مبدآن ورثت بعض مكوناتهما من رواد الفكر المصري الحديث الذين أعدهم مسهمين أساسيين في تكويني العقلي . يتصل هذان المبدآن بفكر التنوير والدولة المدنية في آن. أما التنوير فقد سعيت إلي تأصيل تأويل عربي للتنوير الأوروبي الذي رأيت له جذورا وأصولا في تراثنا الإسلامي العقلاني, سواء عند المعتزلة وأشباههم من المتكلمين أو عند الفلاسفة العرب والمسلمين. ولقد سبق لي أن قلت منذ سنوات غير قليلة, في كتابي أنوار العقل(1996): إن التنوير يقوم علي أساس عقلاني, لا معني له بعيدا عنه, وإن المكانة الإنسانية المتميزة للعقل من تراثنا الفلسفي العربي هي الأساس النظري لأي فهم للتنوير, لا أستثني من ذلك ميراث التنوير الغربي الذي لا يزال قائما, راسخا, تتعدد صوره وتجلياته منذ عصر الأنوار في الحضارة الأوروبية. ويقيني أن ميراثنا العقلاني هو الذي لا يجعلنا نشعر بالغربة حين نتوقف عند الأفكار التي أنتجتها حركة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر, أو نفيد من أفكار هذا الفيلسوف أو ذاك من فلاسفة التنوير القدماء والمحدثين في أوروبا, ذلك لأن احترام العقل ومنحه الأولوية في تأسيس المعرفة الإنسانية, في مجالاتها المتعددة, يظل القاسم المشترك الذي يصل بين تراثنا وغيره, وهو أصل الإضافة التي أضاف بها التراث العربي إلي التراث اليوناني السابق عليه. ولقد سبق أن أكدت أن المثقف العربي, في سياق هذه العلاقة المتبادلة بين تراثه والتراث الإنساني السابق عليه, أو السابق علينا, أو المعاصر لنا, لا يشعر بدهشة أو اغتراب, حين يقرأ ما كتبه إمانويل كانط(1724-1804) علي سبيل المثال, في كتابه الشهير عن التنوير, خصوصا حين يقول:التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه. وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويجلب الإنسان علي نفسه هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه ليس هو الافتقار إلي التعقل, بل إلي العزم والشجاعة اللذين يحفزانه علي استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. هذه الشجاعة لاستخدام عقلك هي مبدأ التنوير الذي لم أر فيه سوي امتداد للعقلانية الإسلامية التي تقوم علي أساس من الفهم الأصيل والسمح للدين الإسلامي وخصائصه العقلانية التي يتأسس عليها تأسيس معني الثواب والعقاب عند معتزلة الإسلام, وهو التأسيس الذي لا ينفصل عن حرية الإرادة الإنسانية, ومن ثم حق الإنسان المسلم في أن يصنع عالمه علي عينيه, مؤكدا حريته من ناحية, والعدل الإلهي الذي يعمر به وعي المسلم من ناحية أخري, فيجعل منه أساس العمران الذي يحتكم إليه البشر الأحرار في صياغة عالمهم الحر والعادل في آن. ولذلك فبقدر ما ذهب حكماؤهم إلي أن العدل أساس الحكم في التنظيم السياسي للمجتمعات البشرية, قرن عقلاؤهم ذلك بما جعله الإمام محمد عبده أصولا خمسة للإسلام. أولها: النظر العقلي لتحصيل الإيمان. وثانيها: تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض. وثالثها: البعد عن التكفير. ورابعها: الاعتبار بسنن الله في الخلق. وخامسها: قلب السلطة الدينية, والإتيان عليها من أساسها, فلقد هدم الإسلام بناء هذه السلطة, ومحا أثرها, فليس في الإسلام ما يسمي بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. ويقيني أن الإمام محمد عبده- بفهمه العقلاني لأصول الإسلام الخمسة, كان يؤسس لمفهوم الدولة المدنية. أعني المفهوم الذي يقوم, بداهة, علي أن الإسلام هدم بناء السلطة الدينية, ومحا أثرها حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم; فالإسلام- فيما أكد الإمام- لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد, ولا تعني أصول الإمام الخمسة سوي أن الإسلام قرين الحكم المدني والدولة المدنية بالضرورة, وأن المسلمين أدري بشئون دنياهم, وأحرار في اختيار النظام المدني الأصلح لحياتهم والأكثر عونا علي تحقيق ما يختارونه من مستقبل واعد يحقق الخير والعدل والكرامة والرفاهية لأفرادهم وطوائف مجتمعاتهم. وإذا كانت العقلانية هي أصل التنوير من هذا المنظور, في سياق من الفهم الرحب للإسلام, فإن الدولة المدنية هي الوجه الآخر للعملة نفسها, أو هي اللازمة المنطقية التي تؤسس للعقلانية حضورا سياسيا, يتجسد بها وينطلق منها في آن. ولذلك لا غرابة في أن أجمع بين التنوير والدولة المدنية, ليس في عنوان هذا الكتاب فحسب, وإنما في تصوراتي عن العالم, ومنها تصوراتي عن النقد الأدبي الذي أمارسه تنظيرا وتطبيقا. وقد انتهي بي هذا التلازم إلي الإيمان بمبادئ أساسية, أري أن الحرية أولها. أعني الحرية السياسية التي لا تنفصل عن الحرية بمعناها الاجتماعي والفردي. وهو المعني الذي يبدأ من حرية الاعتقاد والفكر وحرية التعبير والإعلان عن موقف الإنسان من كل ما يقع حوله, ورفضه لكل أشكال قمع الحرية المقترنة بالظلم والاستبداد الذي يمكن أن يتحالف فيه التسلط السياسي مع التعصب الديني, وذلك إلي درجة تدني بالطرفين إلي حال من الاتحاد الخطر علي مستقبل الأمة بأسرها. أما المبدأ الثاني فهو خاص بالعقلانية التي تمتد من النظر في الكون بأسره, والاعتبار بخلقه إلي المنهج العلمي الذي لا يحكم التفكير في المستقبل فحسب, وإنما يبدأ من مواجهة الحاضر, والسعي الدءوب إلي مواجهة تحدياته بالعلم لا الجهل, والتخطيط وليس العشوائية, وبالعلاقة المتبادلة بين المجالات المعرفية وليس الانغلاق علي مجال واحد لا معني له دون تفاعله مع غيره. وهو أمر يفرض متابعة التقدم المذهل المتواصل والمتسارع في العلوم, وما تلقيه متابعة هذا التقدم من واجبات, تبدأ من تثوير التعليم الذي هو قاطرة التقدم وشرطه الأول, ولا تنتهي عند الإفادة من تجارب الأمم التي سبقتنا إلي التقدم, رغم أنها بدأت من أوضاع بائسة مثل أوضاعنا. وأضيف إلي ذلك مبدأ العدل الذي هو أساس الحكم وأصل سيادة القانون في الدولة الحديثة, وأساس الفصل بين السلطات الثلاث ومعيار التوازن بينها, وذلك لتأسيس مستقبل يكون العدل في توزيع ناتجه القومي هو الوجه الآخر من توزيع المعرفة وثمارها علي المواطنين الذين هم متساوون في الحقوق والواجبات, دون أي شكل من أشكال التمييز. لمزيد من مقالات جابر عصفور