يظل تحويل القبلة حدثاً فارقاً في تاريخ الأمة الإسلامية. ولقد كانت أمنية الرسول "صلي الله عليه وسلم" منذ هاجر المدينة. ومكث ستة عشر أو سبعة عشر أو بضعة عشر شهراً يصلي في اتجاه المسجد الأقصي أن يتم الله عليه نعمته. وتتحول القبلة إلي حيث يحب ويرضي قبلة أبيه إبراهيم "عليه السلام" وحدث ما تمناه الرسول وإن لم يحرك به لسانه ولم يتلفظ بها في دعائه. فكانت حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلي الكعبة المشرفة لها واقع أليم علي اليهود. وقد سول لهم الشيطان أن الرسول يتقرب لهم بالصلاة في قبلتهم فقالوا: "اليوم يصلي بقبلتنا. وغداً يتبع ملتنا". فخيب الله ظنهم وكذبهم. فكانوا يحسدون المسلمين بما أنعم الله عليهم بخصوصيتهم وتميزهم بقبلة أبيهم إبراهيم. وكان "عليه السلام" يقول: "إن اليهود لا يحسدوننا علي شيء كما يحسدوننا علي يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها. وعلي القبلة الكعبة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها. وعلي قولنا خلف الإمام أمين "أحمد". وحقاً كما قال الله تعالي: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" "البقرة : 109". وحصل الأمر : أن النبي محمد "صلي الله عليه وسلم" عندما فرضت الصلاة كان يصلي بمكة إلي الكعبة وبيت المقدس بين يديه. فلما هاجر إلي المدينة لم يتمكن من الجميع بينهما فصلي "صلي الله عليه وسلم" إلي بيت المقدس بأمر من ربه ففرحت اليهود. واستدبر الكعبة المشرفة بضعة عشر شهراً. وكان رسول الله يحب قبلة أبيه إبراهيم "عليه السلام" فكان يكثر من رفع طرفه إلي السماء لعل الله يحول قبلته لما يحب. فاستجاب له ربه وأنزل عليه: "قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" "البقرة : 144". فلما نزل الأمر بتحويل القبلة خطب صلي الله عليه وسلم في الناس وأعلمهم ذلك. وكان أول صلاة صلاها بالمدينة تجاه الكعبة هي صلاة العصر كما في رواية البخاري عن البراء. وقال عباد بن نهيك الأنصاري: نزلت هذه الآية علي رسول الله في مسجد بني سلمة. وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة. ولذا سمي هذا المسجد بمسجد القبلتين. وقالت نويلة بنت أسلم الأنصارية "من المبايعات": كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر "ممن شهد بدر" فقال إن رسول الله قد استقبل البيت الحرام. فتحول الرجال مكان النساء. وتحولت النساء مكان الرجال "وهم يصلون". أما أهل قباء لم يصلهم الخبر إلا أثناء صلاة الصبح إذ جاءهم رجل فقال: إن رسول الله قد نزل عليه هذه الليلة قرآن يأمره أن يستقبل الكعبة. فاستقبلوها وكانت وجوههم للشام فاستداروا إلي الكعبة وهم ركوع "من رواية مسلم". وهذا أول نسخ في القرآن. وفيه دليل علي أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به. وأن تقدم نزوله وابلاغه. ولذا لم يأمر الرسول أهل قباء بإعادة العصر والمغرب والعشاء. فتكلم المنافقون وطعن المشركون واليهود والجهلة فقالوا. ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ وكان أهل الكتاب يعلمون أن ذلك هو الحق لما يجدونه في التوراة في وصف الرسول الخاتم من أن المدينة مهجره والكعبة قبلته. فوبخهم المولي عز وجل في قوله: "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون" "البقرة : 144". وكان الرد حاسماً: "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم" "البقرة :142". فقال رجل من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات قبل أن نصرف إلي القبلة. وكيف بصلاة من مات قبل تحويل القبلة؟ فأنزل الله تعالي: "وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم" "البقرة :143". أما الاختلاف حول وقت تحويل القبلة بين العلماء فالحادثة ثابتة بالكتاب والسنة المتواترة كما أسلفنا. وأن التدقيق في معرفة الوقت بعينه لا يقدم ولا يؤخر في الدين ولن يغير منهج سيد المرسلين. والواجب علينا الخروج من الخلاف ومعرفة المغزي من شرع الله تعالي لنبينا محمد "صلي الله عليه وسلم" التوجه أولاً إلي بيت المقدس ثم صرفه عنه إلي بيت الله الحرام؟ لقد فعل الله تعالي ذلك ليمحص المسلمين ويظهر من يتبعه ويطيعه ويستقبل معه القبلة حيثما توجه» ممن ينقلب علي عقبيه. وليعلم الذين هدي الله قلوبهم. وأيقنوا بصدق الرسول. وأن كل ما جاء به هو الحق. وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فله أن يكلف عباده بما يشاء وينسخ ما يشاء. وهذا أول حكم نسخ بالقرآن. وهذا بخلاف الذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة كلما حدث أمر جديد أصابهم الشك والريبة واهتزت عقيدتهم بداخلهم. أما الذين آمنوا فيزيدهم الحدث إيماناً علي إيمانهم وتصديقاً علي صدقهم. قال تعالي: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب علي عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا علي الذين هدي الله" "البقرة :143" ولذا عندما وصل الخبر قباء والناس تصلي الصبح استداروا وهم ركوع إلي بيت الله الحرام. وهذا كمال الطاعة لله ولرسوله والانقياد لأوامره سبحانه. وهذا دليل أيضاً علي العمل بخبر الآحاد. وهذا دليل علي مكانة الرسول عند ربه سبحانه وتعالي. فلقد حقق له مقصده دون أن يتلفظ به! الحبيب الذي ترجي شفاعته.