كلمة "الدين" تعني: ما تعبّد الله به عباده من الشائع بواسطة رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام مما يحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة. أقول ذلك بمناسبة ما شاع علي ألسنة كثير من الناس: "افصلوا الدين عن الدنيا". وأقول لهؤلاء: تعالوا نحتكم إلي القرآن الكريم فهو الوحيد الذي لم يتطاول عليه أحد بعد تطاولهم علي سُنَّة الرسول صلي الله عليه وسلم مع أنها المصدر الثاني للتشريع والمبيِّنة لكتاب العزيز. فالمتأمل في آيات القرآن يجد أنه قد نظم حياة الإنسان من نواحيها المختلفة فنظم علاقة الإنسان بخالقه سبحانه وتعالي وبيَّن له أنه مخلوق له سبحانه فعليه طاعته وشكره علي نعمه التي لا تُحصي. ثم نظم علاقته بغيره من البشر وبالكون كله باعتباره أحد مكونات هذا الكون. ثم نظم له حياته الخاصة بكل تفاصيلها حتي يكون إنساناً سوياً وأهلاً لتحمُّل تبعات الخلافة في الأرض. ولا يسعني الاستطراد في تفاصيل ذلك. وإنما أكتفي بذكر أمثلة سريعة لبعض الآيات تؤكد ما قلته وأدع للقاريء الكريم التأمل فيها: 1 الله تعالي أمر بطاعة وليّ الأمر الذي يدير شئون الأمة وقرنها بطاعته سبحانه وطاعة رسوله صلي الله عليه وسلم : "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" النساء: .59 2 القرآن الكريم أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقرنهما بالبعد عن لغو الكلام الذي لا فائدة فيه. ويحفظ الفروج من الوقوع في المحرمات: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم لفروجهم حافظون" المؤمنون: .51 3 الحق سبحانه بعد أن بيَّن أنه فرض الصيام علي المسلمين كما فرضه علي سائر الأمم السابقة قال: "أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلي نساكم..." البقرة: ..187 ليبيِّن أن العبادة لا تتعارض مع العلاقة المشروعة بين الرجل وزوجته. 4 الحق سبحانه فرض الصلاة الجمعة وحث علي السعي إليها. ثم أمر بالسعي علي الرزق بمجرد الانتهاء من الصلاة: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله..." الجمعة: 9. .10 5 الله تعالي هو الذي أنزل الكتب علي رسله عليهم السلام ليقيموا العدل بين الناس. وأنزل مع هذه الكتب الحديد فيه قوة وصلابة ومنافع كثيرة للبناء والصناعة والزراعة وسائر وسائل الحياة الدنيا: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس..." الحديد: .25 6 إذا كانت جميع الدول تضع علي حدودها ما يسمي "حرس الحدود" لحماية أوطانها. فإن القرآن قد سبق هؤلاء جميعاً في جملة مختصرة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" الأنفال: 60. والمتأمل في قوله تعالي: "من قوة" يدرك الإعجاز القرآني في ذلك وهو أن كلمة "قوة" المنكرة تشمل كل وسائل القتال المتاحة في كل عصر. بخلاف ما لو قال: "القوة" فإنها لا تدل علي هذا التنوُّع. 7 ينصح الأطباء بالاعتدال في تناول الأطعمة حفاظاً علي صحة الإنسان وهو ما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالي: "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" الأعراف: .31 8 وأختم هذه الأمثلة بمثال يمس حياة الناس في الوقت الحاضر ويسهم في حل بعض المشاكل الاقتصادية ويستفيد منه المهتمون بتأمين وسائل العيش الكريم لكل مواطن. أذكره للدلالة علي أن الدين في أي عصر وفي أي شريعة ينظم حياة الناس وينقذهم من الدمار. هذا المثال جاء في قصة يوسف عليه السلام حينما قال ملك مصر كما في الآية الكريمة: "وقال الملك إني أري سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" يوسف: .43 فلما عجز الحكماء والعلماء عن تفسيرها لجأوا إلي يوسف عليه السلام ففسرها بأن البلاد ستمر بفترة قحط وجدب بسبب انقطاع المطر لمدة سبع سنوات. وأن عليهم أن يستعدوا لمواجهة هذا البلاء بسبع سنوات يكثرون فيها الزرع ويقتصدون في الأكل وهو ما جاء في قوله تعالي: "قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون" يوسف: 47 49. واللافت للنظر: أن القرآن يولي اهتماماً خاصاً بأمر التخزين وحفظ الحبوب: "فذروه في سنبله" أي اتركوا الحبوب في عيدانها لئلا يأكلها السوس. وهو ما يعرف في العصر الحديث بالصوامع. إن قصة يوسف عليه السلام والتي استغرقت سورة بأكملها لم تذكر للتسلية أو للتاريخ فقط. وإنما ذكرت لأخذ العبر والعظات. ونطبقها في كل ما يمثلها. ولذا جاء في آخر السورة قوله تعالي: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.." الآية: .111 ومن العبر التي تستفاد من ذلك: * أهمية التخطيط الدقيق في حياة الأمم. ووضع الحلول المناسبة للأمور المحتملة. * الاقتصاد في الإنفاق علي جميع المستويات. بدءاً من الجهات الحكومية وانتهاء بعامة الناس حتي يمكن التغلب علي الأزمات التي تمر بها البلاد. * مكانة مصر المتميزة عبر التاريخ فقد أمدت جميع الشعوب المحيطة بها بالغذاء وأنقذتهم من الهلاك في الفترة التي أشرف علي شئونها المالية خبير بالأمور الاقتصادية وأمين علي أموال الدولة. والخبرة والأمانة عنصران مهمان لابد من تحققهما في كل من يتولي أي عمل في الدولة. وما فسدت الحياة إلا بسبب فقدهما أو فقد أحدهما. * إن مصر بإمكاناتها البشرية وأرضها الخصبة ونيلها الذي يجري بأمر الله تعالي تستطيع أن تستعيد ماضيها المشرق ولا تمد يدها إلي من يتحكم في مصالحها. وما ذلك علي الله بعزيز ولا ببعيد.