* يسأل محمد حسن الهواري من أسيوط: يتعرض العالم الإسلامي الآن لموجة عاتية من التكفير من تكفير الحكام إلي تكفير الشعوب. ونريد معرفة حقيقة التكفير. وهل من حق المسلم تكفير أخيه المسلم الذي يصلي ويصوم؟ ** يجيب الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق: التكفير هو الحكم علي الإنسان بالكفر. وهذا الحكم خطير لخطورة آثاره ولذلك نهي الإسلام عن التعجل به وعن تقريره إلا بعد التأكد من وجود أسبابه تأكداً ليس فيه أدني شبهة. ولأن يخطئ الإنسان في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. والكافر إذا أفلت من عقوبة الدنيا فلن يفلت من عقوبة الآخرة. ذلك إن الإيمان والكفر محلهما القلب ولا يطلع علي ما في القلوب غير الله سبحانه. وليست كل القرائن الظاهرة تدل يقينا علي ما في القلب. فأكثر دلالتها ظنية. والإسلام نهي عن اتباع الظن في أكثر من نص في القرآن والسنة. وطلب الحجة والبرهان علي الدعوي وبخاصة في العقائد. وتطبيقاً لذلك نعي علي أسامة بن زيد قتله لرجل القي إليه السلام. وأمر بالتبين فقال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبيوا إن الله كان بما تعملون خبيراً" فقد كرر الأمر بالتبين لأهميته. ولم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام اعتذار أسامة وقال له: "هلا شققت عن قلبه" وقد تقدم ذلك. هذا. وموقف النبي من ذلك موضح في شرح النووي علي صحيح مسلم ج2 ص106 بخصوص القصاص والدية والكفارة. وقال تعالي في حادثة أخري "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين" ونزلت - كما رواه أحمد وغيره بسند جيد - في الوليد بن عقبة الذي أرسله النبي صلي الله عليه وسلم لقبض الزكاة من الحرث بن ضرار. الذي استبطأ وصول عامل الرسول ليقبضها فسار هو وجماعة بها إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقابلهم الوليد ولم يتبين أمرهم فرجع وأخبر الرسول بأن الحرث منعه الزكاة وأراد قتله. فأمر الرسول بتوجيه جيش إليه. ولما علموا حقيقة الأمر عاد الجميع إلي النبي صلي الله عليه وسلم وأخبروه. فنزلت الآية. يقول النبي صلي الله عليه وسلم: "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" وفي رواية "أيما امريء قال لأخيه يا كافر باء بها أحدهما. إن كان كما قال وإلا رجعت عليه" وفي رواية "من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" أي رجع ويقول ايضا "ثلاث من أصل الإيمان. الكف عمن قال لا إله إلا الله. لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بجهل...". إن الكافر الحقيقي انعقد قلبه علي الكفر واقتنع به ولا شبهة له فقد قال الله فيه "ولكن من شرح بالكفر صدرا" أي اقتنع به واستراح له. إن الحدود تدرأ بالشبهات ومنها عقوبات لا تصل إلي درجة القتل. فكيف نتعجل بالحكم علي رجل بالكفر دون أن نتأكد منه؟ نسب إلي الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال: من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها ويحتمل الإيمان من وجه حمل علي الإيمان". وروي عنه أنه قال: إنما كف رسول الله عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه. وعمر رضي الله عنه قال: أن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع. وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه. وليس لنا من سريرته شيء. الله يحاسبه في سريرته. ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة". وعن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي وهو باليمن إلي النبي صلي الله عليه وسلم بذهيبة. فقسمها بين أربعة. فقال رجل: يا رسول الله اتق الله. فقال: "ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله"؟ ثم ولي الرجل فقال خالد بن الوليد: ألا أضرب عنقه؟ فقال صلي الله عليه وسلم "لا. لعله أن يكون يصلي" فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه يا رسول الله. فقال له صلي الله عليه وسلم "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" مختصر من حديث متفق عليه لقد قال صلي الله عليه وسلم في الأخذ بظواهر المسلمين وحسن الظن بهم "من شهد أن لا إله إلا الله. واستقبل قبلتنا. وصلي صلاتنا. وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما علي المسلم". ونهي عن قتال من لهم مسجد أو يؤذن فيهم. فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغز حتي يصبح. فإذا سمع أذاناً أمسك. وإذا لم يسمع أذانا أغار بعد ما يصبح. وفي رواية: وسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر فقال "علي الفطرة" ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فقال "خرجت من النار" وعن عصام المزني قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا بعث السرية يقول: إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم منادياً فلا تقتلوا أحداً". يقول الشوكاني: فيه دليل علي جواز الحكم بالدليل. لكونه صلي الله عليه وسلم كف عن القتال بمجرد سماع الأذان. وفيه الأخذ بالأحوط في أمر الدماء. لأنه كف عنهم في تلك الحال مع احتمال ألا يكون علي الحقيقة. فهل غابت هذه النصوص عمن يسارعون إلي الحكم بالكفر علي الناس بالرغم من وجود الظواهر التي تجعل الإنسان علي الأقل يتحرج علي إساءة الظن بهم. ويرمي مجتمعهم كله بالكفر وفيه المساجد مفتوحة والآذان مرفوعة بأعلي الأصوات. هدانا الله جميعاً سواء السبيل.