هذه القضية ظاهرةي تستحق الدراسة من العلماء والدعاة إلي الله عز وجل. ألا وهي قضية التراخي والتكاسل عن الطاعات بعد رمضان ومواسم الطاعات المختلفة التي قد تصل إلي حد الانقطاع بعد الاستمرار. وهذا ما يُسميه علماؤنا بالفتور. قال ابن منظور في لسان العرب: فَتَرَ. يفتُرُ. فُتوريا: أي لَانَ بعد حِدَّة. وسكنَ بعد شِدَّة. هذاپ الفتور له حالتان» الحالة الأولي: هي حالة التراخي والتكاسل. لكنها لا تصل إلي حد ترك الطاعة أو الانقطاع عن العمل. وسأقف معها الآن. والحالة الثانية وهي الخطيرة: هي الانقطاع بعد الاستمرار. وهذا لا يُعد فتوريا وإنما يُعَد انتكاسيا ولا حول ولا قوة إلا بالله. السؤال الخطير: لماذا ينقطع كثيري من أهل الطاعة عن الطاعة بعد رمضان؟ لماذا؟ ما هي الأسباب؟ أنا لا أتحدث عن مظاهر هذا الفتور لحالتيه اللتين سأبينهما الآن إن شاء الله تعالي. وإنما أنا أتحدث عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التراخي والتكاسل أو الانقطاع بعد الاستمرار لمدة ثلاثين يوميا وليلة. هذه الظاهرة كما أقول تستحق الدراسة المُتأنية من العلماء الربانيين والدعاة الصادقين وطلبة العلم الناصحين. لماذا؟ أُرجئ الجواب عن هذا السؤال الآن قليليا لأبين فقط لحضراتكم هاتين الحالتين من حالات الفتور. والأولي: التراخي والتكاسل. أنا لا أراها خطريا» أنا لا أري الحالة الأولي من حالات الفتور خطريا لأن النفس جموح» تشعر بالسآمة وتشعر بالملل. ومُحال _ وانتبه لما أقوله جيديا محال أن تكون نفسك وأن يكون قلبك علي الحال الذي كنت عليه في رمضان أبديا أبديا. وإلا لكانت بقية الشهور في العام كرمضان! فرمضان له من الفضل والخصائص والمزايا والنفحات والرحمات والبركات ما لم يهبه رب الأرض والسماوات لغيره من الشهور. فلا تتصور ولا تنتظر أن تكون بعد رمضان كما كنت عليه في رمضان. لا. أنا لا أقول بهذا. ولا أعلم أحديا من أهل العلم والفضل قال بهذا. وقِلة في الأمة مَنْ كل العامِ عندهم رمضان. ومع ذلك أقول مُحالي أن يكون كل العام كرمضان. لأن الله خصَّ رمضان بصوم نهاره صيام فريضة لا تطوعيا ولا اختياريا. فلو أن إنسانيا صام في العام أضعاف أضعاف الأيام التي يصومها في رمضان فهذا صوم نفل. صوم تطوع. ليس صوم فريضة. ومُحالي أن تكون النافلة كالفريضة: ¢وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءي أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْته عَلَيْهِ¢ . فمُحالي أن تكون في رمضان كغيره في الشهور سائر العام أبديا. إذيا أنا أقول حالة التراخي والتكاسل التي نراها بعد رمضان لا أري فيها خطريا لأن النفس جموح. وأنا لا أقول ولا أري فيها خطريا من باب الاجتهاد من عند نفسي أنا. لا. حاشا لله. لو لم يكن لي في هذا سلف ما تجرأت علي القول بهذا. أقول هذا لأن الصحابة رَضِي الله عنْهُم لم يكن أحدهم ولم يكن أشرفهم وأطهرهم بعد الرسول صَلَي اللهُ عَليهِ وَسلَّم علي حالة واحدة من حالات الرقة والبكاء والخشوع التي يكون عليها عند رَسول اللهِ صَلَي اللهُ عَليهِ وَسلَّم. أبديا. وأظنكم تذكرون حديث حنظلة الأسيدي. والحديث رواه مُسلم وغيره. وحنظلة الأسيدي من كُتَّاب الوحي» صحابي من كُتَّاب الوحي. ومع ذلك يقول حنظلة رَضِي الله عنْهُ: ¢لَقِيَنِي أَبُو بَكْر الصديق رضي الله عنه يوماي فَقَالَ: كَيْفَ أَصبحت؟ قَالَ: نَافَق حنْظَلَةُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! ومَا ذاك؟ فقال حنظلة للصديق: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيذَكِّرُنَا بِالجنة والنار حَتَّي كَأَنَّا رَأْيُ عَيْني¢. پانظر إلي حال الصحابة: ¢حَتَّي كَأَنَّا رَأْيُ عَيْني¢ بمعني أنه إن ذكَّرهم رَسول اللهِپ بالجنة كأنهم يرون الجنة. كأنهم يرونها. كأن الواحد منهم يُريد أن يمد يده ليقطف من ثمارها. وإن حذَّرهم من النار خافوا النار وكأنهم يرونها وعلي مقربة منهم. بل ويخشي أحدهم أن لو امتد لهيبها ليناله. ¢كَأَنَّا رَأْيُ عَيْن. فإذا عدنا إلي بيوتنا¢. وانتبه إلي الحالة الثانية من حالات التراخي. حالة القلة في الطاعة وفي الحال يعني حال القلب ¢فإذا عدنا إلي بيوتنا عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ¢ يعني داعبنا زوجاتنا ونساءنا. ¢عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ _ الضيعات يعني التجارات أي انشغلنا بالتجارة _ ونَسِينَا كَثِيريا¢ وانظر إلي لفظة ¢كثيريا¢. إذيا لا يمكن أبديا لنفس بشرية أن تستمر علي حالة من الخشوع والبكاء والرقة طوال الوقت. فضليا عن أن تكون هذه الحالة دائمة طوال العمر. أبديا. حالك الآن بين يدي وأنت تسمع عن الله لا يمكن علي الإطلاق أن يكون هذا الحال كحالك وأنت في البيت حتي تُداعِب زوجتك وتُلاعِب أولادك. ولا يمكن أن يكون حالك الآن كحالك وأنت في الصباح في الوظيفة بين رؤسائك ومرؤوسيك وزملائك وموظفيك. مستحيل. فالنفس يا إخواني جموح. النفس تسأم وتمل. لا يمكن علي الإطلاق أن تكون علي وتيرة واحدة من الخشوع والرقة والبكاء والزهد والخوف والمُراقبة والتذلل والتزلف... أبديا. إذيا حالة التراخي هذه مقبولة. مقبولة لا حرج. مادام هذا التراخي إلي مندوب. إلي مُستَحَب وليس إلي معصية كما سأبين في الحديث ذاته الآن. فقال أبو بكري رَضِي الله عنْهُ وهو الصِّديق الأكبر وهو أشرف وأطهر الخلق بعد رَسول اللهِ صَلَي اللهُ عَليهِ وَسلَّم _ أي في الأمة. أي في الأمة لأننا لا نُفَضل الصحابة علي الرسل والأنبياء رضوان الله عليهم جميعيا _ فقال أبو بكري رَضِي الله عنْهُ لحنظلة رَضِي الله عنْهُ: ¢وَاللَّهِ إِنَّا لَنجد مِثْلَ هَذا¢» أنا أيضيا واقع في نفس هذه المسألة» أنا فعلا أكون عند النبي بحال وعندما أعود إلي بيتي الحال يختلف. فانطلقا إلي النبي عليه الصلاة والسلام. فقال حنظلة: ¢نَافَقَ حَنْظَلَة يَا رسولَ اللَّه!¢ حنظلة رضوان الله عليه يعد حالة التراخي وحالة التغير التي تُصيبه في بيته يعدها نفاقيا! انظروا إلي رقة قلوب الصحابة رضوان الله عليهم. ¢نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ¢ قَالَ: ¢وَمَا ذَاكَ؟¢ قال: ¢نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالجنة والنار حَتَّي كَأَنَّا رَأْيُ عَيْني فَإِذَا عدنا إلي بيوتنا عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ وَنَسِينَا كَثِيريا¢. فقال بأبي هو وأمي وروحي. المُعلِم والمُرَبي. أعرف البشر بربه. وأعرف البشر بحال النفوس البشرية. ياأحبابي إن هذه النفوس البشرية عجيبة جداّي.پ وأنا أقول لطلبة العلم النفوس البشرية إن لم يكن العلماء والدُعاة علي بصيرة بسبر أغوارها ومفاتيحها لن نُفلِح أبديا في الوصول إلي قلوب الأمة أبديا. لابد أن نكون علي بصيرة بالنفس البشرية. النفوس البشرية فيها الإقبال والإحجام. فيها الخير والشر. فيها الحلال والحرام. فيها الفجور والتقوي. فيها الهُدي والضلال. فيها الحق والباطل. قال تعالي: "وَنَفْسي وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" "الشمس: 7: .10