الخلاصة فيما عرضناه من نماذج النسخ في الشرائع السابقة أنه: ظهر علي اللبيب من الأمثلة المذكورة أمور: "الأول" نسخ بعض الأحكام في الشريعة اللاحقة ليس بمختص بشريعة الإسلام بل وجد في الشرائع السابقة أيضا. "والثاني" أن الأحكام العملية للتوراة كلها أبدية أو غير أبدية نسخت في الشريعة العيسوية. "والثالث" أن لفظ النسخ أيضا موجود في كلام بولس بالنسبة إلي التوراة وأحكامها. "والرابع" أن أثبت الملازمة بين تبدل الإمامة وتبدل الشريعة. "والخامس" أن يدعي أن الشئ العتيق البالي قريب من الفناء. وأقول: لما كانت الشريعة العيسوية بالنسبة إلي الشريعة المحمدية عتيقة فلا استبعاد في نسخها. بل هو ضروري علي وفق الأمر الرابع. "السادس" يحق للمسلمين القول: إنه لا إشكال في نسخ أحكام التوراة بالمعني المصطلح عندنا إلا في الأحكام التي صرح فيها أنها أبدية. أو يجب رعايتها دائما طبقة بعد طبقة. لكن هذا الإشكال لا يرد علينا. لأنا لا نسلم أولا أن هذه التوراة هي التوراة المنزلة أو تصنيف موسي- كما ثبت ذلك في الباب الأول- ونسلم ثانيا أنها غير مصونة عن التحريف كما عرفت مبرهنا. ونقول ثالثا: إلزاماً بأن الله قد يظهر له بدءاً وندامة عما أمر أو فعل فيرجع عنه. كذلك يعد وعداً دائميا ثم يخلف وعده. وهذا الأمر الثالث أقوله إلزاما فقط لأنه يفهم من كتب العهد العتيق هكذا من مواضع. وإني وجميع علماء أهل الإسلام بريئون ومتبرئون من هذه العقيدة الفاسدة. نعم يرد هذا الإشكال عن النصاري الذين يعترفون بأن هذه التوراة كلام الله. ومن تصنيف موسي ولم تحرف. والندامة والبدء محالان في حق الله. والتأويل الذي يذكرونه في الألفاظ المذكورة بعيد عن الإنصاف وركيك جداً. لأن المراد بهذه الألفاظ في كل شيء يكون بالمعني الذي يناسبه. مثلا: إذا قيل لشخص معين إنه دائما يكون كذا. فلا يكون المراد بالدوام ههنا إلا المدة الممتدة إلي آخر عمره. لأنا نعلم بديهة أنه لا يبقي إلي فناء العالم. وقيام القيامة. وإذا قيل لقوم عظيم يبقي إلي فناء العالم ولو تبدلت أشخاصه في كل طبقة بعد طبقة أنهم لابد أن يفعلوا كذا دائما طبقة بعد طبقة أو إلي الأبد وإلي آخر الدهر. فيفهم منه الدوام إلي فناء العالم بلا شبهة. وقياس أحدهما علي الآخر مستبعد جدا. ولذلك علماء اليهود يستبعدون تأويلهم سلفا وخلفا. وينسبون الاعتساف والغواية إليهم. وللحديث بقية.