في قصيدته "نكبة دمشق" قال أمير الشعراء الراحل أحمد شوقي : نصحت ونحن مختلفون دارا ... ولكن كلنا في الهم شرق.. كلمات ظلت طويلا معنا، لأن همنا واحد وشرقنا سيظل مضطربا، كما كان الحال، في ظل الاستعمار عندما تحدث شاعرنا الكبير، ثم في مرحلة تحرره من محتليه من الخارج والداخل، ثورات الربيع العربي أحدث الفصول في تاريخ هذه الأمة نجحت عند قيامها في إسقاط الأنظمة، لكنها تتعثر في طريقها لتحقيق أهدافها رغم التضحيات والأثمان الباهظة التي دفعتها شعوبها كي تري شمس الحرية بعد عقود زمنية من الفساد والاستبداد، نماذج تونس ومصر وليبيا تحولت في مرحلة مابعد البدايات إلي صراع بين القوي التي خاضت غمار الثورة، وبالتحديد بين التيارات الليبرالية واليسارية من جانب، والإسلامية علي الجانب الآخر، وتكاد تتشابه إلي حد التطابق تلك النماذج رغم فارق التوقيت في قيامها واختلاف الظروف لكن ثمة تشابه لايغيب عن الأذهان، وهو أن هذه البلدان خضعت لعملية تغريب واسعة وممتدة خلال أكثر من قرنين من الزمن لاقتلاعها من جذورها الثقافية وتراثها الحضاري، البداية كانت بالحملة الفرنسية، ومضت مع احتلال بلدان المشرق والمغرب العربي من قوي الاستعمار الأوروبي (بريطانيا وإيطاليا وفرنسا)، ونشأت معها أجيال متعاقبة ارتبطت عضويا وذهنيا بالثقافة الغربية وابتعدت عن جذورها الشرقية، ولذا كان صدام القوي الاستعمارية في بدايات الاحتلال بالمؤسسات الدينية ذات التأثير في تلك الشعوب، ثم العمل علي مخططات مشبوهة، منها نشر لغة المحتل من خلال المدارس التي تم فتحها (الإرساليات الكاثوليكية) لتخريج أجيال ترتبط بالمستعمر لغة وثقافة وروحا وتشجيع اللهجات المحلية، فنشأت أجيال في المغرب العربي تتكلم اللغة العربية بصعوبة بالغة وحتي الآن في إطار محو هوية هذه البلدان، مصر ليست حالة خاصة لكن وجود مؤسسة الأزهر وثبات المصريين علي هويتهم حافظ إلي حد كبير علي عدم تحول الأمر لحالة المغرب العربي، لكن جيلا من المثقفين والمفكرين المصريين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وما تلاها كانوا نتاج هذا التغريب من خلال بوابتي التغريب الفرنسية والإنجليزية. وفي أعقاب الحقبة الاستعمارية ظل العديد من بلدان المنطقة العربية تدور في فلك ثقافة المحتل السابق إضافة للوافد الاستعماري الجديد (أمريكا) ويرتبط أبناؤها عضويا به، وعملت القوي الغربية علي تشجيع الفكر القومي والنزعات القطرية الضيقة في إطار مخطط تفتيت المنطقة وخلق الصراعات الحدودية وتشجيع النظم الديكتاتورية واستقطاب القطبين الكبيرين (الاتحاد السوفييتي وأمريكا) في مرحلة الحرب الباردة، ومع هذه الحالة تزايد وجود وتأثير التيارات القومية والاشتراكية، وحدث صدام بين الأنظمة الحاكمة والتيارات الإسلامية قاد لتصفيتها، لكن الحروب بالمنطقة في ظل تبني الغرب للدولة العبرية نشأة واستمرارا ودعمها بكل وسائل البقاء وتهديدها لجيرانها عصفت بالاستقرار خاصة مع وجود أنظمة قمعية فاسدة وتبعية معظمها لأمريكا خاصة بعد معاهدة السلام وماتلاها من اتفاقيات، وكانت أحد أهم الأسباب التي قادت المنطقة لأسوأ مراحل تاريخها، حيث أصبحت تلك الأنظمة تدار بالتحكم عن بعد (الريموت كنترول) علي حساب مصالح شعوبها! أما الصراع الذي أصبح سمة بارزة علي ساحات الثورة في بلدان الربيع العربي فيعود في الدرجة الأولي إلي ضياع هوية شعوب المنطقة عبر حملات التغريب وفترة الاستقطاب خلال الحرب الباردة بين القطبين وماخلفته من آثار مدمرة، وقد يبدو الصراع في ظاهره سياسيا لكنه في المقام الأول صراع ثقافات وهوية، بين من يمثلون التيارات الليبرالية واليسارية بأطيافها وأجنحتها من جانب والإسلاميين الذين يحلمون ويعملون علي إعادة الهوية والمرجعية الدينية بعد عقود وقرون لبلدانهم، إلي حيز الوجود والتأثير، هذا بالضبط مايحدث الآن في بلدان الثورة الثلاثة مصر وليبيا وتونس، فهو صراع حول شكل النظام السياسي والاقتصادي وطبيعة الدستور والقوانين الحاكمة والعلاقات مع الخارج وهوية الدولة. لكن الصراع اتخذ شكلا صداميا وعدائيا بين الأطراف التي ينسب كل منها لنفسه الدور الأكبر في الثورة بل يسعي كل طرف لإزاحة الآخر وإقصائه سلميا أو عبر حشد كل طرف لأنصاره لكسب السباق أو بحملات التشويه والتخوين سياسيا وإعلاميا، وهو ماسيؤثر سلبا علي قدرة النظام الجديد بهذه الدول علي استكمال مسيرة الثورة والانتقال السلمي الهاديء إلي دولة مدنية حديثة، وهذا الصراع يزيده اشتعالا تدخلات من قوي إقليمية ودولية تري في هذه الثورات تهديدا مباشرا لمصالحها، فبانتهاء عصر التبعية تنشأ قوي جديدة بالمنطقة لها استقلالية قرارها لاينفرد فيها حاكم يمكن السيطرة عليه بمصير البلاد مثل الأنظمة السابقة، كما دخل علي الخط أيضا بقايا الأنظمة السابقة للحفاظ علي الأمتار المتبقية لها من النفوذ، لكن يبقي الخيار والقرار في النهاية للشعوب. الصراع السياسي في مصر شهدت فصوله في الأيام الأخيرة تصعيدا خطيرا يهدد بانقسام حاد يفكك أوصال الدولة، معركة علي الدستور ومعارك في ساحات القضاء وعلي شاشات الفضائيات والصحف وفي الساحات والميادين، موجات عاتية من التربص والترصد بين التيارين المدني والإسلامي، وتبدو الصورة وكأننا أصبحنا في بلدين منفصلين وبين أعداء وليس شركاء في وطن واحد يتفقون ويختلفون لكن مصلحة البلاد تعلو فوق الجميع. دور المعارضة يبدو غامضا ومضطربا، فهل هي جزء من منظومة سياسية صحيحة تصحح مسار النظام أم تريد إزاحته، وهل يعمل أقطابها علي تقوية أحزابهم وحشد التأييد الشعبي وكسب الشارع لخوض المعارك الانتخابية القادمة أم ستظل في منطقة الصدام ورفض كل شيء، وماهي البدائل التي تقدمها المعارضة لبناء سياسي متكامل يحقق أهداف الثورة، تساؤلات لا أجد لها إجابة لعل المانع خير!!