تتردد كلمة "التنوير" كثيراً علي ألسنة دعاة الثقافة وفي مقالاتهم.. يستعملها كل من يريد نقد الدين والفكر الديني والممارسات الدينية لجماعات معينة متخفياً وراء التنوير ومتهماً تلك الجماعات بالظلام والظلامية.. وقد ذاعت هذه الكلمة في وسائل الإعلام وفي الصحافة لدرجة الملل من سماعها خاصة بعد أن صارت مجرد سلاح ضد الخصوم السياسيين. وبعيداً عن هذه التصنيفات النمطية الشائعة.. التي ترتبط بالتراث الفكري والثقافي الغربي.. فإن التنوير بمفهومه الحقيقي الشامل قيمة إسلامية رفيعة.. من منا لا يحب التنوير ولا يريده.. خاصة أنه لفظ قرآني.. فقد وصف الله سبحانه وتعالي رسالة الإسلام بأنها نور الله.. "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".. ووصف الله المؤمنين بأن "نورهم يسعي بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا".. وفوق ذلك فإن "النور" من أسماء الله الحسني. فالإسلام ليس ضد التنوير الحقيقي الذي يدعو إلي الانفتاح العقلي وإسقاط التفكير الخرافي والخزعبلات والأساطير.. لكن المشكلة أن دعاة الثقافة عندنا وضعوا التنوير في مواجهة الدين.. واستخدموه استخداماً مغشوشاً ومزوراً.. وابتعدوا به حتي عن الأهداف التي ظهر من أجلها في التراث الفكري والثقافي الغربي. لقد ذاع مفهوم "التنوير" في فرنسا في القرن الثامن عشر في مصطلح "فلسفة الأنوار" ويعني تفجير العقل للتفكير في الأوضاع الاجتماعية والسياسية والدينية.. واعتبار أن حرية الفكر ليست خطراً علي التقوي ولا علي سلامة الدولة.. بل إن القضاء علي حرية الفكر فيه تهديد للإيمان ولسلامة الدولة.. وبهذا المفهوم كان "التنوير" معبراً عن نفسه في مبادئ الثورة الفرنسية الثلاث: الحرية.. الإخاء.. والمساواة.. وكان موجهاً ضد الكنيسة والإقطاع والملكية. ثم انتقل "التنوير" إلي ألمانيا بنفس المعني فأنشأ ثورة ..1848 وتبني أنصار الفيلسوف هيجل الشبان مبادئه كي يحققوا أهداف ألمانيا القومية وفي مقدمتها الوحدة.. وكان قد سبق من قبل نقله إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية وسبب الثورة ضد الانجليز.. وجسده تمثال الحرية في مدخل نيويورك. وعلي ذلك فالتنوير يعني تاريخياً الاعتماد علي العقل في مواجهة الخرافة.. والدعوة إلي الحرية في مواجهة الاستبداد الديني والسياسي.. وتطبيق العدالة في مواجهة الاستغلال والتمييز.. أما أن يكون دعاة التنوير مبررين لاستبداد السلطة ومروجين للتوريث السياسي فهذا توظيف مزيف للتنوير في خدمة السلطان.. مع أن التنوير نشأ أساساً ضد السلطان.. وفي هذه الحالة يكون تنويرهم تزويراً مفضوحاً. التنوير في نشأته مرحلة من مراحل تطور الفكر الغربي.. لكن أدعياء الثقافة يزرعونه عندنا باعتباره ضرورة فكرية حتمية ضد الدين.. ولإنجاز مهمتهم اضطروا إلي تحويل ما كان حاملاً للحرية ضد القهر والاستبداد إلي حامل للقهر والاستبداد ضد الحرية.. بل إن الإسلام المستنير لا مكان له عندهم لأنه "تستر بالعقل لأخطاء الدين".. وفي المحصلة النهائية جعلوا التنوير معركة ضد الدين خدمة للسلطان وليس خدمة للشعب. لكن.. هل نحن فعلاً في حاجة إلي تنوير.. أو إلي حركة تنويرية؟! نعم.. نريد تنويراً حقيقياً يأتي من ديننا.. من عقيدتنا.. من تراثنا.. من بنائنا الروحي والاجتماعي والثقافي.. لينهض بأمتنا مرة أخري.. وينفض عنها ما علق بها من تخلف وانهزامية وجمود واستبداد.. ولاشك أن هذا المفهوم الإسلامي للتنوير يختلف تماماً - بل يتناقض - مع المفهوم المغلوط والمزور الذي يتبعه العلمانيون. التنوير كان ولايزال هو رسالة الإسلام.. أخرج به الله سبحانه وتعالي المؤمنين من ظلمات الاستبداد والاستعباد والخوف إلي نور الحرية والعلم والعدل والأمن.. وما ينقصنا اليوم هو التأكيد علي هذه الحقيقة والعودة إلي الوعي بذاتنا.. وليس ينقصنا المزيد من التغريب والتشتيت. ما ينقصنا هو العمل بجد لاكتشاف إسلامنا من جديد.. لنعرف كما عرف الأولون أنه ليس مجرد شعائر وعبادات بل هو حركة شاملة لبناء الحضارة.. لا يكفي أن نقول إننا مسلمون بألسنتنا.. ثم نجعل الإسلام رئيساً شرفياً لحياتنا.. أو نحبسه في المساجد والبيوت.. ونلتمس الهدي والنهضة والرقي في غيره. نحن نقول دائماً إن الإنسان هو هدف التنمية وهو وسيلتها.. وتنمية الإنسان تقوم علي تصحيح فكره وإثراء عقله وإيقاظ ضميره وصقل وجدانه وتقويم أخلاقه وتصويب سلوكه.. وهذا بالضبط هو دور التنوير الإسلامي. إن كثيراً مما نشكو منه من سلبيات.. ما يهددنا من مخاطر ويحاصرنا من مشكلات.. قد جاء نتيجة لانعدام الرؤية الدينية الصحيحة.. وإذا اعتمدنا منهج التنوير الإسلامي فسوف نكتشف أن الإسلام جاء ليحل مثل هذه المشاكل.. ويعالج تلك السلبيات.. بمنهج متكامل.. جاء ليحارب الاستبداد بالحرية ويحارب الظلم بالعدل المطلق.. ويواجه التعصب بالتسامح وقبول الآخر.. يحارب الإسراف والتبذير وكثرة الاستهلاك وإهدار الوقت بلا عمل مفيد وعدم شيوع روح الاقتصاد والاعتداء علي المال العام ونقص الإنتاج وعدم تجويده وإتقانه والإهمال والغش واستحلال الأخذ بدون عطاء. أليس هذا منهجاً صالحاً للتنوير.. أم لابد من نشر الإلحاد وإشاعة الفتن بين الناس وتحليل ما حرم الله حتي يكون التنوير تنويراًَ؟!!