حين كانت خالتي حُسنى تزورنا في شقة عابدين، كان جميع أهل أبي يختفون فجأة، في مشاوير طارئة أو يغلقون عليهم باب إحدى الغرف. لا يُرحّب بها أحد سوى أختها المحرجة وطفلها الجميل. ربما لأنها كانت تلبس فوق الركبة وتضحك بصوتٍ عالٍ وتدخن كالرجال ويعلو صوتها وهي تداعبني قائلة: لولاك انت يا ننّوس عيني ما كنت عتّبت البيت ده. كلّما نصحتها أمي بالتعقّل تتمادى في استهتارها، خصوصاً بعد أن بدأت تغني في صالات ومسارح مُنوعات درجة ثالثة، ويبدو أن سيرتها كانت تصل إلى أبي وهو سهران مع أصحابه، تأتيه أخبارها بعد إضفاء لمسات المبالغة الضرورية، فيُزعج هو ماما بتلك الأخبار. لعلّ هذا ما شجّعه على أن يحاول الاقتراب منها ذات مرة وهي تزورنا وماما في المطبخ. علا صوت خالتي وأهانته أمام زوجته وأمه، لم يسكت لها وسبّ كلٌ منهما الآخر، قبل أن تنصرف تاركة البيت مشتعلًا. لم تعد إلى زيارتنا منذ ذلك اليوم إلّا بعد وفاة أبي. كانت جذوة الحب بين أحمد وبدرية قد خمدت بنفس سرعة اشتعالها، فعادَ إلى سيرته الأولى، واصلًا الليل بالنهار في مجالس الأنس والفرفشة، التي اطلعتُ بنفسي على بعض مشاهدها، كلّما نجحتُ في التعلّق به عند خروجه. رأيتُه مرة يُنظّم أصابع الحشيش في علبةٍ خشبية أنيقة مُطَعَّمة بالصدف. رماني بنظرةٍ جانبية، وقال غامزًا: مزاج الباشوات ده يا هنّون، لما تكبر هتدوق وتعرف. وكم كنتُ أشتاق أن أكبر وأذوق وأعرف. ومرّة أخرى رأيته يدخل الحمّام وراء واحدة من بنات الأتيليه، ثم يخرج بعد قليل وهو يمسح فمه. كنتُ واثقاً بأنهما فعلا ما يفعله الممثلون في الأفلام، وفي ذلك أيضًا كنتُ شديد اللهفة لأن أكبر، وأذوق، وأعرف. وبسبب الحشيش غالبًا اقتسمَ أبي الأتيليه مع أصحاب ورش أخرى، وصارَ مفتوحًا كأنه سوق. أرى نفسي الآن، في العاشرة من عمري أو نحو ذلك، جالسًا بجانب الشباك الصغير بقضبانه الحديدية الرفيعة، حتى أتنفس هواءً نظيفًا غير ما يهيم في الصالة مُشبعًا برائحة مزاج الباشوَات يا هنّون، ورأسي يدور قليلًا. كان ذلك الشباك هو لُعبتي السرية، لأنه يطل على طُرقة صغيرة، في الركن منها مبولة أقامها هناك أصحاب بعض الورش، لأنَّ أغلبهم يعمل في غرفة أو اثنتين بلا حمّام. كنتُ أحبّ جلوسي في هذا الركن، لأنني أصيرُ فيه خفيًا عن أعين أبي وأصحابه، وأيضًا لكي أتلصصَ على المتبولين. لا ينتبه أحد للصبي المسترخي في خمول. أرمي طرف عيني كلّما لمحتُ رجلًا يقف أمام المبولة مُتناولًا عضوه من تحت ثيابه، فأتأملُ خلسةً تلك الحمَامات كما يسمونها، متسائلاً عن سر التسمية، فهل تطير كالحمامات؟ لم ينتبه أحد سوى رأفت. كان يعمل مقصدار، شابًا له شاربٌ رفيعٌ ومستقيم، ويفرق شعره الأسود الثقيل من الجانب. أتذكره الآن يرتدي على الدام فانلة حمراء لامعة القماش وطويلة الرقبة، لا بدّ أنه كان يحبها جدًا، لكنّي لم أره قط في ثياب متسخة أو مهترئة مثل حال أغلب العاملين في ورش العمارة، ودائماً ما كان صوت ضحكته الرائقة يجلجل على السلالم. هو وحده مَن لاحظَ طرفَ عيني المتسلل، بل وأحب فرجتي على عضوه وتظاهرَ بالغفلة كأنّه لا يراني، وأخذَ مع الوقت يتمادى ويداعب حمامته البيضاء الناعمة، فيشتدّ عودُها وتحدثُ المعجزة التي كنتُ أراها لأول مرة، الحمامة تنتفخ كأنها ستطير، فهل تنوح مثل حمامات منور بيتنا؟ وعلى غفلة مني ينظر إليّ فيمسكُ بعينيّ تلتهمان قضيبه. انكشف أمري، وتوقعتُ مرتعدًا أن يشكوني لأبي، لكنه لم يفعل. في المرة التالية لوقوفه هناك، وما إن استطعت تمالك نفسي والنظر إليه، حتى ابتسم لي ابتسامة خفيفة، وهزّ رأسه هزة صغيرة كأنه يدعوني لاستكمال اللعبة معًا، لكني أشيح بوجهي وقلبي يخفق بشدة وأسمع خفقانه يضرب في أطرافي وتتحوّل صور المجلة التي بين يديّ إلى مجرد بقعٍ ملونةٍ بلا معنى، ثم أنتبه لأبي يقهقه بعد أن احتدمت السخرية من أحد أصحابه إذ انسطل وخرّف بالكلام. وقد ينتبه بابا إلى وجودي فجأة، فيطلب مِني أن أقلّد لهم فريد الأطرش. هنا أضع مجلتي المصورة جانبًا وأقفز من فوق مقعد الفوتيه وأقف بينهم وسط الصالة، مُتشنج الوجه والفم، مصطنعًا الآهات والليالي، قبل أن أغني بطريقة مضحكة، مُستلهمًا لبلبلة الطفلة التي شاهدتُها في التليفزيون تقلّد الفنانين: مش كفايه يا حبيبي مش كفايه، عايزك إنت، قلبك إنت. تفرقع الضحكات من حولي مثل بُمب العيد، وربما علّق بابا بعبارة فخرٍ مازحة: الفن بيجري في دمه من الناحيتين. عندئذٍ يصير هاني شيئاً آخر، يصيرُ مهرجَ الملك ومركزَ الانتباه، يصيرُ أُضحوكة الرجال ومحط نظرات أعينهم المختفية وراء الجفون المثقلة. عشقتُ هذا الدور زمنًا طويلًا، واندمجتُ فيه. بين الحين والآخر، وفي عز الاستغراق في لعبتي بينهم، كنتُ ألمحُ وجه رأفت من وراء الشباك الصغير، واقفًا هناك، يتابع العرض المجاني، مُبتسمًا ابتسامةَ كاتم الأسرار.