النواب يوافق على تقرير حساب ختامي 2022-2023 ويحيل التوصيات للحكومة    مرصد الأزهر: استمرار تواجد 10 آلاف من مقاتلي داعش بين سوريا والعراق    السيسي يوجه بتعزيز جهود الاستفادة من نجاحات مشروع مستقبل مصر بالدلتا الجديدة    أسعار الذهب منتصف تعاملات اليوم الأربعاء.. الجنيه يسجل 24.8 ألف جنيه    محافظ القليوبية يضع إكليل زهور على النصب التذكاري لمؤسس أذربيجان في ذكرى ميلاده    دعت لإعداد خارطة طريق.. وزيرة البيئة: الهيدروجين الأخضر من المجالات الواعدة للاستثمار    إطلاق المرحلة الثانية من مشروع الشمول الاقتصادي للمرأة بالفيوم    إصابة 4 جنود إسرائيليين في اشتباكات بقطاع غزة    الشرطة الأمريكية تبدأ في إنهاء اعتصام طلاب "جورج واشنطن" المطالبين بوقف الحرب على غزة    بعد حلف اليمين الدستوري.. الصين تهنئ بوتين بتنصيبه رئيسا لروسيا للمرة الخامسة    موقف بنزيما من المشاركة مع اتحاد جدة في المباريات المقبلة    مرشح جديد لتدريب مانشستر يونايتد خلفاً لتين هاج    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    رغم التصالح في دعوى شيكات بدون رصيد، منع نسرين طافش من السفر    الأرصاد تعلن تفاصيل حالة الجو اليوم.. فيديو    تعذيب حتى الموت| قرار جديد بشأن المتهم بإنهاء حياة صغيرة السلام    حظك اليوم، خبيرة أبراج تحذر برجي الأسد والعذراء (فيديو)    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    هل يجوز أدعو أن يصبح جنيني جميلا| تفاصيل    الكشف على 1528 مريضا في قافلة علاجية في قرية أم الرزق مركز شربين    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    وزير الخارجية الإيراني: طهران والقاهرة تتجهان نحو إعادة علاقاتهما الدبلوماسية إلي طبيعتها    الحبس سنة لربة منزل قتلت ابنة شقيق زوجها بالقليوبية    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    30 جنيهًا للعبوة 800 جرام.. «التموين» تطرح زيت طعام مدعمًا على البطاقات من أول مايو    باتور... سيارة حصرية جديدة من بنتلي    علاء مبارك ينتقد مركز "تكوين الفكر العربي".. بين الهدف المعلن والتحفظ على العقيدة    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    أصالة تحذف صورها مع زوجها فائق حسن.. وتثير شكوك الانفصال    تعرف على حد الاستخدام اليومي والشهري للمحافظ الإلكترونية للأفراد والشركات    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    الإفتاء تكشف محظورات الإحرام في مناسك الحج.. منها حلق الشعر ولبس المخيط    إسرائيل تعيد إغلاق معبر كرم أبو سالم بعد إدخال شاحنة وقود واحدة لوكالة أونروا إلى غزة    أوكرانيا: ارتفاع قتلى الجيش الروسي إلى 477 ألفا و430 جنديا منذ بدء العملية العسكرية    الصحة: تقديم الخدمات الطبية لأكثر من 900 ألف مواطن بمستشفيات الأمراض الصدرية    مجلس النواب يوافق على تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة    المركزي للمحاسبات: ملتزمون بأقصى درجات المهنية في نظر الحساب الختامي الموازنة    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    "المدرج نضف".. ميدو يكشف كواليس عودة الجماهير ويوجه رسالة نارية    رئيس جامعة القاهرة ينعى الدكتور إبراهيم درويش أستاذ العلوم السياسية    بدء تنفيذ أعمال مبادرة "شجرها" بسكن مصر في العبور الجديدة    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    لبلبة و سلمي الشماع أبرز الحضور في ختام مهرجان بردية للسينما    اليوم العالمي للمتاحف، قطاع الفنون التشكيلة يعلن فتح أبواب متاحفه بالمجان    نتائج التحقيقات الأولية فى مقتل رجل أعمال كندى بالإسكندرية، وقرارات عاجلة من النيابة    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «الإفتاء» توضح الأعمال المستحبة في «ذي القعدة».. وفضل الأشهر الأحرم (فيديو)    "تجميد اتفاقية السلام مع إسرائيل".. بين العدوان المباشر والتهديد الغير مباشر    يقظة.. ودقة.. وبحث علمى    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    حكم حج للحامل والمرضع.. الإفتاء تجيب    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأرض بتتكلم عربي
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 11 - 2014


(1)
مشهد:1 ..صيف 2011..حديقة المركز الثقافي الألماني بالقاهرة.
حوار مطول وقع بيني وبين زميلة في أحد فصول تعلم اللغة الألمانية، فضلت إعادة سرده بالعامية كما دار.
الزميلة: عملت مداخلة الصبح في الراديو.الحلقة كانت على التعليم، واشتكيت للمذيع من مصاريف مدرسة الأولاد. بأدفع سنويًا للثلاثة 92 ألف جنيه وكمان بيطالبوني بمصاريف إضافية.
أنا: وهي تستحق كل الفلوس دي؟
الزميلة: طبعا المناهج باللغة الألمانية والكلام في ''الكلاس'' ألماني حتي الأعياد الألمانية بيحتفلوا بها
أنا: وبيدرسوا عربي ؟
الزميلة: طبعا فيه حصة بيتعلموا فيها لغة عربية.
أنا: في مصر بيدرسوا المناهج باللغة الألمانية وحصة واحدة فقط للغة العربية؟
الزميلة : طبعًا هو أنا دفعت كل ده عشان يدرسوا بالعربي يعني
(2)
4 معلومات قد تود معرفتها عن ألمانيا ولغتها
1-اللغة العربية هي أكثر اللغات غير الأوروبية تأثيرًا في اللغة الألمانية بحسب ما أورده الأكاديمي الألماني أندرياس أونجر في كتابه Von Algebra bis Zucker: Arabische Wörter im Deutschen، من الجبر حتى السكر : الكلمات العربية في اللغة الألمانية.
2-هل تعرف قائل تلك الأبيات؟
أزف الترحال بيد أن قلوبنا.. أبت الرحيل ففارقت أجسادنا
وهوت إلى كنف الصدقة عندكم.. مأسورة ثم استقرت عندنا
-الأبيات الرائعة أعلاه لا تخص المتنبي أو شوقي. قالها باللغة العربية أحد أعظم قياصرة ألمانيا، الإمبراطور فريدريش الثاني حفيد بارباروسا في خطبة وداعه للأمير فخر الدين مبعوث السلطان الكامل. كما أوردت عالمة الأديان والمستشرقة الألمانية زيجريد هونكه، في مؤلفها Allah ist ganz anders الله ليس كذلك..
3 – لم يُعظم أجنبي ثقافة العرب ولغتهم وتاريخهم بقدر ما فعل يوهان جوته أعظم شعراء ألمانيا. بلغ عشق الرجل باللغة العربية أن أحب القرآن الكريم، وأسهب في تأليف قصائد كاملة في مؤلفه الأشهر، الديوان الشرقي الغربي عن عظمة العرب الأوائل والمسلمين. أشهرها قصيدة نساء مصطفيات Auserwählte Frauen التي مدح فيها السيدة خديجة والسيدة فاطمة الزهراء ومريم بنت عمران. وقصيدة رجال مؤهلون Berechtigte Männer عن غزوة بدر وشجاعة أصحاب الرسول..
-ومن المفارقة أن تدافعت كلمات احتقار العربية من الزميلة في مكان يحمل اسم شاعر ألماني بني معظم تراثه الأدبي على أكتاف لغة الضاد. إذ إن ألمانيا عندما قررت اختيار اسم مُوحد لكل مراكزها الثقافية حول العالم، لم تجد أفضل من عاشق تراث العرب، جوته..
4-''لغتي هي مسكني، موطني ومستقري، عنوان هويتي، ومصدر بعثها، هي حدود عالمي الحميم، معالمه وتضاريسه، ومن خلال نوافذها وعيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع'' من وصايا الفيلسوف الألماني هيدجر بضرورة المحافظة على اللغة الألمانية كلغة إبداع وتعليم. الدولة الألمانية لم تخذل فيلسوفها قط. ولم تقبل يومًا أن يتعلم أبناؤها بلغة غير الألمانية.
كبار ملوكهم أجادوا العربية، أعظم أدبائهم تغني بها، مراكز إشعاعهم الثقافي تحمل اسم من افتتن بالعرب وتراثهم. لغتنا صاحبة النصيب الأوفر في صناعة قاموس كلماتهم، ونحن الآن من يتبرأ من العربية، ونفضل التعلم بالألمانية. دروس التاريخ لا تنتهي..
(3)
وُلد قبل أكثر من قرنين من الزمن في إحدى قري ليتوانيا، تلقي تعليمًا دينيًا يهوديًا، أكمل دراسته الجامعية في كلية الطب بباريس عام 1878. تنقل بين عديد البلدان العربية، قبل أن يستقر في أرض فلسطين عام 1881. ومنها بدأ مشروعًا غير وجه الحياة في الكيان الصهيوني إلى الأبد. أدرك عند تفكيره بدولة إسرائيل المستقبلية، ما سبق وأدركه الألمان.لاحياة لأمة بدون لغة،ولا هوية مُشتركة تجمع أبنائها إن لم تُغرس فيهم المعرفة بلغتهم الأم.
تعرض للإحباط في بداية مشواره باعادة إحياء اللغة العبرية.أخبره معارضوه بأنها لغة ميتة على صعيد المعاملات الحياتية منذ قرون،واستخدامها يقتصر فقط على طقوس العبادة.وأن إعادة بعثها من سباتها العميق،بل وإقناع اليهود باستخدامها بعد أن تفرقت بهم السبل وباتوا يتحدثون بعشرات اللغات الحية، أمرا في حكم المستحيل.لم يستسلم.
أنشأ أول مجلة يومية باللغة العبرية باسم هأور لنشر الروح القومية الصهيونية بين شباب اليهود.وضع أسس أول بيت يهودي لاتُستخدم فيه إلا اللغة العبرية. تحول البيت بمرور الوقت إلى نموذج تم تعميمه في أماكن أخرى.عكف لمدة ربع قرن على إنتاج أول معجم للغة العبرية،أنجز منه 9 مجلدات ضخمة حتى وفاته عام 1922.وفي العام 1959 أتمت الأكاديمية الإسرائيلية مشروعه القومي بإصدار معجم اللغة العبرية في 17 مُجلدا.ومن وقتها صارت العبرية لغة رسمية للدولة في كل مجالاتها الإدارية والتعليمية.
بلغة ميتة أحياها أليعازر بن يهوذا،صنعت إسرائيل،تفوقها العلمي.حاز 12 من أبنائها جائزة نوبل،واحتلت 7 من جامعاتها قائمة أفضل 100 جامعة في العالم.وأنتجت قنبلتها النووية وتحولت لسادس أكبر مُصدر للسلاح على وجه الأرض.حدث كل هذا بينما ما زال العرب يصرون على تجاهل لغة عملاقة صنعت مجدهم في القرون الوسطى لصالح تعليم جامعي ومدرسي بلغات شتى.ويظنون أنهم بذلك سيصنعون تقدمًا.
بناء أمة متقدمة لايمكن أن يتم بلسان غيرها..دروس التاريخ تستمر
(4)
مشهد 2..شتاء 2009..مُدرج العريان بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة..
كلمات عتاب قاسية وجهها لي زميل جاء من طاجيكستان لدراسة العلوم السياسية بالقاهرة ،إثر مناقشة جمعته مع أحد المنتسبين لطاقم التدريس.أسهب المعيد في لوم شديد للصديق الطاجيكي على قراره الدراسة بمصر،وأنه كان من الأفضل له لو التحق بإحدى الجامعات الأوروبية،أو على الأقل انتسب لقسم اللغة الإنجليزية بالكلية،بدلًا من التواجد بالقسم العربي.
''لماذا تحتقرون العربية إلى هذا الحد؟ نعم،كان بإمكاني الذهاب إلى جامعة أكثر رقيًا في التصنيف العالمي.كان بإمكاني الانتساب للقسم الإنجليزي في الكلية.ولكني أصريت على تعلم العربية،وبذلت مجهودًا خرفيًا لكي يماثل لساني لسانكم،وينطق بمفرادتكم،ويستوعب لهجاتكم،وبدلًا من أن يتم تقديري على إجادة لغتكم،أتعرض للتوبيخ...
أتعلم؟ في بلادنا حيث ينطق الناس الروسية والفارسية،تُبجل اللغة العربية إلى حد لايمكن تصوره.ينهض الواحد منا بمجرد رؤية ورقة مُلقاة على الأرض وبها حروف عربية،يُقبلها ويحفظها في مكان آمن حتى وإن كان بها شعر أو غناء،لايصح من وجهة نظر قومي أن تدوسها أقدام البشر،لأنها مكتوبة بلغة العرب،لغة القرآن وأهل الجنة..
أتعلم أيضًا،قبل الإجازة الصيفية الفائتة،تلقيت اتصالًا من أبي،يأمرني بشراء هاتف نقال من مصر،أخبرته بأن معظم الهواتف الموجودة في مصر صناعة صينية،ومن الأفضل شراء واحد من أحد أسواق العاصمة الطاجيكية دوشنبه.سيكون أرخص وأكثر جودة.نهرني بشدة وقال.. ولكنه يأتي من مصر،من بلاد العرب،وهذا يكفي..
لم أندم يومًا علي سنين شاقة أمضيتها في تعلم العربية،ولا على قراري بدراسة العلوم السياسية باللغة العربية عوضَا عن الإنجيلزية.مايتملكني هو فقط شعور بالغيظ والغضب من احتقاركم للغتكم،وكأنها صارت مدعاة للعار وسببًا للتخلف.صدقني لن يحترم العالم يومًا من يحاول التنصل من هويته ولغته ويقبل بالذوبان في بحور الثقافة الإنجلوسكسونية''.
(5)
عام 1994 أقر البرلمان الفرنسي قانونًا حمل اسم مُقدمه،وزير الثقافة جاك توبون.بأن تكون اللغة الفرنسية حصرًا هي لغة التعليم والامتحانات ،والأطروحات الأكاديمية في المؤسسات التعليمية الرسمية والخاصة.وألزم الحكومة باستخدام اللغة الفرنسية في المطبوعات الحكومية الرسمية،وفي جميع أماكن العمل،وفي جميع الإعلانات،ويافطات المحلات،والعقود التجارية..
قانون توبون ليس الخط الكاشف الوحيد في اعتزاز الفرنسيين بلغتهم،في مقابل احتقار كثير من العرب للغتهم.موقع بي بي سي نشر تقريرًا بتاريخ الجمعة،24 مارس 2006،بعنوان Chirac upset by English address.تحدث فيه عن شجار دار بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك،ورئيس اتحاد العمال الفرنسي أنست أنتون ساليير أمام كل زعماء القارة الأوروبية في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل.الشجار وقع بسبب استخدام رئيس اتحاد العمال الفرنسي اللغة الإنجليزية في خطابه الموجه للقادة الأوروبيين.انزعج شيراك،قاطعه وطلب منه الحديث بلغته الأم الفرنسية،فأجابه ساليير بأن الإنجليزية تحولت إلي اللغة الرئيسية في عالم أعمال اليوم.
شعر شيراك بإهانة لغته الأم فانسحب فورًا من القمة رفقة وزير خارجيته فيليب دوستو بلازي،ووزير المالية تيري بريتون.ولم يعد إلى القاعة إلا لحضور خطاب رئيس البنك المركزي الأوروبي،الفرنسي جان كلود تريشيه،والذي أُلقي بالفرنسية نزولًا على إرادة شيراك. وعندما سُؤل شيراك لاحقًا عن سر انسحابه من المؤتمر،أجاب ''فرنسا لديها احترام كبير للغتها''.
فرنسا لاتتصرف هكذا اعتباطًا أو من دوافع قومية متصلبة،هي تُدرك تمام الإدراك أن هناك ثمة حرب حضارية عنيفة تهدف لدثر ثقافات وما يرتبط بها من قيم حضارية لصالح وحدة ثقافية واحدة.أولي خطواتها استهداف الجمل والتراكيب والأفعال بوسائل شتي،تنتهي بإفراغ اللغة من مضمونها وإفقادها كل أدوات تأثيرها،ومعها تُقوض قدرة الدولة المسُتهدفة في بناء هويتها القومية الجامعة،وصناعة مساحات نفوذها في الخارج.
صديقي الطاجيكي مُحق..لن يحترمك العالم ما لم تحترم لغتك وهويتك..هكذا تتصرف الدول العظمي،وهكذا تُحترم..وهكذا يفعل العرب بلغتهم،وهذا هو مصيرهم بين الأمم.
(6)
وماذا تتوقع الدولة عند قبولها بتدريس العلوم باللغات الأجنبية وإهمال العربية لهذه الدرجة؟ أن تخلق نخبة جديدة تستوعب العلوم وتنتشل الأمة من أزماتها المعرفية. لن يحدث.لأن تغريب العلوم لن يحل أزمة،بالعكس سينتج أزمات مُضاعفة،سببها الانفصام بين لغة العلم ولغة الحياة.كما يوضح الدكتور مصطفي حجازي في كتابه التخلف الاجتماعي:مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور.
إذ بمجرد أن يخرج الطالب من قاعة العلم حيث اللغة الأجنبية المُنضبطة،سيكون مُجبرًا على التواصل بلغته الأم التي تعكس واقعًا يعج بالصيغ الانفعالية والوجدانية ذات الطابع الخطابي الذي يهيج المشاعر لكنه يعجز عن التخطيط والسيطرة على الواقع.وهنا إما أن يتحول العلم لقشرة تغطي التخلف وإما أن يصبح أداة للانفصال عن الناس والتعالي على قضاياهم والتنكر لمشاكلهم.الحل لم يكن يومًا في تغريب العلوم،بل تعريبها وإدخال الصيغ العلمية ما سيؤثر بالتبعية على الذهن العربي وإدراكه للواقع بطريقة علمية أكثر انضباطا.
(7)
إذن فاستحضار التجارب الألمانية،والإسرائيلية،والفرنسية في حماية اللغة،ومعها مفهوم تعريب العلوم،دعوة لانعزال العرب وانقطاعهم عن تعلم اللغات،ومسايرة ما يحدث في العالم من تطورات؟
قطعًا لا.هناك فرق شاسع ما بين تعلم اللغات الأجنبية والتعلم باللغات الأجنبية.الأول مرغوب ،والثاني مرفوض.الأول ينتج أجيالًا مُحافظة على هويتها،مُنفتحة على العالم.والثاني ينتج أجيالًا منفصلة عن مجتمعها ولا تعدو في معظمها سوى أن تكون امتدادًا لسياسات الخارج،ويدًا يحقق بها أهدافا ثقافية عجزت عن تحقيقها حشوده العسكرية.
وزارة المعارف المصرية في عشرينات القرن الماضي أدركت ذلك جيدًا.أبدت اهتمامًا فائقًا بتعليم اللغات الأجنبية في مدارسها،دون أن يعني ذلك تخليًا عن تدريس المواد بالعربية.كان بإمكان طلاب المدارس الحكومية المصرية في سن الثانية عشرة دراسة كل المواد العلمية والأدبية باللغة العربية.وفي نفس الوقت دراسة الأدب الإنجليزي المقارن،وقراءة مؤلفات عملاقة من نوعية تقدم الإنجليز السكسون لعالم الاجتماع الفرنسي أدمون ديمولان بالإنجليزية،وكتاب التربية الاستقلالية لجان جاك روسو بالفرنسية..
والنتيجة نخبة وطنية مصرية،صالت وجالت في جامعات الغرب،دون فقدان هويتها،وعادت لتؤسس معارف مصرية،وتثري المكتبة العربية باآاف التراجم والمؤلفات،صنعت دور مصر الثقافي الرائد في محيطها العربي أواسط القرن المنصرم.ومازالت مصدر إلهام لكل باحث عن المعرفة.
هذا ما يخبرنا به المفكر اليساري وأستاذ الأدب الإنجليزي الراحل لويس عوض عن فترة دراسته بمدرسة المنيا الثانوية في مذكراته ''أوراق العمر''.ومن الجدير بالذكر أن جودة نظام التعليم الحكومي المصري آنذاك دفعت لويس عوض لترك مدرسة الفرير الفرنسية بعد قضاء تعليمه الابتدائي فيها،والذهاب لمدرسة المنيا الأميرية الإعدادية ومن بعدها المنيا الثانوية.قرار لم يندم عليه قط لتفوق التعليم الحكومي على الأجنبي.
(8)
الخطأ إذن ليس في تفكير زميلة دراسة اللغة الألمانية بإدخال أولادها لمدارس أجنبية.لو كانت وجدت البديل بمدرسة حكومية مصرية على نفس مستوى مدارسنا قبل قرن.لكانت فعلت كما فعل أهل لويس عوض بإخراجه من الفرير وإلحاقه بمدرسة المنيا الحكومية،ولم تكن يومًا لتفكر في تكبد كل تلك المصاريف ولا أن ينطق أولادها من صغرهم بالألمانية،ويعجز لسانهم عن نطق العربية.
الخطأ يكمن في دولة تخلت عن دورها في رسم السياسية التعليمية ،كما سبق وأن انسحبت من جل أدوراها الاجتماعية.وسلمت الدفة لقطاع من رجال الأعمال النيوليبرال،لم تقدنا سياساتهم يومًا إلى رخاء اقتصادي أو تميز علمي.فقط مزيد من المعايرات الطبقية،وحقد اجتماعي متراكم ينتظر الوقت المناسب لينفجر في وجه الجميع.
(9)
هل سمعت عن أديلارد أوف باث؟
أحد أهم المستشرقين والمترجمين الإنجليز،عاش في القرن الحادي عشر.كان في غاية الضيق من سيادة التخلف في بلاده.قرر الارتحال إلى واحة التقدم العلمي آنذاك.بلاد المسلمين،صقلية.تعلم هناك اللغة العربية وأتقنها.وبدأ في ترجمة كل ما يقع تحت يديه من مؤلفات عربية.أنهى مهمته بعد سنوات،وعاد مرة أخرى إلى إنجلترا.حيث عمل مُعلمًا للملك هنري الثاني.ألف كتابا بعنوان ''أسئلة إلى الطبيعة'' وهو عبارة عن محاورات بينه وبين ابن أخيه،يسرد فيه معالم البون المعرفي الشاسع بين العرب والإنجليز،وتبقي أبلغ عبارة فيه..
''لقد أتيح لي أن أتعلم شيئا من الأساتذة العرب الحكماء عن الانقياد للعقل،أما أنت فإنك تتبع صورة فرضتها عليك هيمنة مستبدة،كأنك مقيد إلى رسن.إننا -ويقصد الإنجليز طبعا -إن تهاوننا في فهم أسرار هذا الكون،وجماله ونحن نعيش فيه،فنحن نستحق أن نطرد منه طردا''
أديلارد أوف باث كان يُدرك- كما ورد في مؤلف زيجريد هونكه شمس الله تسطع على الغرب Allah Sonne Über dem Abendland،وكما ورد في كتاب بيت الحكمة House of Wisdom لجوناثان ليونز-أن أفكاره التنويرية لن تلقى قبولًا من نخبة بلده،ذلك أنهم لايثقون إلا في منتجات الحضارة العربية وأقلام مفكريها.فما كان منه إلا أن نسب مؤلفاته إلى العلماء العرب طمعًا في أن تلقى رواجًا،وقد كان.
(10)
هذا ما كان عليه العرب،وما كانت عليه لغتهم.لم نتقدم يومًا إلا بالعربية،وإن كُتب لنا النهوض من كبوتنا،فلن يكون إلا بها.وإذا كان هناك من شىء يتعين علينا فعله،ونحن على بعد شهر من احتفال اليونسكو باليوم العالمي للغة العربية ،سيكون فقط الإصغاء لوصايا الزعيم الفيتنامي هو شي منه إلى شعبه..
''لا انتصار لنا على أنفسنا وعلى أعدائنا إلا بالعودة إلى ثقافتنا القومية ولغتنا الأم.. وحتى تحين لحظة الانتصار.. حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على صفاء عيونكم..وحذارٍ حذارٍ من أن تستعملوا كلمة أجنبية محل كلمة من لغتكم الأم..من هنا تبدأ الهزيمة ويتبدد حلم الانتصار''.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.