في "23 مارس 1960م" رحل عن عالمنا. عالم كبير ومجدد مجاهد. ملأ الدنيا علما وفضلا.. وقد شاء الله "عز وجل" له أن يكون علامة بارزة. ومعلما من معالم الفكر والجهاد في القرن العشرين إنه العلامة المجدد المجاهد بديع الزمان سعيد النورسي. الذي ولد "سنة 1293ه - 1876م". في قرية "نورس" التابعة لناحية "إسباريت" المرتبطة بقضاء "خيزان" من أعمال ولاية "بتليس" شرقي الأناضول. وكان والده رحمه الله. رجلا صوفيا. يسمي "ميرزا". يضرب به المثل في الورع. فلم يذق حراما بل إنه كان إذا عاد بمواشيه من المرعي شد أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين كما جاء في كليات رسائل النور. تتلمذ سعيد النورسي علي يد أخيه الكبير "الملا عبدالله" حيث تعلم القرآن الكريم. واقتصرت دراسته في هذه الفترة علي الصرف والنحو. ثم بدأ يتنقل في القري والمدن بين الأساتذة والمدارس ويتلقي العلوم الإسلامية من كتبها المعتبرة بشغف عظيم. واجتمع له مع الذكاء قوة الحافظة. إذ درس وحفظ كتاب "جمع الجوامع" في أصول الفقه للشيخ عبدالوهاب بن علي السبكي. في أسبوع واحد. ولم تلبث شهرة هذا الشاب أن انتشرت بعد أن فاق في مناقشاته علماء منطقته جميعا. فسموه "سعيد المشهور". ثم ذهب إلي مدينة "تِللو" حيث اعتكف مدة في إحدي الزوايا. وحفظ هناك القاموس المحيط للفيروز آبادي إلي باب السين. وفي سنة 1892 ذهب "الملا سعيد النورسي" إلي "ماردين" حيث بدأ يلقي دروسه في جامع المدينة. ويجيب عن أسئلة الناس. فوشي به إلي الوالي. فأصدر أمرا بإخراجه. وسيق إلي "بتليس" فلما عرف واليها حقيقة هذا الشاب العالم ألح عليه أن يقيم معه. وهناك وجد الفرصة سانحة لمطالعة الكتب العلمية لاسيما علم الكلام والمنطق وكتب التفسير والحديث الشريف والفقه والنحو حتي بلغ محفوظه من متون هذه العلوم نحو ثمانين متنا. وفي سنة 1894م ذهب إلي مدينة "وان" وانكب فيها بعمق علي دراسة كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ حتي تعمق فيها إلي درجة التأليف في بعضها. فسمي ب "بديع الزمان" اعترافا من أهل العلم بذكائه الحاد وعلمه الغزير واطلاعه الواسع. وفي هذه الأثناء نُشر في الصحف المحلية أن وزير المستعمرات البريطاني "جلادستون" قد صرح في مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلا: "مادام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم. لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به".. زلزل هذا الخبر كيانه وأقض مضجعه. فأعلن لمن حوله: "لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها. ولا يمكن إطفاء نورها". فشد الرحال إلي استانبول عام 1907م وقدم مشروعا إلي السلطان عبدالحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرق الأناضول. أطلق عليها اسم "مدرسة الزهراء" - علي غرار الأزهر الشريف - تنهض بمهمة نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية وله مقولته المشهورة في ذلك إذ يقول: "ضياء القلب هو العلوم الدينية. ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة. وبامتزاجهما تتجلي الحقيقة. وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا. والتعصب الذميم في ذاك". وكانت شهرته العلمية قد سبقته إلي هناك فتجمع حوله الطلبة والعلماء يسألونه وهو يجيب في كل فن بغزارة نادرة. فاعترف له الجميع بالإمامة وبأنهم لم يشاهدوا في علمه وفضله أحدا. حتي إن أحدهم عبر عن إعجابه الشديد بعد أن اختبره اختبارا دقيقا. فقال: "إن علمه ليس كسبيا وإنما هو هبة إلهية وعلم لدني". وبعد دخول الغزاة إلي استانبول أحس النورسي أن طعنة كبيرة وجهت إلي العالم الإسلامي. ولذلك شمر عن ساعد الجد. فبدأ بتأليف كتابه "الخطوات الست" هاجم فيه الغزاة بشدة. وعمل علي إزالة دواعي اليأس الذي خيم علي كثير من الناس. في سنة 1923 توجه بديع الزمان إلي مدينة "وان" واعتزل الناس في جبل "أرَك" القريب من المدينة طوال سنتين متعبدا ومتأملا. ورغم ذلك لم ينج من شرارة الفتن والاضطرابات فنفي مع الكثيرين إلي "بوردو" جنوب غربي الأناضول. ثم نفي وحده إلي ناحية نائية وهي "بارلا" ووصل إليها في شتاء سنة 1926. فظن أعداء الإيمان أن سيقضي عليه هنا في "بارلا" ويخمد ذكره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض. ولكن الله - سبحانه وتعالي - لطيف بعباده. فرعاه بفضله وكرمه. حتي غدت "بارلا" مصدر إشعاع عظيم لنور القرآن. إذ ألف الأستاذ النورسي هناك معظم "رسائل النور". وتسربت هذه الرسائل عن طريق الاستنساخ اليدوي وانتشرت من أقصي تركيا إلي أقصاها. وهكذا استمر الأستاذ النورسي علي تأليف رسائل النور حتي سنة 1950 فأصبحت في أكثر من "130" رسالة. جمعت تحت عنوان "كليات رسائل النور" التي تضم أربع مجموعات أساسية هي: "الكلمات. المكتوبات. اللمعات. الشعاعات.. وغيرها من المجموعات التي لم يتيسر لها أن تري طريقها إلي المطابع إلا بعد سنة 1954". وظل الإمام النورسي طيلة حياته يغتنم كل لحظة. لا يصرف وقته سدي قط. فلا يراه أحد إلا قائما يصلي. أو داعيا متضرعا. أو مسبحا ذاكرا. أو متأملا في ملكوت السموات والأرض. فهو حتما منشغل بشغل يهمه. وكان يدعو إلي اغتنام العمر القصير والدنيا القصيرة للظفر بحياة أبدية خالدة. وكان يغضب كثيرا من الغيبة والكذب. ولا يسمح - بأي حال - لأحد أن يغتاب أحدا عنده. وقد لبي نداء ربه الكريم في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1379 الموافق 23 مارس 1960م.