه بصعوبة: سجن براني، سجن جواني، النتيجة واحدة، لذا قررت أن أصنع سجني بنفسي، داخل أجمل مكان وأعز ناس وأنفاس، داخل جمهورية الحشيش، كله حنية، ثم يرفع رأسه لأعلى، يغني وهو يطرقع أصابعه:
بالحشيش، بالحنية تاكل عنيا.
يعرفه ناجح، يعرف غيره، لديه عشرات منه، دود منقاد خلف غواية نتنة، وراء أشياء تجعل الكبير صغيراً، وأنت وما تختار.
يتمتم ويقول: على نياتكم ترزقون.
وكما أن هناك حائطاً بين ضابط المباحث والمرشدين، حتى لو كان حائطاً وهمياً من هواء، فهناك حائط مثله تماماً بين ناجح التائب وبين المسجلين.
كل ما يعرفونه عنه هي غزواته القديمة قبل اعتزاله، التي نقشت بماء الذهب، وحفظت في الصدور وتجري على ألسنة الجميع.
هو في عرفهم لم يعتزل، لكنهم لا يعرفون أنه ترقى وأن عينه قد علت على الحاجب.
يعرفون أنه يعرف كل المجرمين، اللصوص القدامى والجدد، كما يليق بأخطبوط ونذل حقيقي.
إذا كنت تصدق اعتزاله فخذ عندك، هو مصدر المعلومة الخفية، يقدمها من بعيد، كمطر مفاجئ ثم يختفي وينتظر الخراج، وإذا كنت تشك في كلامي فاعلم أنه في اللحظة المناسبة، إن شعر أن الصبيان سيقعون في يد الحكومة وأن الحبل يمكن أن يطاله ولو حتى من باب الكلام، الكلام فقط، سوف يتقدم بنفسه ويشي بالجميع وبالتفصيل الممل وغير الممل، سيسلم الجميع تسليم مفتاح إلى ضابط المباحث.
لكن للأمانة لا تفوته فائتة، يصرف على الجميع طيلة فترة الحبس، يدفع أجور المحامين، ويتابع القضية من على كرسيه في المقهى وسط ضجيج مباريات المصارعة.
كف على القفا وقطعة حلوى في الفم.
لكن لكل كبير أعداء حتى ولو كان رئيس جمهورية المسجلين، هكذا تقضي حكمة الأيام والزمن هو اللاعب الأكبر لا يترك أحداً دون أن يبيض عليه، ظهر أبو شمس في المنطقة فجأة، راحت شمسه تطلع ليل نهار، تاجر مخدرات قديم من أيام عز الباطنية، لم يستطع أن يأخذ واحداً من عملاء ناجح الأصليين، لكنه استولى على ناكري العشرة الذين لا يدافعون عن قضيتهم المقدسة بقلب، بل ينتهزون أية فرصة للمكسب الشخصي، للعب لأي فريق، هم خلف أي قائد يحقق مصلحتهم الشخصية وليسوا على استعداد للدفاع عن وطن المسجلين ولو بالشعارات.
صنع أبو شمس دولة جديدة، لم يقبل أن يظل تابعاً في مملكة ناجح، لم يقبل بالحكم الذاتي، دوريات بالموتوسيكلات تجوب المنطقة أكثر من دوريات البوليس، يتاجر في البودرة، مكسب قاتل سريع وعالٍ، صبيانه مرتزقة، يسبونه من خلفه لكنهم يأكلون الشهد على حسه، أغراهم صيته واللقمة الطرية السريعة بصنع دولة جديدة، إجراءات أمنية صارمة كأنهم يحرسون مديرية الأمن.
لم يستطع أحد أن يقبض عليه، وأمامه كفاح طويل قبل أن يعتزل، كما أنه من الصعب عليه ولا يخطر بباله في عز فورانه ووصوله للقمة كمنافس خطير لناجح أن يتحول مرشداً.
ولكي تكتمل الشماتة لا بد من ثلاثة، أنا وناجح وعبقرينو، الضابط والمرشد والغاوي، اتحاد جمهوريات مثل الذي كان يتم في ليلة ويتفكك بعد أسبوع، اجتمعنا بقلب واحد بلون واحد من الداخل والخارج، المصلحة واحدة وإن اختلفت الأهداف، أنا أريد أن أربح القضية وعبقرينو يريد أن يربح قضيته الشخصية وناجح قضيته الزعامة على طريقته.
استأجرنا سيارة نقل أثاث العرسان، ملونة مبهجة، جلب ناجح الأثاث ومجموعة من النساء بقيادة أم خنوفه تدق على طبلة بحجمها، معها فريق نسائي يرقص فوق السيارة وعلى رفارفها، أحضر عبقرينو فرقة الزفة على حسابه، لم نخبر أحداً من القوة المساندة بخطتنا ولا وجهتنا، في اللحظة المناسبة أخبرت المخبرين قبل التنفيذ بدقيقتين، سلبتهم هواتفهم قبل أن أخبرهم، أغلقتها ورميتها في درج مكتبي قبل التحرك، أعرف كما يعرف غيري أن هناك أكثر من بروتس، يتقاضون أموالاً باهظة، تضيع القضية وتنتشر المخدرات.
في لمح البصر وصلنا، عزفت الفرقة ورقصت الراقصات، وصل صدى الطبل إلى أبو شمس الذي خرج من غرفة القيادة، خرج يسأل عن العريس الذي سيتزوج دون إذنه، يستمتع بالغناء
الذي يغرد في دولته، كَمَشناه من خلف ومن أمام، وأجلسناه مع معاونيه في نفس السيارة تغني له النسوان:
مكانش يومك يا وله.. مكانش يومك.
نظفنا المنطقة، عاد قمر ناجح لينيرها، لكن لا بد من منغصات، الضابط الذي حل محلي بعد أن قمت بإجازة قبض فجأة على ناجح، تستطيع أن تقول ببساطة إنها رزالة، كما أنه لا يعرف مقامه:
.. أنت لست مرشده هو يا روح أمك.. أنت مرشد الحكومة.
يحدث هذا غالباً، يقبض كل ضابط جديد على مرشدي الضابط الذي سبقه ليسمعهم صوته، ليعرفوا في أية يد ترتفع عصا الصولجان، يفعلها أمناء المباحث مع بعضهم أيضاً، كل واحد جديد يريد أن يأتي له المرشد بقضايا مثل سابقه.
لكن ناجحَ رغم ما به من عيوب تملأ أجولة، يعرف بخبرته أنها أيام وستمضي، ولا يفرط في حبيبه حتى لو فرط في معاونيه.
بيننا عيش وملح وبودرة ونساء.
قبض الضابط عليه، هدده أنه سيظل في الحبس وستلفق له كل القضايا المفتوحة التي لم يتم القبض على الفاعل فيها.
صمت ناجح على الظلم صمتاً طويلاً، تكلم بعينيه فقط، لكن الكلام الحار كان في مكان آخر:
.. نحن لم نبدأ بالحرب وعلى الباغي تدور الدوائر.
اللعب بالرأس غير اللعب في الأطراف، اللعب بالرأس يطلق الأفراد من عقالها حتى لو كانوا يدافعون عن الخطأ، والناس مقامات: لا يجب أن يجرح أحد مقام ناجح.
وضع وريثه هوجان الخطة التي لا يخر منها الماء، اجتمع مع مريديه ومعاونيه، وكل من فعل به ناجح خيراً، كل من فتح بيته، كل من زوجه من إيراد طلعة مخدرات، حتى منير زبالة كان حاضراً.
الخطة من بندين، نفذوا البند الأول بهدوء، كسروا مخزن البانجو التابع لوزارة الزراعة، هبشوا منه كل الكمية الموجودة، لم يتركوا سوى اللوحات الارشادية التي تتحدث عن الحشيش، وفجأة ظهروا على الكورنيش بربطة المعلم في وقفة احتجاجية، اختاروا مكاناُ استراتيجياً تمر منه ربع سيارات مصر، لم يخشوا من القبض عليهم، لم يعد شيئاً يعنيهم، لم يشرب واحد منهم نفساً واحداُ من البانجو، في هدوء أشعلوا النيران فيه ووقفوا أمامه.
وقف منير زبالة تحت اتجاه الريح كي ينعم بنفحة مزاج تكفيه بقية عمره.
سحابة دخان عارمة تغشى الهواء، صنعت ضباباً بعد دقيقة حجب سماء المنطقة، أيديهم مرفوعة في الهواء بعدة لافتات:
المعلم ناجح، حاضره يزكيه وماضيه يشرفه.
المعلم ناجح حاضره يشرفه وماضيه يزكيه.
أبرزها الكبيرة التي كتب عليها بخط واضح:
الحرية للمناضل ناجح، كبير المنطقة.
13
لا تعشق امرأة تحب القطط.
سوف تتوه في حكايات غريبة وأسماء أغرب، ستتبدل رائحتك، ربما يصبح اسمك سيمو أو زغلول حسب مزاج حبيبتك، تنادي عليك بأسماء قططها، وستعرف أن سيمو هذا عاشق رقيق، بالكاد يخمش بعينيه، يمد يداً حانية تغطي عنق حبيبته، ويتراجع فوراً إن خمشته تدللاً أو تمنعاً، يقف في منتصف المسافة ولا يعيد المحاولة مرة أخرى، بل ينتظر إشارة واضحة، يرمي منديله وإن صدته حبيبة يتمنع أيضاَ ويحتفظ بكرامته، أما زغلول هذا أو زغلول الكبير كما يقال أحياناً فهو ولا فخر الفحل الذي يقوم بتلقيح كل القطط، لا يمد يداً حانية ولا يرسل نظرة الغرام، خلق بدون غدد العواطف، مواؤه زئير ممدود، عاطل لا يعرف غير القفز، وحين يهبط من فوق ظهر الفريسة يرسل نظرة متشفية للأخ سيمو الذي يسخر منه بنظرة، بحاجب أيسر مرفوع لأعلى: أنت لست سوى ماكينة عمياء، لن يتذكرك أحد، إنها ذاكرة إناث القطط التي تتفوق على ذاكرة السمك.
لا يمكن أن يكون زغلول هذا أو أي زغلول عاشقاً.
حين تقول هذا لزميلك النطع الذي لا يكاد يغلق سحاب سرواله إلا ليفتحه- أحياناً ينساه مفتوحاً بعد معركة سريعة، لا يترك واحدة، خادمة كانت أو أميرة، يزوغ من العمل: ساعة فقط وأعود- يقول لك بثقة تكاد تحطم المتبقي من خط بارليف:
الأنثى لا تنسى من خلقها ولا من خرقها.. " يا عم قلب ايه، وغرام ايه".
زغلول هو البطل الذي لا ينسى.
ربما لم يخلق زغلول كقط طبيعي، إنه يتنقل من واحدة لا يعرفها لأخرى لا يعرفها أيضاً، أية قطة تقف على السلالم، لكنه يؤدي وظيفته بأمانة يحسد عليها، وروتين كأنه موظف حكومي أبكم حصل على ترقية مفاجئة، كأنه يقلد كل الذين يركبون مقعداً أو بشراً أو قطة، يموء بصخب كأنه يحذر الذكور الآخرين من الاقتراب من عرشه، لا يمسح فمه لينظفه، بل يمسح شواربه، ربما لو شقوا صدره وفحصوه ما وجدوا له قلباً من أصله.
وأنت بقلب تؤدي عملك، تفعل كل شيء دون سقف، تصل للمدى، أنت عاشق، لا تعرف هل ولدت هكذا أم أنك اخترت ذلك؟ تمر أمامك كل شهر عشرات النساء لكن قلبك لم يرف بعد رفة حقيقية.
كانت جارتكم الهائجة دوماً تقول لأمك: هذا الولد عيونه نعسانة طوال الوقت.
تتذكر البنت التي أحببتها وأنت بعد شاباً، حين سألتك الجارة نفسها عنها بابتسامة نصف هازئة معجونة بالشبق والغيظ أجبتها: حين تظهر أو تمرق من تحت شباكي يرفرف قلبي فوقها، يكاد يحطم قفصي الصدري ويطير.
لم يرتعش قلبك إلا نادراً، لم تقترب من واحدة ليس بها شيء خاص، شيء لا يدركه العاديون أمثال زميلك النطع الذي يقول لك: أنت مجنون تختار نساء مجنونات مثلك.
والشارع أمامك كله مجنون، من يسير في اليمين يريد أن ينحرف لأقصى الشمال، والعكس، كل واحد يفعل ما يريد دون حساب لأحد، كأنه اتفاق غير مكتوب على الأنانية وعشق الفوضى.
لكن المهم أنك لم تنجرف كثيراً وراء رغباتك، وراء الفوضى، صحيح أنك لم تقمعها لكنك لم تصبها في نبع قد يورثك أو يورث غيرك هماً.
تعرف تماماً أن الروح بالفرح، والجسد بالفرح أيضاً.
وتعرف تماماً أن قلبك لم تمته حوادث الخيانة واللعب الذي لا يخطر ببال.
لا تنسى أبداً تلك العرافة التي حكت لأصحابك عن حالتهم ومستقبلهم، جلسوا متأهبين، أخفوا ماضيهم وانتظروا مستقبلهم، خرجوا من بين يديها فرحين بفحولة أو مال أو مركز ينتظرهم حين أمسكت كفك، حين رمت البخور على منقدها قالت لك جملة واحدة:
أنت رجل بقلب امرأة.
نظرت إلى عينيك طويلاً، أطفأت منقدها، قالت: لا تذهب إلى عرافة أخرى.
وقفت على حيلها وبجملة قاطعة كسيف في قصة قديمة: ولا تعد إلى هنا مرة أخرى.
ثم وأنت خارج: ولا تجرِ خلف امرأة تحب القطط.
كأنها وهي التي يختفي قلبها خلف بصيرتها، أو لعبها بأحلام الآخرين، وقعت في غرامك من النظرة الأولى، لم تنس أبداً نظرتها وأنت تغادر.
تتذكر الآن هذا، تقلبه بعقلك كأنه يحدث الآن، يتوه منك ما يتوه ويحضر ما يحضر.
لكنك تتذكر هذه البنت دائماً، لم تنسها أبداً.
حين دخلت مكتبك كانت تحمل قطة، الهمسات والمصمصات تحاوطها، جاءت بتوصية من زميل، تدرس الإعلام، تريد أن تفتش في بعض المحاضر عن قصة تكتبها كما أشار عليها أستاذها في الجامعة.
لا يصدق أحد من الضباط والأمناء هشاشة بعض النساء، يرونها مفتعلة أو محبوكة، لكنها ولأول نظرة كانت تسبقها هشاشتها، بعيون غائمة كأن لها جفناً رامشاً، ليست حوراً وليست واضحة، مثل غيمة متسمرة لا تتحرك من مكانها، لا تعرف إن كانت تراك أم لا، كأنها عيون من وراء حجاب، الصوت، طريقة نطق الألفاظ، لا تتكسر ولا تتصنع، بجسد يبدو كأنه سيختفي بعد قليل، لولا هذه النتوءات التي تداعب الهشاشة، والتي ربما نمت غصباً عنها.
لا أعرف إن كنت قد صادفت تلك النسوة النحيلات عزيزي القارئ؟ تراهن نحيلات لأول وهلة، غير أن صدورهن تأبي إلا أن تعلن عن مركزها، عن حضورها رغم النحافة، وحين يستدرن تبدو ظهورهن نحيلة أيضاً، إلا من مرتفع متوارٍ، أو يحاول أن يتوارى مؤكداً هذا النحول، بل يفضح هشاشة الجسد، لكن ذلك كله لم يستطع أن يزيح رقة الروح.
هل هذا مكتبك؟
.. نعم، استأجرته من الحكومة.
تضحك.
ضابط وخلفك كل هذه اللوحات! حتى كلود مونيه!، ضابط أم فنان تشكيلي؟
راحت تقلب في الأوراق، تقرأ عن دنيا بائعة الحب تحكي حكايتها مع واحد اقتنصته أو اقتنصها، كانت تمسك عضوه حين ضبطها الضابط، وأنت تدير بصرك بعيداً حتى لا تفاجئك بسؤال لكنها فاجأتك وقالت:
" يعني إيه عضوه؟
قطتها كانت ساكنة في المكان، جالسة بين ساقيها كبنتها، كأنها عرفت أنها في مكتب رئيس المباحث فخافت ولم تتحرك.
حين رفعتها على كتفها وهي تهم بالمغادرة:
أنا أيضاً أرسم، عندي لوحات كثيرة، وقد أشترك في معرض قريباً.
لست على بعضك، قلت كأنك تمزح:
لا تعودي إلى هنا مرة ثانية، سأقع في غرامك فوراً.
أسنانها كادت تضيء تحت خيط الشمس القادم من شباك عريض.
تشعر أنك واقف على رأسك، قمت من مكانك لتودعها، حتى لا يخمشها أحد بنظرة أو كلمة هي وقطتها.
لم تكن نحيلة وهي تمشي أمامك، كادت لتذوب من فرط رقتها، ساعتها أحسست بهذا الطائر ينقر صدرك من الداخل، يفتح لنفسه مساراً ويطير.
لا نعرف متى يهبط الحب.
قال زميلك: قطعة بسكويت، بغاشة، تستأذن القلم قبل أن تفتحه.
.. إنها توشوشه يا هذا قبل أن تفتحه.
خذها، واحدة مثل هذه لقطة، يمكن أن تربيها على يدك.
قلت وأنت تداري السخونة التي صعدت لوجهك:
صعب أن تحب قطة تحمل قطة.
لا يعنيني أن أربي أحداً، ولا أشغل بالي بهذه المفاهيم الجاهزة الموجودة منذ أيام رمسيس الثاني، كنت أنتظر هزة تقلعني من جذور الدوامة التي وضعتُ أو وجدت نفسي فيها.
لا تكذب على نفسك، أنت استمرأت هذه الحالة لتنسى بها كل رغباتك، كل يوم قضية جديدة تغوص فيها، كي لا تسمح لأي صوت أن يذكرك بحالك، البيت أصبح فندقاً يتيما، تعود إليه لتستحم وتنام مثل القتيل.
أنت معطوب، عليك أن تصلح العطب قبل أن تدخل قلب التفاحة التي هبطت أمامك فجأة مثل تفاحة نيوتن، هو اخترع قانون الجاذبية، لكنها جاءت لك على طبق من فضة.
جاءت مَنْ تُصلِح لك العطب الذي أصابك، إرمِ ما خلفك بقوة قبل أن تحضن التفاحة.
نسيت نفسك دوماً، نسيت الزواج، تعيش بقلب فنان، عاشق، عشقت أكثر من امرأة، قلبك لم يستقر يوماً، ولو كان لما جمعت بين الفن والبوليس، ضرتين رسميتين في بيت واحد، في قلب واحد.
كل واحدة لها دنيا يا مولانا، تدفع من أقساط واحدة لأخرى، صار قلبك مثل نحاس مصقول لكنه باهت وصدئ.
لكنك وقعت في الحب.
اسمها ضيّ بنت الإيه، كأن اسمها طريق وعلامة، بنمش خفيف لا تخطئه عين محب، ينتقل بين المواضع تحت سطوة الضوء.
تحكي عن عائلتها القططية، لا تعرف من أبوها ومن أمها! ولا إخوتها، حين تقول إنها ستذهب سريعاً تعد الغداء لعائلتها فأنت تعرف بالضبط من هم: كيمو وسيمو وسقراط.
لا تحب قططها فقط، بل تحمل كل قطة رأتها وحيدة على سلم، لم تترك واحدة: هذه طردها أبوها وهذه طردها زوجها، وتلك تشعر بالبرد بعد أن تزوج إخوتها والأخيرة باعها أطفال لطفل فطردتها أمه خارج الشقة.
وأنت، هل عندك قطة؟
لا.
هل تحب القطط؟
يمكن أن تحب مدناً ووشايات غريبة من أجل شخص واحد.
وقعت يا شاطر، وستجري خلفها، روحك أرض عطشى تعوي، كرهت تشققاتها، تشتاق للارتواء.
وقعت بسرعة كأنك كنت تنتظر ولا تدري، غرزت في أرض الفاكهة الطازجة، بدل الفاكهة المجففة التي مضغتها طوال عمرك، بلا طزاجة ولا رحيق.
لم يعد يرى غيرها، الحب يوقف المشي وراء النسوان، يعطل شياطين القفز والقنص.
وهي بعيونها الناعسة عرفت الذرة المشوية وحمص الشام على يديك، عرفت الجلوس على طاولات من حجر وخشب في الشوارع، أن تقف أمام عربات الفول كأنها سائحة أجنبية وتعودت، تذهبان معاً لمعارض الفن التشكيلي، لم تترك عملاً في حياتك إلا لأجلها، تركت الخدمة في الكنيسة، أوصيت زميلك، حملت جهاز الإرسال معك وذهبت معها لمعرض، كان صوت الجهاز يدوي في القاعة وصوت أقوى منه يدوي في قلبك.
وقعت في الحب يا معلم، الضباط لا يقعون كثيراً في بحره، ربما لا يعترفون، لكنك تعترف، تكاد عيونك تخرج من مخابئها.
ربما أحببتها لأنك عطشان للحب، تحتاجه لروحك أولاً، لتكنس كل التساؤلات والأوهام، كي ينشلك من عالمك، عالم السلم والثعبان، المشبوك بأشياء شائكة.
هي رقيقة لطيفة، لكنها لا تمد يداً، لا تقابلك في منتصف المسافة، تريدك أن ترمي نفسك في أرضها، تحرقها بالنار، وهي واقفة على الشاطئ ترقب السفينة بعينيها الغائمتين لكنها لا تنادي ولا تلوح.
أنت غارق لشوشتك، وهي لم تبتل بعد، كأنها بحر مغلق على شواطئه.
ترسم لوحة، ترسمها، نصف وجه ولا تكمله، تعود لترسم النصف الآخر في لوحة أخرى، وحتى حين رسمت يدها لم تكن مرفوعة لأعلى، كانت بأصابع منطفئة تتجه للأسفل، تائهة مثلك، مثل الفراغ الذي يحيطها.
خفت من إحساسك، فضحت اللوحات ما تريد أن تخبئه أو تصدقه.
قال زميلك: لا تنظر في عينيها، تبول في أذنها يا باشا، بوابة النساء الأذن والبدلة الميري.
تتذكر حين كانت البنات تصطف على أسوار كلية الشرطة ليشاهدن الطلبة وهم خارجون من الكلية بزهو، يصرخن كأنهن يشاهدن نجوم السينما والنجوم تلمع على أكتافهم.
لكنك لست من هؤلاء، أنت فنان، الوقوع في الحب لا يحتاج سلطة ولا خبرة، الحب هو السلطة نفسها، لكن استمراره يحتاج لخبرة وذكاء، لا لا، حب بالصدفة أجمل، يأتي كالقدر بغير ميعاد، مثل شحنة كهرباء في قلب ميت، لكن يحتاج لذكاء ليمضي للأمام.
وهي تغيب، تحضر فجأة وتختفي فجأة.
قالت صديقة: ابتعد عنها، خفف حضورك ولا تطاردها، لا لكي تفتقدك، بل اعطها فرصة تجلس مع نفسها وتحبك فيها.
هل تلعب هذه البنت معي؟ لا أظن، بل يجب ألا أفكر في هذا أبداً، هي على طبيعتها التي تشبه عينيها الغائمتين، تشبه البحر بمده وجزره.
تعود، تفرد أمامك ورقة، ترسم أربعة أسهم، واحد يشير إلى الحب، واحد للمال، وثالث للجنس، ورابعهم للشهرة، ثلاثة بمربع مقفول والحب بمربع مفتوح، طوتها وجعلتك تختار.
كنت تفكر، رحت تتمنى، لكن الإجابة كانت الجنس.
" بطلي غش"، غشيتي في النتيجة".
وعهد الله ما حصل.
تطلب إعادة اللعبة مرة أخرى.
تتقدم بعينين مملوءتين بالضحك والأمل، والخوف تحتهما، تنتهي إلى نفس النتيجة.
هذه البنت ستخمن أنك محتال، زير نساء، النساء يصدقن الأبراج والعرافات وهذه الألعاب.
ترمي الورقة في حقيبتها، تقول:
تعرف، أنا متفاجئة من النتيجة، كنت على يقين بأنك لو فتحتها مائة مرة ستقع بسهم الحب.
وبوجهك الذي صار أحمر غامقاً، ممتقعاً مثل قطعة كبدة، تغني لتهرب من الموقف:
يا سلام على حبي وحبك، وعد ومكتوب لي أحبك.
أنت أيضاً راهنتها على أول أغنية تسمعانها في السيارة، تتمنى أن يكون ذوق ناجح جيداً هذه المرة:
"انتِ أحلى بنت في مصر، الباقيين كلهم كسر، انتِ حبك جوه قلبي، زيه زي ختم النسر".
تقول لها بصوت عالٍ: الفنانون يقعون في الحب في ثانية واحدة، ثانية صادقة جداً، يقطعون الطريق الطويل الذي يستغرقه الآخرون في لمح البصر، تقع عيونهم على الروح، يختصرون الدنيا بسرعة الفهد، يختصرون التنهدات.
تغيب وتحضر، تحكي لها عن أغنيات فيروز فتحكي لك عن مغامرات سيمو، تحكي عن علي الحجار وحنان ماضي فتسرد لك مغامرات القطة كرنبة.
تحكي عن الغزل بين عمر الشريف وفاتن حمامة فتحكي عن المطاردة بين قطط البيت وقطط السلالم.
.. سقفك عالٍ بعيد، أخاف ألا أصل إليه.
أنا معك طفل كما ولدتني أمي.
.. دنيتك كبيرة.
أموت في دنيتك الصغيرة، عدت طفلاً معك.
دخلت بقدميك وسط الجمر، وهي متسمرة في مكانها.
تحمل قلبك على يديك مثل بنت خام تظهر أوردتها في ذراعها، وهي تخبئه خلف ظهرها.
رميتَ بقلبكَ فوق الجمر.
تحمله لأجلها على يديك.
وهي تُخبئ قلبها وراء ظهرها.
تقول لنفسك: ربما اعتادت عليك، لكن التعود يزيل أحياناً صمغ القلب.
تغيب، تحضر، كأنها لم تأت.
ربما ليس وراءها شيء يشغلها، ربما ترى الأمر صداقة، حتى ولو تسرب الحنين بين أوراقها، وارد جداً أنها حيرانة لا تعرف ماذا تفعل، لكن الحيرة كفيلة أن تفتح الأقفال المغلقة أو تؤمن على إغلاقها وتمضي، وتنتهي القصة.
أنت وصلت لخط النهاية، وهي واقفة في منتصف المسافة، لا تتقدم ولا تتراجع.
قرر أن يرمي الرمية الأخيرة، مع أنه يشعر أنها لن تبادله رمية بأخرى:
أحبك، أحبك من القلب لا من الحنجرة.
.. ضابط أنت أم فنان؟
غيّرت الموضوع، تركتها مرغماً لحالها وعدت لحالك، ترسم امرأة طائرة في اللوحة بلا قدمين.
قلت لك من قبل: لا تعشق امرأة تحب القطط.
ربما خائفة، ربما لم تنضج بعد، لكن الحب لا يحتاج للنضج، فورة الحب ليس لها سن أو ميعاد، ربما لا تحبك، أو لا تعرف الحب أصلاً، لا تعرف على أي حائط تفرد مشاعرها.
لكنها تحبك، قلب الفنان يدرك هذا، يلقطه من لفتة، من كلمة، ربما مترددة، النساء يحسبن مشاعر الحب بالعقل، والرجال بالقلب أو بالرغبة، البنت التي لا تنام الليل من أجلها، وأنت بوجلٍ تفكر كيف ستفاتحها بالحب، شاهدتَ هذا المشهد قبل وقوعه.
جرِّب، حين تقول لها أحبك، حتى وإن طارت أمامك من الفرح وذابت أمامك خجلاً، تعرف تماماً أنك فكرت في هذا وأنك ستعترف أمام قس طيب، تتخيل اللحظة واللقطة قبل وقوعها، وأنك مرتبك كمعظم الرجال، وأصابعك باردة رغم دفء قلبك.
نعم، هي شاهدت هذه اللقطة من قبل، هيأت لها المسرح وأخرجتها كما تحب، وضعت الممثل الذي هو أنت على الخشبة، وتركت لك فقط أن تزيح الستارة وتواجه الجمهور لتأخذها المفاجأة.
تتفرج على اللقطة المعادة كأنها المرة الأولى، لعل هذا هو السبب الذي يجعل النساء طوال عمرهن يستعدن اللقطة الأولى ويثبتن الرجال عندها.
يحدث ذلك غالباً، إلا في الحالات التي تقع فيها المرأة في الحب وتنغرز قدماها في قلب الرمل المبلل بدموعها، ساعتها لن تقوم بإخراج المشهد، ولن تبكي من الفرح، سيسيل العسل وحده من عينيها ثم من أطرافها.
حبيبتك لم تتخيل اللقطة.
ربما هي خائفة، رغم أنك تصير طفلاً مع طلتها، تأتي بضفائر أحياناً فتبدو صغيرة في العمر وتعود طفلاً معها، ربما حائرة من الخلطة التي تبدو عليها: ضابط وفنان وطفل معها، ربما نبت الحب في قلبها لكنها ارتعبت من الرجل الذي يقدم نفسه كلها.
لم تقدم ماءك جرعة جرعة، دفقته مرة واحدة فأغرق النبتة.
أنت تحبها وهي تحب القطط.
على منوالها في الغياب والحضور، تغيب أكثر فتحضر داخلك بكثافة.
تركتها لترتاح من هجومك بالعشق عليها، إلا من مكالمات متقطعة يسمع نصفها عامل الهاتف، حتى جاءت المكالمة الحاسمة:
أريدك فوراً.
كانت تبكي، هذا فأل جيد، كادت دموعها تسيل من سماعة الهاتف.
لحقتها بسرعة إلى مستشفى الكلب.
بدموع تكفي لتشييع كل قتلى حروب التوتسي والهوتو تبكي، قطها زغلول وقع في الحب لأول مرة، أحب قطتها إلزا، والأخيرة مترددة، لا تعرف إن كان يحبها حقاً أم لا، وحتى في اللحظات التي ترى الحب يلمع في عينيه كانت تتراجع عندما تراه يقفز فوق قطط أخرى، لم تقبل تبريره أن هذه طبيعة وظيفته، يقفز على الظهور هناك لكنه يريد حضنها هي.
وهي أيضاً ربما شاركت في المسألة، لم تحاول أن تسحبه بعيداً، كانت تنفر منه فتدفعه ليدفن إحباطه في أحضان الأخريات العابرات.
لكنه في لحظة شعشع فيها الوجد في قلبه، خمشها بقوة بأظافره، لم تفهم أن الخمش العنيف لا يحدث إلا من حب عنيف، تعاركا وأصاب عينيها، كان كالمسعور، أصابها بنصف عمى، وهي بين الحياة والموت.
كدت أقول لها إن هذا هو ما حدث لعماد حمدي في آخر أيامه مع اختلاف الأسباب لكنني تراجعت، حالها لا يسر، لا تستطيع أن تتزحزح من مكانها، جسدها ينتفض تحت مواء قطتها.
ما زالت تبكي بشدة.
أخرجتها وبقيت مع الطبيب الذي حاول لكن السر الإلهي صعد.
لم أستطع أن أخبرها بالمصيبة، لأن زغلول أفندي كان على شفا الانتقال للعالم الآخر أيضاً، إذ أن الآنسة إلزا بادلته عراكاً بعراك، ولأن المصائب لا تأتى فرادى فقد غادر بعدها بدقائق. حاولت أن أرتب الخبر حتى لا يصيبها في مقتل.
مات العاشق والعشيقة المتمنعة التي حافظت على كرامتها لآخر لحظة.
لا أعرف بالضبط ماذا أفعل في هذه الورطة، ورطة لن ينفع فيها عبقرينو ولا ناجح، أنقذني مجيء صديقتيها، وتوزعت المواساة بيننا.
كان لا بد من جنازة تليق بدموعها.
كنت في المقدمة بالطبع، أحمل جثة الفقيدين، لأول مرة في التاريخ يموت محبان من القطط معاً، اللهم في حادث دهس سيارة.
كنا أربعة، كانت منزعجة ومتأثرة لضعف الجنازة وقلة عدد المشيعين.
.. موزارت حضر جنازته أربعة فقط.
لولا مهابة الموقف لأطبقت في عنقي.
كما أن ظهور مشكلة جديدة أبعدتها عني: كيف سندفنهما؟ هل بجوار بعضهما أم نرمي زغلول في مقابر الصدقة؟
واحدة تهمس: زغلولَ حقير ولا يستحق الدفن من أساسه، والأخرى تهمس أيضاً: لتنم إلى جانبه، كان يحبها رغم توحشه، سيتصالحان في العالم الآخر.
واحدة تقول والأخرى ترد عليها:
طبع الرجال المندفع الذي لا يصبر على تمنع امرأة، من لا يصبر لا يفوز، وهذه هي النتيجة، كل الرجال متعجلون.
لقد شوت مشاعره فلم يتحمل قلبه، يا إلهي حتى القطط تحب القلب المشوي.
كان لا بد من قرار حاسم: ندفنهما معاً، إما أن يتصالحا أو تنتقم منه براحتها في العالم الآخر.
انتهينا بعد أن وضعنا أوراق الريحان والرحمات لإلزا فقط، لم يحظ زغلول سوى بالحجارة، ولم يستطع أي منا أن يقول: ربنا يسامحه.
انتهينا بعد أن طلعت روحي، وتمنيت أن أغمض عينيَ لينتهي هذا الموقف.
كانت تتفحصني بعيون غائبة غائمة كعادتها، تخيلت أنها سترمي نفسها في حضني، وتكسر تمنعها بعد أن شاهدت نهاية اللعبة.
اقتربت مني، وضعت يدها على كتفي:
طلب صغير أخير: قل لموتسارت هذا أن يصنع لحناً أو كونشرتو لإلزا في ذكرى الأربعين.
14
العزاء طويل، والليل أطول، الليل موال العشاق، لكن مواله حزين هذا المساء، لا يكاد يخرج صف حتى يمتلئ المكان في لحظة، وناجح يحاول أن يصلب ظهره، يشد ياقة جلبابه الصوف، يضع طرفاً فوق طرف بإحكام، يشد ملامحه، ليس أمام المعزين فقط، بل أمام الموت، حتى إذا داهمه في الحال يأخذه بكامل حضوره.
الآن لم يعد في حاجة إلى أن ينظر وراءه، الآن بالتحديد، الكبار يمتصون المصائب أمام أنفسهم وأمام الناس في لحظتها، وحين يعودون لمخادعهم يمكنهم أن يقلّبوا دفاترهم القديمة، وربما يبكون.
انتبه، هنالك واحد على مرمى بصرك، ظل واقفاً حتى جلس الصف كله، لم يعد في الممر غيره، أصبح في الصورة وحده، ولا أحد يقترب منه، يقلب بعينيه السرادق كله، واقفاً كعمود، منتصب القامة، برقبة مائلة قليلاً، كأنه يصعرها من باب الفخامة، يحرك وجهاً صلداً تحت الأضواء كأنه مدير أمن العاصمة، الآن يتقدم وحده بشموخ مصطنع، ببذلة كاملة، خده الأيمن بسمرة واضحة، خده الأيسر بسمرة تميل إلى السواد، رمى بضع نظرات بملامح جامدة، ثم بدأ يتقدم نحو ناجح، نظرة واحدة منه كانت كفيلة بأن ينتفض الجالس بجواره تاركاً مكانه لهذا الزائر متجمد الملامح.
اسمه البيه المفتش، مفتش المباحث، لا يعرف له أحد اسماً، دخل إلى قهوة ناجح ذات صباح، يرتدي ملابس البوليس، يضع على كتفه رتبة نقيب، قد لا تبدو مناسبة لسنه، لكنه حصل على ترقية استثنائية كما قال، وصدقه الجميع.
شرب فنجانين من القهوة على عجل ثم غادر المكان، لم يطلب شيئاً، جاء للتعارف، حين عاد بعد أسبوع كان قد انتقل للمباحث، ومن ساعتها لم يره أحد رؤية قريبة إلا لماماً.
يتيم، لا يعرف له أحد أماً أو عائلة، وجد نفسه في ملجأ الأيتام، بلا نسب ولا شجرة، اتخذ قراراً واضحاً من البداية سوف يعينه عليه الجميع فيما بعد أن تكون له عائلة تغنيه عن عائلته المجهولة.
عاش يكره عبد الحليم حافظ الذي استجدى الناس بصفعة عماد حمدي، كان الضعف والاستجداء يصيبه بالقيء، ويصيب أقرانه بالدموع، قرر أن يكون بلا دموع وأن يتركها للآخرين، موقع عماد حمدي أفضل رغم خشونته.
معه ثانوية عامة بالعافية، حصل عليها بالغش، كان يضع البرشام داخل ساعة يده للأسئلة المتوقعة، يبرم المسمار فتتحرك الإجابة وما ليس متوقعاً يكتبه على سيقانه، يدخل إلى دورة المياه، ينقشها في عقله ويعود.
مجموعه لا يؤهله لشيء سوى أن يدخل معهداً بالدعوات الصالحات، وحين يتخرج لن يجد وظيفة، بالكاد يعمل حمالاً، يحمل الكراتين على كتفيه في إحدى شركات القطاع العام.
اكتشف موهبته في التزوير وحده، لكنه حين خرج من الملجأ قرر ألا يزوِّر لأحد بل يزوِّر لنفسه، بالأحرى يزوِّر نفسه.
قرر أن يختصر الطريق ويصبح ضابطاً، أخيراً اهتدى لمصيرة بسهولة ويسر.
للأمانة وحتى لا أظلم الرجل، في لحظة اتخاذ القرار كان عقله يشاوره أن يكتفي بأن يكون أمين شرطة، وحركة الأمناء أوسع من حركة الضباط، وعلاقتهم بالناس أقرب، لكنه قرر أن يكون مخلصاً لرغباته، لا يريد نقوداً فقط مهما كانت قيمتها، يريد أن يصبح شيئاً كبيراً.
النصاب البارع والمزوِّر القديم لن يجد صعوبة في أن يزوِّر بطاقات بصورته واسمه ورتبته.
في البداية لبس ملابس الضباط ليعلن عن بداية الانقلاب، ثم استغنى عنها ولبس ملابس مدنية بعد أن نقل نفسه بنفسه للمباحث، ولم يعد في حاجة إليها.
المباحث أقوى، ولن يستطيع أحد الوصول إليه بسهولة، حين يطلبونه لأداء خدمة يقول بصوت عالٍ كأنه يطارد المجرمين في الجبال البعيدة: أنا في مأمورية، سأعود بعد أسبوع، في الاتصال الذي يليه: عندنا مصيبة كبيرة.
الريح تطاوعه، وقدمه بعد أن ثبتت على الأرض استعدت للطيران.
يوماً بعد يوم تكبر الحكاية، يصدقها الناس، لكنه صدّقها أولاً.
كي تصنع كذبة كبيرة لا بد أن تصدقها أنت أولاً، ومن بعدها سوف يصدقها الجميع.
والأيام كانت كفيلة، كل يوم يمر تتلألأ الكذبة في الهواء، على كف يده، ليقول بملء فمه: أنا مفتش المباحث.
كبرت اللعبة، عرف طريقه إلى رجال الأعمال: عندنا قضية قتل، ورقم تليفونك أحد الأرقام التي طلبها القاتل كثيراً، يمكنني أن أخفيها لك كأنها لم تحدث، وعليك فقط أن تتبرع لدور الأيتام.
" تليفونك ملمّس فيها"، قالها بالحرف بطريقة تسمح له بالتأكيد أو الرجوع عنها.
أعلن عن نفسه وكَرَّت الحكاية، موجود دائماً في صدر الاحتفال بيوم اليتيم، يكرّمهم كأنه يكرم نفسه أو يشطب أيامه القديمة.
مزوِّر عتيد، ضرب كل الشهادات لمن يحتاج وقبض الثمن، يتولى عملية الإفراج عن المساجين، يجمع التبرعات للإفراج عن الغارمين، يأخذ المعلوم في الأمور الثقيلة ويترك الخفيفة لتكون له عائلة ونسباً.
لا يعدم الأمر أن يقوم بتوظيف من يحتاج، وامتدت يده الطيبة للناس، ساعدهم في حج بيت الله وفي السفر للعمرة، يحصل على التأشيرات الاستثنائية، وحين لا يستطيع يضربها بنفسه.
لم يترك خيراً إلا وساهم فيه، لكنه لم ينس نفسه، حين تظهر حركة تنقلات الضباط ينقل نفسه من مباحث السياحة والآثار إلى مباحث المرافق، ثم النقل والمواصلات، كارنيهاته في جيبه، يصنعها كيف يشاء ويبدل صورته.
يحتاجونه بشدة ويستفيدون من خبرته الواسعة.
للأمانة أيضاً لم يكن ينقل نفسه كل عام، في الغالب كل عامين.
عاش في الدور، يجلس في مقهىً قريب لمقهى ناجح، ربع ساعة كل أسبوع، يجمع الطلبات ويحدد المعلوم سراً، بدا كأنه بابا نويل الحقيقي، بابا نويل الأصلي يأتي مرة كل عام لكنه يأتي مرة في الأسبوع، أعلن عن نفسه وربح الجولات حتى الحادية عشرة،
لكنه كان قلقاً بعض الشيء من ناجح لعلاقته بالضباط، كان ذكياً بما يكفي ليصنع معه علاقة وليبقي بينهما مسافةً، حين أرسل لناجح لم يوافه إلا في الأسبوع التالي، وبعد أن رسم نفسه أمامه قربه وأجلسه بجانبه.
فهم ناجح لعبته، شك فيه، عرف أنه مزيف، كان عليه أن يوصل له الرسالة دون أن يفقده، تصرف كواحد ذهب للحج ورفض أن يرجم الشيطان، قد يحتاجه في يومٍ ما.
يحمل في يده مسدساً داخل جرابه، نسيه ذات مرة على الكرسي أثناء ذهابه للحمام، مسدس صوت تم تعديل ماسورته ليبدو حقيقياً، لقطه منه ناجح ثم مال عليه وقال له في أذنه:
أريد واحداً مثل هذا، وأريد ماسورة أفضل.
غلطة الشاطر بألف، بل غلطة المزور بألف، عرف أن ناجح كشفه، نهضا، سارا معاً بأيد متشابكة.
لا حاجة لناجح أن يسلمه للبوليس أو يفشي سره، فكر في ثانية، ضبط البوصلة وقرر أن يستغله، جعله ينقل له الحشيش داخل سيارته- بالطبع صارت عنده سيارة، وفخمة جداً- يختمه بالشمع الأحمر، يضعه بجانبه كأنه مضبوط في قضية، مكتوب عليه بالطبع رقم القضية، ولا تضحك حين تعرف أن الختم على الحشيش باسمه أيضاً.
يمر من الكمائن مثل سهم يعرف رقبة غريمه، يبدو كضابط حقيقي، بل ربما أفضل منه، في البداية يصلب ظهره ويشد عنقه، يتحدث بألفاظ جادة تناسب طبيعته الجديدة، يلاعب زملاءه في الكمائن، يروي نكتة، أحياناً يهبط ليشرب شاياً معهم، أو يتقاسم طبق بسبوسة أحضره خصيصاً.
لا ترمش له عين، يقولون عنه قلبه قاعد، لا ينتفض أبداً مهما كثرت الكمائن، لا ذرة ادرينالين واحدة في جسمه كأنه جسم لا يعرف من الهرمونات سوى هرمون النرجسية، الرغبة، ولا تنس هرمون الأناقة.
لكن المجرم الأبدي الذي لا يسقط لا يوجد إلا في دولة المافيا، أو في مسلسلات التليفزيون، الحجر الداير لا بد من حكه مهما أفلت من قلب الرحى.
لم يعرف متى يتوقف.
لم يفكر أساساً، منتش كفهد في سباق للماراثون، قد يتوقف المجرم بعد أن شبع أو تعب، أو أدركه بعض العقل فتحسب للعواقب، لكن النخاع المشحون بهرمون العظمة والسلطة صعب أن يتوقف ويتحرر من نشوته، صعب أن يرى موضع قدمه، أن يتذكر أن له قدمين من الأساس، صعب أن يحال على المعاش ويأخذ سلطته معه.
شاهد أحد اللواءات بالمعاش لم يستطع أن يحجز مكاناً في أحد المطاعم، وهو يقول بعصبية للفتاة التي تحجز الطاولات وتكلمه بغير اكتراث:
" هو لازم أقولك إن أنا لواء".
كل الأمراض تشفى، وتقل الهرمونات مع العمر إلا هرمون السلطة والعظمة وانتفاخ الذات.
صيته لعلع في المنطقة كلها، في لحظة سهو قام بتزوير عقد ملكية أرض، أنشأ جمعية إسكان، وشرع في إقامة العمارات نصب على أقارب ضباط فوقع في الهوة رغم براعة المماطلة، أفلتت منه ولم يستطع أن يداوها.
اصطادوه، السلطة تعاقب بالسلطة، وتصطادها.
حين فتشوا غرفته التي يختبئ فيها أعلى سطوح العمارات القديمة الفخمة في جاردن سيتي والتي تجاور حجرات الغسيل وغيرها، وجدوا ملابس ضباط معلقة على الحائط برتب مختلفة، إشارات وعلامات، هواتف قديمة، طبنجات صوت، أحذية ميري، شهادات تقدير على الحيطان، صور عديدة مع وزراء متعاقبين وهو يتسلم نوط الجدارة الأول، هواتف لا حصر لها ولا عدد، سقف الغرفة كسماء زرقاء مرصعة بالنجوم كأنه يهاتف العالم وما وراء العالم، جهاز كمبيوتر يسجل فيه مذكراته وغزواته، وسرير بالكاد يتسع لامرأة سمراء بجانبه.
كل ماركات الساعات وربطات العنق، وطرب حشيش مكتوب عليها: ريّح نفسك، دلع نفسك، بل إن هناك حشيش مكتوب عليه: حشيش ناجح، حشيش هوجان.
لم يعترف إلا بشيء واحد.
لم يعترف بالتزوير، لم يتقدم ضده أحد، كل من حصل على شهادة الدكتوراة وقف فوقها وحيَّاه، كل من حصل على وظيفة دعا الله أن يفك زنقته ويخرجه من ورطته، كل من حج أو اعتمر قال إنه واسطة من السماء، الغارمون دعوا الله أن يفك كربته كما فك كربهم، والمساجين قالوا إنه البطل.
واحد قال بأعلى صوته: الوظائف كانت تذهب لأولاد الناس والمحاسيب، جعل رأسنا برأسهم.
زوَّج من زوَّج، فتح البيوت، وجعل نسل الجرابيع في كل مكان.
أكل من أكل على يديه حتى لو كان هو يأكل.
لم يعترف إلا بشيء واحد، أنه ضابط وبرتبة عقيد، وإذا كانت ترقيتهم تتم بالأقدمية فترقيته تتم بالتقادم.
ثم إن اليتامى سيبكون عليه.
اعترف بالتفاصيل على مضض، قل لم يعترف.
أقسم لك أن هذا ما حدث، وسؤال واحد يكاد يجنن ضابط المباحث "فجنون": هل كان ناجح يعرف؟ وإذا كان يعرف فلماذا لم يخبرني؟ هل كان يستمتع باللعبة، لماذا عرف السر وأخفاه؟ وماهي مساحة التواطؤ بين الاثنين؟
الحقيقة أن البيه المزيف عندما أرسل في طلب ناجح، وافاه بعد أسبوع، لم يذهب فوراً ولم يمتنع كلية، وإذ ذهب في النهاية كأنه يقول له: أعرفك لكن أنا الكبير، يمكن أن تأكل عيشاً ولحماً وقشدة بجوارنا.. وسرك عندنا.
الحقيقة إن كانت هناك حقيقة أن ناجحَ لم يستطع أن يركب ضابطاً حقيقياً فراق له أن يركب ضابطاً مزيفاً.
الحقيقة أن ناجحَ وجد أن هناك من يزاحمه على القمة، يفعل كل شيء، يعرف ما على وجه القفص لكنه لا يعرف ما في القاع، يعرف الشارع الكبير لكنه لا يعرف الأزقة والزخانيق الصغيرة، لا يعرف الحشيش الأصلي من المضروب، لكن الأهم أنه يوصله إلى بر الأمان.
لعب معه لعبة أن يخفيه عن الجميع، بالاتفاق، لكنه في الواقع كان يحمي بيضة النعامة التي ساقها إليه القدر.
دفعه إلى الصف الخلفي في دنيا الليل، وترك له السمعة والصيت في النهار، والكبرياء التي تبجح بها أمامه ولم يتنازل عنها.
نقل له المزيف المخدرات، لكنه لم ينقل له الكبرياء، احتفظ به على وجهه وملابسه وحركات أصابعه، خاصة إصبع السبابة، وطبقة صوته.
حين طلب منه ناجح إيصال معلومة التفت إليه بنفس الرقبة المعوجة وقال له بالحرف الواحد وبصوت حاد:
" هو أنت فاكرني مرشد".
قلت لك من قبل إذا كنت لا تعرف ناجحَ فأنت معذور.
حين سقط المزيف بين يدي البوليس سقط من ذاكرته فوراً، كأنه كان هبة ريح واختفت، لم يزره مرة، مد يده داخل مخه تصفح الصفحات ثم انتزع صفحته، أحرق بنفسه الكارت الذي صار مكشوفًا.
صحيح أن ناجح هو من مد له الحبل وتقاسم معه الغنائم، لكنه عند نزول الجملة الأخيرة، جملة النهاية، أغلق التليفزيون، نسي الفيلم ونام ولم يفتحه بعد ذلك أبداً.
قلت لك من قبل إن ناجح نذل عند اللزوم.
ربما يكون هذا ما أوجع البيه المزيف وأوغر صدره، وربما يكون قد شارك في قتل نجله، لكنه سرعان ما طرد الفكرة، كانا سمناً على عسل، والنصاب لا يقتل إلا في حالات نادرة جداً، بل تبدو مستحيلة، غايته أن ينفد بروحه هو، ثم أنه لم يتب بعد، لا أحد يتوب من السلطة، ولو كان قد أعلن توبته لما جاء للعزاء كأنه مندوب من رئاسة الجمهورية.
لا أحد يتشفى في نجل كبير المرشدين والمسجلين معاً، ولا يجرؤ.
ربما كان المزيَّف على يقين وسط نرجسيته أن ناجح هو من أبلغ عنه، أو دلَ عليه ليغسل يديه منه، ربما ظن أن أطماعهما تقاطعت في لحظة، أحس كل واحد أن الثاني سيأخذ الكرسي.
أرض المسجلين والمرشدين ليست مُسطحة تستوعب قادة عديدين، إنها هرم بسلالم مسنونة، من يصل إليها يجد قمتها مدببة تتسع لمؤخرة واحدة تؤلم كثيراً لكنها عالية، وعالية جداً.
يمسح "ناجح" الفكرة تماماً من رأسه، ما يتذكره الآن هي الفجوة التي حدثت بينه وبين صديقه ضابط المباحث، فجنون باشا، فجوة صارت جفوة واستمرت سنة كاملة، فجوة صنعت شرخاً كبيراً بينهما، تيقن أنه خدعه، باعه بيعة الكلاب في سوق الخميس، بقيت آثار الدمل طويلاً، لكن مع الأيام اندمل الجرح وربما طاب.
لعل هذه الواقعة قد تجعله يحجم عن تعزيته.
كل ما يتذكره ناجح الآن ما قاله الضابط لعبقرينو: لا تسألني كيف فعلها ابن الهرمة، لو كانت عندي قبعة لرفعتها له عالياً، مرات ومرات.
أنا ضابط مباحث لو كان عندي كاب لرفعته للمزيَّف، وأبقيت رأسي عارية، وهي في عرف البوليس مخالفة وعيب، مزور فاجر ولعيب انتحل شخصية ضابط وبرع فيها أكثر من الضباط.
ناجح يمسح وجهه بيده، وخنوفه يتقدم ليعطيه منديلاً، يتذكر لقطة لم تُمْح يوماً من ذاكرته، حين اقترب ضابط حقيقي من الضابط المزيَّف، ربت على خده وبضحكة هازئة:
ما الذي رماك على المر، على المرار الطافح؟ أخيراً وقعت يا سعادة الباشا الكبير، يا مزيَّف.
والأخير برقبة مضطجعة للخلف، بوجه صارم ونبرة حادة مستمرة في غيها:
أنت المزيف يا سعادة الباشا.
15
نقر خفيف على شباك السيارة، ما إن تلتفت حتى تسمع نقراً ثقيلاً من الناحية الأخرى، لا تعرف إلى أين تدير رأسك، تتعجب من أين يأتي كل هذا العدد من أطفال الشوارع المتسولين، وكل علب المناديل التي يحملونها، التي تكفي لتجفيف دموع نصف سكان العالم، وربما تكفي لمسح عرق النصف الآخر، في الأخير هذا دليل على أن مصانعنا تعمل بكفاءة جيدة.
يضحك، يسمع صوت ضحكته، كانت صاحبته المغنية الراقصة التي عاش معها زمناً تقول: كان من المستحيل أن يظهر فريد الأطرش إلا وسط شعب مثلنا: الغريب يا أخي أن ألحانه لنفسه حزينة وألحانه للآخرين مفرحة، لو عاش في عصر المناديل الورقية لوضعت المصانع صورته على العلب، نحن أسطوات وملوك النكد والشجن في الأغاني، نصفها هجر وعذاب، ونصفها وعود كاذبة، والذين كتبوا أغاني البهجة لم يصعدوا للأعلى، ليس هنا مكانهم.
كانت تحكي دائماً عن منظر الست منيرة المهدية وهي تكاد تمزق المنديل وتضحك، تضحك بصوت عالٍ وتقول: "اللهم اجعله خير".
نقر مزعج على الشبابيك، لا تفتح، لا تنظر، أول نظرة منك سوف تنشّط غدة الطمع عندهم، لا تعط واحداً جنيهاً وإلا أمسك بك الآخر، أو الأخرى بالذات بك كالقرادة ولَحوَّطوك بكماشة، سوف تحلّفك بأمك وأبيك والبنت التي تحبها، سوف تنجب صبياناً وبناتٍ بأسماء لا تعرفها في اللحظة ذاتها، ولن تنضب حيلهم.
حين نضبت الحيل القديمة، تم اختراع واحدة جديدة، يقف طفل أمام زجاج سيارتك، بمحاذاة وجهك تماماً، يرفع يده أمام فمه، يحركها باستمرار، يطلب منك فقط أن ترخي الزجاج، وحين تفعل أو لا تستجيب، يقول لك: جوعان، أريد أن أأكل.
تكاد تفرغ معدتك وتكره الوجبة التي أكلتها.
نفعت الحيلة لشهور، وصار للمناديل دور مهم تمسح بها دموعك، وتبحث عن شيء آخر يمسح دموع قلبك، لكن اللعبة انكشفت بعد أن أفرغت جيوب الناس وأمعاءهم، ولأن صاحبتك بنت كار أو بنت سوق كما يقولون راحت تضع في السيارة عبوات البسكويت، تمنح من يلعب هذه اللعبة واحدة، كانوا يأخذونها على مضض وأحياناً يترددون في مد مخالبهم، في عيونهم نظرة مشحونة بالألم.
حبيبتك الهشة كانت تبكي لأجلهم، تسقط دموعها في حجرك، فتفكر أن ترميها خارج السيارة، ويكون يوماً أسود عليك.
انكشفت اللعبة التي جرجرت القلوب على سطح إسفلت قاسٍ، لكن جراب الحاوي ملآن لا ينضب.
الطريق مازالت طويلة، وهاتف عبقرينو الملعون مازال مغلقاً، وناجح في قلب مأساته لا ينتظر منك هاتفاً.
يفكر أن يطلبه حتى لو كان خنوفه هو من سيرد، حتى لو لم يفهم نصف كلامه، على الأقل سيعرف ناجح أنه قادم في الطريق:
لعل مكالمتي تبرد قلبه قليلاً، أو على الأقل تشغله ولو لخمس دقائق عن التفكير في مصيبته، سيعرف أنك لن تتركه في مصابه حتى ولو كان هو السبب في مصابك بخروجك على المعاش بسبب علاقتك به، أنت تخلصت من هذه الحكاية، ربما كان ضرورياً أن يأتي الحل من الخارج لتفلت من كماشة هذه الوظيفة، لولا ذلك لظلت قدمك مغروسة.
لكن هو لا يعرف ذلك، ولن يصدقه إن عرف، لم تستطع أن تقول له إنك فنان وإلا باعك لكل المسجلين، الخطرون لا يحترمون إلا الخطرين، لا يعترفون بغير أنفسهم وبغير الضباط، لعبة الثنائيات، كل شيء في البلد ثنائيات عدا مقعد واحد.
الأهلي والزمالك، عبد الحليم وفريد الأطرش، عمرو كباب وتامر حسني مبارك، الضباط والمسجلون خطراً.
يخلق الناس الصراع ليعيشوا فيه، يعيشون به، وناجح لا يتخيلك أبداً في صراع بين المباحث واللوحة وإلا كان قد هرسك تحت قدميه.
لو كانت هناك خصومة بينكما لربما انقضت، يحتاجك الآن أكثر من أي وقت مضى، يحتاجك أمام حكم القدر، القدر الذي اختار ابنه بلا سبب معروف حتى الآن.
يقتله بالقطع غياب السبب، مع أن معرفته لن تعيد الغائب، لكن على الأقل ستجعل رأسه تنام بعيداً عن فكرة الثأر ووطأته، وطأة الثأر أثقل من الثأر نفسه، يظل أهل القتيل يرقدون بعيون مفتوحة حتى إذا عرفوا قاتلهم أغمضوها.
يهرش أنفه: كان يجب أن يكون عبقرينو معي في هذا المشوار الثقيل، ربما يتبرع بحيلة من حيله، وربما أشار عليَّ بعدم الذهاب.
لا بد أن ناجحَ جالس الآن في مقعده لا يجد كلمة واحدة للرد على أحد، يغطيه دخان الحشيش، يغطيه دخان حريق قلبه، لا يرى أبعد من أنفه، وربما ينتظرك وحدك دون عبقرينو.
يضحك ثانية، يسمع صوت ضحكته، من اللعبة الخفية التي كانت بين الاثنين، أقل جملة تقال إنهما كانا ضرتين، رغم أن المسافة بيني وبين ناجح تختلف عن التي بيني وبين عبقرينو.
ناجح يعمل لصالحي لكن لصالح نفسه أولاً، وعبقرينو يعمل لصالح نفسه أولاً ثم لصالحي، الأول يغنم نقوداً وسمعة وتقرباً من الحكومة ويُبقي رأسه بعيدة عن أية مقصلة، والثاني يغنم حلمه الذي يتحقق كل يوم بين يديه، لا يريد سمعة ولا نقوداً.
في لوحة مفاتيح البيانو نوعان من المفاتيح، لكنها تعطي ما لا نهاية له من النغمات.
اللعبة بينهما كانت حامية، ناجح يأتي بالمعلومة ويدلك على مكان الفريسة من بعيد، يقف ليتفرج على حصاد يديه، أما الثاني فيأتي لك بالمكان ويقفز قبلك فوق الفريسة.
كل واحد وتعليمه، وهدفه الذي وضعه لنفسه، ناجح يمدك بمعلومة عن مكان الجثث لكن عبقرينو لا يتركك دون أن يكفنها معك.
عبقرينو ولا فخر هو أول من اخترع "البرايفت" في التليفون، الاتصال الخاص الذي لا يُظهر رقم الطالب، جعلك أول من يستخدمه في الوزارة كلها، كي لا يعرف رقمك من تطلبه.
حين يعجز ناجح، يتقاعس أو يتصرف بلؤم حول مكان مجرم، يتدخل عبقرينو "بالبرايفت" يحدد المكان بالضبط، بل يقدم لك مكانه في الأيام الأخيرة المكالمات التي أجراها، مدة كل مكالمة، من أي شارع ومن أي بيت أو خرابة، متى ومع من، لتقبض على حرامي ابن لبؤة اختفى وأغلق هاتفه.
كان لا بد من تفصيله أخرى لتكتمل اللعبة، تفصيله من اختراع عبقرينو ومباركتي لا يعلم عنها ناجح شيئا، يطلب المجرمين عبر "البرايفت":
مبروك، كسبت معنا، رقمك ربح عشرة آلاف جنيه، توجه إلى أقرب فرع لك لتتسلم نقودك في الفترة من الساعة الواحدة حتى الساعة الثالثة، لا تتأخر دقيقة واحدة وإلا ضاعت عليك.
عبقرينو يفتش في هاتف كل مجرم، يرى ماذا يحب، ماذا يستعمل، ثم يضرب من نقطة عشقه.
وفي الوقت المحدد نكمن له داخل الفرع، يسلمونه النقود ثم نستلمه نحن.
مبروك، رحلة عمرة، أنت والمدام.
.. أنا غير متزوج.
نقول له، كأننا لا نعرف أنه نصاب ابن وسخة يقتات على فلوس النسوان:
في هذه الحالة يحق لك الأب والأم فقط، نحن نراعي حالة كبار السن.
نلعب معه على غدة الطمع، نأخذ منه العنوان الموجود به، أو نقول: اِذهب للفرع في شارع قريب، ثم نطب عليه كالقضاء المستعجل بعصا موسى.
هل تسلمت الأشياء التي أرسلناها أمس؟ هل وصلت أم لا؟
يتفحص تاريخ النفوس وحالها، يفلي المكالمات، يعرف منها قسط التعليم الذي حظي به المجرم، يتكلم بالإنكليزية حين يعرف أن مجرماً يستعملها في مكالماته:
تم خصم مبلغ منك، سنحوله لك مرة أخرى، وجدنا المكالمة تم حسابها كمكالمة دولية.
نخصم الرصيد منه ثم نعيده إليه فيعود إلينا.
الطمع والنسوان، هما من يجذبان المجرم، يجب أن نلعب عليهما، ولا ينقص تأثيرهما على أي مجرم كان إلا في حالات نادرة.
ربحت معنا ما لم يربحه أحد، شال فلسطيني مطرز، قطعة واحدة معمولة باليد، غير موجود في مصر أساساً.
نجري في سباق مع الزمن:
يا باشا، الولد عبر الحدود، وأكيد راح غزة، سرق السيارة وطار بها، سيبيعها ويعود بدونها.
لا يرضى عبقرينو أن يضيع جسم الجريمة مهما كان، لا يستطيع أن ينام قبل أن نقبض على كل أثر يودي بالجناة إلى السجن.
لا يَعدَم الوسائل، يبتدعها.
وناجح يضرب كفاً بكَف متعجباً.
هو لا يستدرج أحداً في الغالب، لا يسلمك أحداً تسليم مفتاح، لا يريد ثأراً ولا خسارة ثمينة، يمنحك المعلومة ويجلس بعيداً ينتظر النتيجة، لا يريد أن يصبغ يديه بأي دهان، يسلمك التفاصيل، ولا يعنيه أن يموت المجرم أم لا، المهم أنه لن يسلمك أحداً بيديه إلا في الحالات التي قد تشين سمعته.
عبقرينو يذهب معك ليسلمك المفتاح والشقة والأثاث والجثة بنفسه، كي يزهو أولاً بنفسه ويعود لينام هانئاً وسعيداً.
لكل منهما حزبه الخاص.
ناجح يجلس في خلفية القهوة، أحياناً في شقته التي تعلوها، معه رفقاء السلاح، شلة الأنس، يجلس كواحد منهم، كبير لهم لكنه يتباسط، يضربون حجارة الحشيش حتى مئة حجر، أسس- دون أن يقصد- حزباً أطلق عليه" حزب الانبساط"، شعاره الجوزة، شعار مطبوع على حوائط المقهى وعلى جدران وقلوب أعضائه، قلبهم على بعضهم البعض مهما اختلفوا، يحكمهم قانون اسمه قانون ناجح، قانون غير مكتوب، محفوظ في الصدور.
حزب شعاره الحقيقي أطباق البسبوسة بالقشدة، أحياناً بالحلاوة الطحينية، لا يطيب لهم التحشيش دونها، الحلو مع الحشيش، يطلق المخيلة ويجعل الدنيا كلها تهيص.
بعد أول عشرة أحجار يترنم أحدهم:
الحمد لله الذي جعل الحشيش لنا خير قوت، وجعل النار من حوله كالزمرد والياقوت، ويرد آخر: عن أبي موتسيان الذي داخت المباحث خلفه: اللهم ارزق الحشاشين والحشاشات، الأحياء منهم والأموات، المسجونين منهم والمسجونات، وامنع عنهم رجال المباحث والشبهات، وارزقهم بجوزة لطيفة وقعدة خفيفة، إنك سميع مجيب الدعوات، ثم يطلع بصوت جهوري: إخوتي الحشاشين، أقيموا الحشيش.
عبقرينو له حزبه الخاص جداً، هو الرئيس والأعضاء، لا يريد مولداً ولا يحزنون، يكافئ نفسه بنفسه، يدعو نفسه وصديقته للعشاء والشرب في أفخم مكان، يعود لينام وحده أو معها، طاووساً من بلاد قورش.
كلاهما طرفا مقص مفتوح، حين ينضمان على بعضهما تُنجز القضية.
المشترك بينهما هو الحلم، تصور، عبقرينو حلم أن يكون ضابطاً، تحقق له وتفوق على نفسه حتى صار عندي أهم من الضباط المعتمدين، هو من يستحق لقب الخبير، أفضل من أي ضابط، سمعته تجاوزت التنكيت عليه أو السخرية منها، بل داستها.
ناجح يحلم باستمرار اللعبة التي ابتكرها وأدمنها، أفضل من يقنع ضابطاً أن لون البحر أزرق، ملك تسوية العبط مع الشيطنة في طنجرة، دوخته الأيام، لطّمته، تعلم كيف يصطاد وهو واقف على الشاطئ، غويط لا تعرف قراره، بحره غامض بقاع بعيد، يمشي دائماً على أطراف أصابعه ولا تحط قدمه على الأرض إلا عند النوم.
بينهما عداء صامت، ربما ليس عداءً بل غيرة صامتة، ناجح يستغرب من هذا المرشد الذي يراه أكثر التصاقاً بضابطه، من صوته الذي يعلو أحياناً حين يخطئ أفراد القوة في تفصيله، أو حين يجمع تليفونات الأمناء قسراً عند الخروج لمأمورية خوفاً من الخيانة، صوته يعلو أكثر حين يتبرم أحد الأمناء من تسليمه هاتفه.
كانوا يطلقون عليه: معاون مباحث الحنجرة، مع أن هذا اللقب يستحقه ضابط لا يفكر ولا يبحث جيداً، دخل المباحث بالواسطة أو بالصدفة.
لا يعرفون أن عبقرينو هو الحنجرة نفسها التي تتنفس بها عملية القبض على مجرم خطير أو حل قضية أسرفت في غموضها.
ربما يكرهه ناجح لأنه يستطيع أن يأتي بمجرمين لم يستطع هو أن يصل إليهم، حتى وإن دل عليهم أو منحنا بعض خيوط يرى في النهاية أنها مستحيلة، يفتح فمه عن آخره كأنه لم يصدق في خياله:
الولد صعب، لن يقبض عليه سوى عزرائيل.
لذا يمازح عبقرينو أحياناً من خلف أسنانه:
أهلاً بالفن كله، عزرائيل احتار معك يا عبقرينو باشا.
عبقرينو لا يكرهه، يعرف أهميته، لكنه يكره الدور المداهن الذي يلعبه، يسميه ناجح الزئبق، لا يصدق أنه تاب، يتخيل دائماً أنه يخفي خيوطاً كي لا تنهدم مملكته، لكنه حافظ على الخيط الرفيع معه، اعتبره مرشده هو، وهذا ما كان يغيظ ناجح منه وإن أمسك غيظه.
كنت أتفرج على اللعبة، لكنني أتدخل في الوقت المناسب.
أفكر دائماً أن أرسم لهما مركباً يقوده كل واحد في غير اتجاه، لتغرق قبل أن تبدأ رحلتها، أن أرسم لهما الريح وهي تعبث بالشراع، وهي تكاد تمزقه، كنت أتراجع، أحاول مداواة الغيرة الصامتة بطبق من البسبوسة دون دخان، وأرى دخانهما يصّاعد في الهواء.
يحجب ناجح معلومة أو يستهزئ بها، لكن عبقرينو يبحث عن الشيطان خلفها.
تتذكر الآن آيات.
آيات تزوجت شيطاناً، كان لاعباً نشطاً في دنيا النشل، ملقاطاً كبيراً، عندما وقعت أسنانه وأصابته طلقة عرج بواحدة وارتخت يداه، حاول أن يجد مكاناً في تشكيلة المخدرات لكنه وجد نفسه صبياً بعد أن كان معلماً، وجد نفسه يلعب لصالح غيره، تصالح مع مواهبه وقدره وذهب إلى عمل من لا عمل له، نصّب نفسه منادياً يقلب عيشه، اختار منطقة على هواه ليكون سيد نفسه.
كان اسمه البرنس في النشل فأصبح الخِسع في المخدرات ثم فتح الله عليه باسم معقول: الحاج محمود المنادي، ولأنه يندر أن تتوب القحبة كان ينشل زبائنه أحياناً، يعيد لهم الأوراق الرسمية التي عثر عليها في مكان قريب ليقبض مرتين من الضحية.
لم يهنأ طويلاً باللعبة الجديدة ولا أن يلقن ابنه مفاتيح الصنعة، عاجله الموت بعدما حرق قلوب الكثيرين وخرق جيوبهم، نشل وحده ولم يعط المعلمين الكبار شيئاً، مات قبل أن يكتشف أن آيات كانت تلعب في ظهره ومن أراد الثأر منه ثأر بها.
كما تنشِل تُنشل.
خافت آيات، أرادت أن تمسح الماضي كله وتلعب على نظيف، تركت المكان وحطت في مدينة السلام، قد تجد ما تحلم به من سلام، معها صبيها الذي تعامل معه أقرانه على أنه غريب، والغريب في هذا الوكر فريسة حتى يثبت العكس، كانوا كعادتهم قساة، صبي طري الجسم طري الروح لا يفهم ألاعيبهم رغم أنه تربى في بيت عتيد، فأفرغوا فيه ذكورتهم، أطلقوا عليه اسم زقلط في البداية ثم سوسن بعد أن اعتلوه، فاستجاب لهم، ربما رضخ، لا حائط يحميه ولا عصا ولا لساناً.
ابن العوَّام غالباً عوَّام، لكن الريح جاءت من الجنوب، وهو تعلَّم، بعد أن كان يُختَار صار يَختار، بعد أن كان يُغتَصب.. صار يُغتَصب وينتقي قاتله.
العِرق يمد لسابع جد، رأت آيات أمها وهي تلعب خارج الصندوق كثيراً، آيات بسمار خفيف يمرح على وجهها، عليها كلها، جسد شُدت عليه أحبال متينة ملتوية فلوتها جيداً، وطبخت كل نتوءاتها في اتجاهات متعاكسة، الأعلى يفر إلى الأعلى، والأسفل يفر إلى الأعلى والخلف معاً، سن ضاحكة ولسان يسحب السمك من قاع البحر وهي على الشاطئ، وحيدة غريبة مع ابنها في منطقة غريبة، كانت نيتها أن تجد واحداً نصف كم، تصير معه زوجة ثانية ولو بعقد عرفي، ملامحها ومشيتها تدلان على عشيقة، والجميع دائماً ينتظرون فريسة، أفرغوا فيها أحلامهم وكبتهم، قد تتوجع مع ابنها في ليلة واحدة، وقد يتسامران ويهرشان.
للأمانة قيل إنها شهية وسخية، لكنها في منطقة لا تقدر المتعة بالمتعة، تطفف الميزان، تنشل ولا تعترف، تسرق ولا تشكر، تكشف سواءتها ولا تخجل أن تدهن الحوائط بمَنيّ الحكايات، كل من أعجبته وأعطته ضرب موسياً في جبهتها أو خدها الأسمر الخفيف الناعم، كل من أعجبه جُرْحها.. جَرَحَها.
سمارها كان يطوي الجروح، شكرته كثيراً، لو كانت بيضاء لما صمد، حين يستمتع وافد جديد وقبل أن يقوم من مقامها قومته الأخيرة يضع بصمته، يضرب بشلة في وجهها، بجرح يتسع أو يصغر حسب درجه استمتاعه، أو وجعه، يعرف أنه لن يكون الأخير ويكره أن يتركها لغيره، ولن يستطيع أن يستمر حتى إن أراد، تطعنه سمعتها كما تطعنه نداءاتُها، لا يستطيع أن يخرج دون أن يترك أثراً يدل على أنه مر من هنا.
وجهها تحت وطأة البصمات صار وجهاً آخر، طريقاً غير معبد مملوءًا بالحفر، الذي هواها وأطال عندها وبكى قبل أن يتركها حفر لها شارعاً في غرتها، في أعلى مكان كي لا يطاله أحد.
وجه بجروح بل جروح بوجه، عين تكاد ترتفع لأعلى والأخرى بطرف يميل لأسفل.
حين رسمت لها لوحة كانت الأمواس والسكاكين تملؤها، بارزة من الحفر، وعيون جائعة شريرة تختبئ خلفها، أنفها الذي نجا من الأمواس واقع في أسفل اللوحة.
فكَّرتْ أن تعتزل دون مباراة وداع، يكفيها أن تنظر في المرآة لتعرف عدد المباريات التي لعبتها، أشك أنها تتذكر عدد الأهداف التي تلقتها شباكها.
مع الأيام لم تعد مطمعاً لأحد، كانت تجلس على باب دارها ويجري وراءها من يجري، الآن تجري ناحية المستشفى التي لم تقربها من قبل رغم جروحها، تجري خلف ابنها الذي أصيب بجرح قطعي في جبهته بدلاً منها، وبجرح نافذ في بطنه وآخر في مؤخرته المجروحة على الدوام.
قال ناجح: امرأة وسخة وابنها أوسخ منها، تشاجرا مع أي عابر على حكاية تافهة، لا يستحقان البحث خلفهما، هذه حكاية تحدث كل يوم.
وانصرف.
صرفهما ضابط أرعن لا يملك غير حنجرته، لا يريد أن يوجع رأسه بعمل محضر، قال: ناس وسخة.
هو من يستحق لقب معاون مباحث الحنجرة.
قال عبقرينو: هناك جرح نافذ، هناك شياطين لا شيطاناً واحداً في الحكاية.
في البداية لم أكن مكترثاً، لم تكن هناك شواهد على أي شيء سوى ارتباكهما في حكايتهما:
خناقة مع بائع سكاكين، ضربه من ضربه وطار.
خناقة مع بائع أنابيب غاز، غزه وطار.
لم يذهب عبقرينو عند باعة السكاكين ولم يبحث عن بائع غاز.
ناقش الصبي، حاصره وعصره، استخدم معه نظرية الشبورة، بخَّ فيه حتى أعمى عينيه وأوقف عقله ثم تركه يخر الحكاية وحده، بعدها أشار عليّ بسرعة التحرك؟
ذهبت معه على مضض إلى دارهما، لم نجد شيئاً سوى قتيل لم تبرد دماؤه بعد، استدرجه الصبي لينام معه لكن الصيد راق للمرأة، أول واحد تختاره من سنين.
أي قتيل هذا الذي يغير مبادئه في لحظة!
في الغرفة الداخلية وقع الخلاف بين الأم وابنها، اشترطت أن تنام معه أولاً.
.. أنا الذي اصطدته.
أمك شرقانه، لم تبل مرتبتها من زمان.
.. لو نام معك ستقطَعين نفسه، ولن يكون فيه حيل بعد ذلك ليركب دجاجة.
دعه لي، لا أحد يطلبني من زمان، سأعوضك عنه في مرة قادمة.
.. اتركيه لي، أنا الذي اخترته وأوقعت به واستجاب.
وارتفع صوتهما، طار الصراخ وتعاركا بالأيدي.
ولأن القتيل طيب فقد حاول أن يفصل بينهما، وبدأ الفصال: مع مَن ينام أولاً؟
لاحظ الصبي أن عين طريدته لا تنظر إليه، تميل بحرقة إلى أمه، أوجعته مؤخرته وربما أوجعته نخوته لأول مرة، ضرب القتيل، ضربه القتيل، واحتدمت المعركة بين الثلاثة وعلا صوت الشماتة.
لم يجد القتيل سوى سكين حاول أن يخيف بها الصبي، ولأن الحديد يستطيل من تلقاء نفسه في قلب المعارك، مستجيباً لحدة الصراخ انغرز في مؤخرة الصبي الذي جاءته فرصته ليدافع عن شرفه، عن فرصته التي رتبها بنفسه لنفسه ورآها تضيع أمام عينيه، أكلته الدودة التي زرعها الصبية فيه فظل يضربه بمفتاح انبوبة الغاز حتى هوى.
.. " أنا طلعت راجل يامه، أنا طلعت راجل".
تركاه في دمه وانطلقا للمستشفى.
.. أنا طلعت راجل يامه.
ناجح مغتاظ يخفي خيبته، على وجهه النظرة ذاتها التي تستقر على وجه مخدوع:
عالم تلعب الدودة في أساسهم من لحظة ولادتهم.
وعبقرينو طار كعادته، لا بد أنه في بار بعيد بإضاءة خافتة يحتفل مع صديقته، ويشرب بعمق كأنه يشرب البحر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.