رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي... وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني... عقمت فلم أجزع لقول عداتي رحم الله شاعر النيل حافظ ابراهيم وقد نعي اللغة العربية في مطلع القرن العشرين. حين كان ادباء مصر ومفكروها. ورجال السياسة فيها. عمالقة في اللغة العربية. يحسنون استخدام الكلمات. وينتقون التعبيرات. ولايلحنون في لفظ أو اعراب. رغم انتشار الأمية بما يزيد علي نسبة ثمانين في المائة بين ابناء هذا الشعب. نحمد الله أن شاعرنا الوطني العظيم لم يمتد به العمر حتي يري اللغة العربية. انهارت في الصحف والإذاعة المرئية والمسموعة. بل في الكتب أيضا. ولما كانت اللغة هي وعاء الفكر ووسيلة التعبير عما يجيش بعقل المفكرين والعلماء. وهي لغة موائد السياسة. وعلماء الاقتصاد. وباقي العلوم الإنسانية.. وهي شخصية الشعوب وقامها. وبغيرها ينهار الفكر ويضيع العلم. وبالنسبة للمسلمين عامة. والعرب خاصة فاللغة العربية هي كيان الإسلام. وعماد القومية العربية.. وتمسك العرب بلغتهم العربية. والحفاظ عليها يمثل عمودا أساسياً للكيان العربي. ذلك أنها لغة الكتاب الذي يؤمن المسلمون بنزوله علي رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم. إذ انهارت اللغة العربية. انهار أمل الأمة وضعف دينها وضاعت هويتها وتفرقت شعوبها. والمبكي أن اللغة العربية تعاني اهمالا وهجرانا من أهلها وتحل محلها تعبيرات إنجليزية وأصبحت المصطلحات في الأجهزة الحديثة والآلات التي أخذ بها الإنسان لاستخدامها في تطور الاتصالات وباقي الاختراعات العديدة التي تحمل أسماء أجنبية بحكم جنسية مخترعيها. ولأننا لانساهم في تطور حياة البشر بتقديم اختراعات وصناعات تسعد الإنسان وإنما نكتفي بالانتفاع بما قدمه العقل الغربي للبشرية من تحديث وتحضر وبذات الأسماء التي أتي بها إلينا وإن كانت الآلات والأجهزة نقلناها بمسمياتها الأصلية. فلا حجة لنا في إطلاق أسماء أجنبية علي محلاتنا. ونوافذ البيع والتصنيع في بلادنا. لا تسير في شارع بمدينة أو قرية إلا وتري لافتة علي واجهة المحلات تحمل أسماء أجنبية بحروف عربية أو أفرنجية. مما يدل علي التدني في شعورنا بقوميتنا أو بشخصيتنا غير مدركين بضياع الهوية العربية بأيدينا. والطامة الكبري أن كثيرا من القضاة والمحامين. وهم أكثر الناس استخداما للغة.. ينطقونها مليئة بأخطاء فادحة. علي سبيل المثال كلمة "ثم" يستخدمها بعض الأساتذة القضاة والمحامين بضم الثاء أو بكسرها وفي غير معناها.. وكثيرا ما قلت للزملاء إن "ثم" بمعني "هنا" ولكن الكثير يستخدمها بمعاني أخري. كان بعض المحامين يقدم -دائما- مرافعته بكلمة "بادئ ذي بدء" بكسر الباء الأخيرة وكنت أتحرج من تصحيحها لهم.. إلي أن جاء أحد المحامين مسيحي الديانة وكان مجهتداً في عمله يؤديه بدقة وذمة وصدق ينطق بادئ ذي بدء بذات الطريقة. قلت له يا أستاذ.. أتعرف أن أول جملة في إنجيل يوحنا تقول:- في البدء كان الكلمة... فأدرك الخطأ. وصححها. وظل علي هذا التصحيح طوال العام القضائي. حسنا فعل نادي القضاة في عهد أسبق بطبع كتاب في قواعد اللغة العربية. ووزعه علي الزملاء القضاة. كما تناولت مجلة نادي القضاة التي يصدرها النادي - تناولت- شرح قواعد النحو حتي لايكون استخدامنا للغة به عورة علي حد قول الأستاذ الصحفي اللامع مجاهد خلف. حين تصحح لبعض الزملاء خطأ نحويا. يلومك علي الدقة والإهتمام بذلك قائلا "ماتدقش".. الله سبحانه وتعالي حفظ لغة القرآن بالآلاف من القضاة أتقنوا اللغة اتقانهم لعملهم القضائي. مؤمنين بأن اللغة الصحيحة هي وعاء الأحكام الصحيحة. ومن يقرأ الأعمال التحضيرية للقانون المدني في سنة 1948 يعلم كيف كان البرلمان المصري يضم شيوخا في العلم وعلي رأسه اللغة العربية فقد يقف بعضهم عند حرف زاد أو ينقص من النص القانوني. عملت مع قضاة. يفخر بهم القضاء المصري فخرا عظيما بقدرتهم علي البحث في كتب القانون وأحكام محكمة النقض التي تعد قطعا أدبية رائعة. منهم علي سبيل المثال لا الحصر.. الدكتور المستشار عماد النجار. المستشار حامد عبدالدايم والمستشار السيد عمر الذي نصح أحد شباب المحامين كثير الأخطاء اللغوية بأن يقرأ كتاب النحو الواضح للشاعر علي الجارم وكذلك المستشار جابر ريحان والمستشار حافظ السلمي المفكر والأديب. ومازالت مرافعات المحامين الفطاحل تتردد في ساحات المحاكم نطقا سليما ولغة جزلة تمتعنا بسماعها في محاكم طنطا والقاهرة والاسكندرية وشبين الكوم ودمنهور والمنصورة وأسيوط ومازلت علي علاقة طبية ببعضهم لأخلاقهم النبيلة وعملهم المتقن وكان منهم شعراء وأدباء تفخر بهم مهنة المحاماة وهؤلاء هم الأمل الذي يورث العلم لشباب المحامين.