انفلتت روحي فجأة من الجسد إثر موجة من الضحك العارم، العينان كانتا تحدقان بذهولٍفي نقطة ما، لعلها المحاولة الأخيرة؛ لاصطياد الرُوح الهاربة، ارتجافه أخيرة على الشفتين المنفرجتين، ليست ابتسامة بالتأكيد، لكنه سؤال مُعلَّق بلا إجابة. الرأس كان قد ارتج فجأة قبل الحدث، وقشعريرة رعب تفشت في الأعضاء جميعها. بدا لي أنه لم يكن هناك مناص من هذا الرحيل المُباغت. صرت اثنين: جسدٌ مُلقى على كرسى المقهى البلاستيكى الأخضر، رأسه مائلة إلى جانب كتفه اليمنى، عيناه ثابتتان في سماء غائمة، ويداه متهدلتان على مسندي الكرسي بأصابع نصف مفرودة. والآخر: روح تتقافز بخفة الأرنب، أو كرة الراكيت على كل شيء، تعبر الشارع الضيق بين جلستنا، وداخل المقهى، ترتقى على حواف الكراسى المصفوفة، وقواعد الأكواب الزجاجية المغسولة، وكوشة النار دون أن يرجفها برد، أو تمسسها نار. فقط ترقب جسدها المُدلى هناك بلا حيلة، وتنتظر. هناك لوعة، وروع. الأصحاب قفزوا من كراسيهم وأخذوا يُقلِّبون الجسد. يرفعون اليدين. يلصقون آذانهم بموضع القلب. يشوحون بأيديهم أمام عينين ثابتتين. ثم بدأت هستيريا الصرخات والجُمل المبتورة التى مزقت سحابات دخان الشِيَش التي كانت تحوم في الأجواء.. – يا ربي! كان لسه بيضحك دلوقتي حالًا. – الواد مات.. مات. – يا ناس؟! يا ناس؟! – إسعاف بسرعة. فكرت في العودة. صدقًا فكرت فيها، وإلا ما أخذت روحي الشفيفة الخفيفة ككرة تحدق إلى جسدي بارتياع. كنت فعلًا على وشك العبور إلى الجهة الأخرى؛ للقفز مرة أخرى إلى جسدي الذى أراه الآن صندوقًا من اللحم بلا قوة أو جدوى. فقط ينطوى في ملابس خفيفة لا تقيه من رصاصة معتدية، ولا نار ناشبة، ولا بأس متكرر. جسد يشبه جدران حبسة اضطرارية، وكنت أظنه من قبل مترام القوة كالمحيط، وقادر على تغيير كل ما حوله طالما أنه كان يسعى على قدمين. اكتشافى الفجائى منعني من العبور للحظات. أخذت روحي فجأة في الضحك. لو كان لها أطراف كالأيدي لخبطت كفًا بكف، لكنها لا تملك أطرافًا ولا ملامح رغم امتلاكها لقوة طاغية تعي، وتتحرك، وترى ما حولها. أشعر بالذهول يجتاح الضحك، والضحك ينساب رغم كل الرعب الكائن على مسافة ذراع، أو أكثر قليلًا. يااااه، كم هم صناديق معبأة بالرعب، والتوجس، والفضول. الجميع نَمْلٌ يسعى متحاشيًا كل شيء. أحدهم يعبر إلى الجهة الأخرى؛ ليراقب من بعيد. لا يتحمل مشهد الموت ربما. أنا نفسى لم أكن أتحمل مشهد الموت، وكنت أظن لو أنني طالعت عن قربٍ وجه عزيزٍ ميت، فلن أهنأ بحياة مريحة بعدها أبدًا. التكرار يصيب الشعور بالبلادة.. البلادة؟ ليتها بلادة محببة ومطلوبة، لكنه التسليم التام. أنا مثلًا حينما كنت جسدًا وروحًا مندمجين كنت أعتبر البكاء شيئًا مشينًا للرجال، لكن تكرار الألم مع رحيل من أحبهم شَفَّ نفسى، فصرت لا أتحمل الألم، وأندفع في بكاءٍ مُرِّ. صار البكاء مريحًا يكشط من روحي أثقالها، فاستعذبته. صدقوني: الألمُ مرضٌ عضال، والبكاء مُخدرٌ قوىّ. سيبكون، ثم سيأخذون فى التعايش مع الأمر بعد أيام، وإلا فأخبرونى كيف تعيش تلك الصناديق المتحركة بعد ذلك وهي تقلب في الصندوق الذى تهدل فجأة على أمل أن يفيق، وهى لن تنسي مشهد اقتناص الموت له من بينهم سوى بالتعايش مع الألم، حتى لا يُسلمهم إلى الجنون، أو تمنى الموت كل لحظة. كنت سأعود، لكن المعرفة المباغتة أوقفتني، وهذا النفاذ الأخير لوعيي من منطقة البرد، والحر، والخوف، والفرح، والتفاؤل، والتشاؤم، وكل ثنائيات هدم القلب، حتى لا يتبقى فيه متسع لحبٍ أو لرغبةٍ أو لأملٍ، كتفت حركتى باتجاه العودة، والدخول مرة أخرى إلى الجسد الملقى هناك، مُطلقًا صيحة فرح: "كنت أضحك معكم، هل أدهشتكم قدراتي الخاصة على تمثيل مشهد الموت؟!". لن تهمني ساعتها لعنات الناس، ووصمهم لي بالجنون، المهم أن أحتفظ بمعجزتي لنفسي، لكني لم أتخذ قرارًا بالعودة بعد.. وساءلت روحي نفسها: هل أفنى بفناء جسدي الذى يُقلبونه هناك حين أصير ترابًا، أم أننى سأعيش أبدًا كروح طليقة؟! ورغم عدم امتلاكي أية إجابة شافية تراجعت عن العودة إليكم، وأستميحكم عذرًا لذلك: من هذا المجنون الذي يجد فرصة وجدتها الآن ويعود مرة أخرى إليكم جميعًا. أعرف أن البيت سينقلب رأسًا على عقب، وأن بقية أصدقائى سيروعون لوقت طويل، وأن …..، لكن ….. أنا الآن عصفور أستطيع التحليق في السماوات: هل أستبدل الخِفة بالثقل، والأمن بالخوف! كنت رهينًا لعقارب الساعة، والآن صار العالم في قبضة يدي. لست ساذجًا.. كم أنا حُرّ الآن.. كم أنا حُرّ. واندفعت روحي بلا تخطيط تشدو بغناء متصل وهى تُحلِّق فرحًا في السماء: أنا حر أنا حر أنا حر .. تررم تررم تررم.. أنا حر أنا حر أنا حر .. تررم تررم تررم.. أنا حر أنا حر أنا حر … *******