علاقة المودة الصادقة بين القطبين الرئيس عبدالناصر والأقباط عام 1961 مع أضخم تجمع ديني مسيحي عالمي حدث علي أرض مصر الطيبة احتفل الرئيس جمال عبدالناصر والإمبراطور هيلاسلاسي الأول إمبراطور أثيوبيا والبابا كيرلس السادس البطريرك 116 بافتتاح أضخم كاتدرائية في الشرق الأوسط وذلك يوم الثلاثاء 25 يونيه 1968. في هذا اليوم أتجهت أنظار العالم كله نحو القاهرة حيث كان يجتمع رؤساء كنائس العالم لمشاركة الكنيسة القبطية في هذه المناسبة الجليلة، ومن خلفهم جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لتذيع وتنشر في أنحاء العالم أخبار هذا الحدث الفريد. واليوم في تذكار مرور 44 عاماً علي هذا الحدث التاريخي والخالد يطيب لي أن أسجل كلمة في هذه الذكري الطيبة التي يعتز بها كل مصري علي أرض مصر. للتاريخ نسجل أن الشركة التي وقع عليها الاختيار لتقوم بهذا العمل الضخم هي شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة "سبيكو". ولإنجاز هذا العمل جندت الشركة نخبة كبيرة من المهندسين التنفيذيين، 700 عامل فني، 300 صانع، 1000 عامل. وبتوجيه مباشر من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر تمت جميع أعمال الشركة بتنفيذ ذاتي بنحو 85٪. ومن هذه الإنجازات: أعمال حفر أتربة قدرها نحو 17 ألف متر مكعب، أعمال خرسانة مسلحة نحو 12 ألف متر مكعب، أعمال بناء قدرها 150 مترا مكعبا. ولتنفيذ هذا العمل استخدمت الشركة 1300 طن حديد، 2400 طن أسمنت، ثلاثة أرباع مليون طوب أحمر. بلغت التكاليف المبدئية حتي 25 يونيو 1968 نحو 350 ألف جنيه مصري. أقيمت الكاتدرائية علي مساحة 6200 متر مربع. يوجد بالكاتدرائية مدفن خاص بالقديس مرقس كاروز الديار المصرية والذي عادت رفاته من كاتدرائية سان ماركو بفينيسيا بإيطاليا والتي تسلمها وفد بابوي من البابا بولس السادس - بابا الفاتيكان - في 22 يونيه 1968 في ذكري مرور 19 قرناً علي استشهاد القديس مرقس بشوارع مدينة الإسكندرية. هذا المدفن من الجرانيت الأحمر مربع الشكل طول ضلعه 170 سنتيمترا، أما أرتفاعه فيصل إلي المتر. يوجد بالكاتدرائية قاعة للاحتفالات مساحتها تبلغ 1440 متراً مربعاً، وتسع لنحو 2000 مدعو. أما الكاتدرائية الكبري فبها تسعة أبواب وتبلغ مساحتها 2500 متر مربع، وأرتفاعها نحو 25 متراً، وتسع لعدد 8000 شخص. مساحة قدس أقداس الكاتدرائية (الذي يُطلق عليه اسم الهيكل) نحو 126 متراً مربعاً. يعلو الهيكل قبة كبيرة ارتفاعها نحو 55 متراً. في مثل هذا اليوم وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً حضر إلي السرادق الكبير الذي أُقيم بجوار الكاتدرائية الجديدة الرئيس جمال عبدالناصر وفي صحبته الإمبراطور هيلاسلاسي وكان في استقبالهما قداسة البابا كيرلس السادس وأعضاء المجمع المقدس للكنيسة القبطية ورؤساء الوفود المسيحية. وجلس الرئيس في مكانه بالصدارة وإلي يساره البابا كيرلس السادس وعن يمينه جلالة الإمبراطور هيلاسلاسي، ثم رؤساء الوفود المشاركة. وفي جانب المنصة جلس أعضاء الوفود ورؤساء الكنائس ومندوب فخامة شيخ الأزهر وتلميذ البابا كيرلس السادس الشماس روفائيل صبحي (حالياً الراهب القمص رافائيل آفا مينا) وفي الجانب الآخر من المنصة جلس رجال السلك الدبلوماسي وكبار الزوار. قام بتقديم المتكلمين الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة والاجتماعية. في الكلمة التي ألقاها سكرتير المجمع المقدس نيابة عن البابا كيرلس السادس جاء فيها: (نشكر الله علي هذه النعمة العظيمة إذ جعلنا أهلاً بأن نُحيي هذه الذكري المباركة التي تشهد بعمل الله ومحبته وأمانته علي مر الأجيال. هذا التراث الروحي والحضاري الذي ازدهر في هذه البلاد المباركة بمجئ قديسنا مار مرقس اليها منذ ألف وتسعمائة عام، قدمه أبناء مصر وإخوانهم في أفريقيا أولاً ثم في أنحاء العالم ليشاركوهم في نعم الله، وأصبح جزءاً من التراث الحضاري العالمي، ويسرني أن أذكر بالفخر والإعجاب في هذه المناسبة ما تفضل به السيد الرئيس جمال عبدالناصر من إرساء حجر أساس هذه الكاتدرائية خلال أعياد العام 13 للثورة المجيدة في 24 يوليو 1965 ومن المساهمة القيمة التي قدمها في إقامتها تعبيراً عن سماحته وكريم مشاعره ..). وكان قداسة البابا بولس السادس بابا الفاتيكان في كلمته للوفد القبطي الذي استقبله بروما لتسلم جزء من رفات القديس مرقس والعودة به إلي أرض مصر، قال: (.. إن المناسبة الخاصة التي أتت بكم اليوم إلي هذه المدينة هي الافتتاح الرسمي الوشيك الحدوث في القاهرة للكاتدرائية الجديدة المكرسة علي اسم القديس مرقس. إننا نعلم أن هذا الإنجاز هو حصيلة سخاء مؤمنيكم وبتعضيد سلطات دولتكم وبذلك فإن حكومتكم تقدر مكانة ودور المسيحيين المهم، وعلي الأخص مسيحي الكنيسة القبطية، الذي يقومون به في حياة مصر الحديثة ..). ثم القي البطريرك الأنطاكي مار أغناطيوس يعقوب الثالث كلمة رائعة عن مكانة الكنيسة القبطية في العالم، ومما جاء فيها: (.. وقد تبوأ كرسيها المرقسي بطاركة عظام، تميزوا بالتقوي وأصالة الرأي، وحازوا مفاتيح الحكمة وفصل الخطاب وتمتعوا بنفوذ لا يجاري. وكان هذا الكرسي المقدس السباق إلي اتخاذ لقب "البابا" لبطاركته ..). ثم وقف الكاردينال دوفال كاردينال الجزائر نائباً عن بابا روما وقال: (.. وفي هذه المناسبة الجليلة مناسبة تدشين كاتدرائية القديس مرقس تحمل إلينا الدعوة نفسها. فإننا نسمع صوتاً يرتفع من هذا البناء الحجري الذي هو بيت الله وبيت الناس، وهذا الصوت يهيب بنا أن نبني للناس مجتمعاً يكون رمزاً وصورة مسبقة لمجتمع السماء، دستوره الوحيد الأخوة الجامعة المرتكزة علي مجد الله تعالي). وفي نهاية الكلمات العديدة التي أُلقيت نهض البابا ومعه الرئيس والإمبراطور يتبعهم رؤساء الوفود وكبار الزوار إلي الكاتدرائية حيث تقدم البابا والرئيس والإمبراطور فأزاحوا الستار عن اللوحة التذكارية. ثم انصرف الرئيس والإمبراطور وعاد البابا كيرلس إلي قلايته البسيطة بالمقر البابوي بالأزبكية محدثاً بكم صنع الله معه من عظائم في ذلك اليوم العظيم. كما قام قداسته بمناسبة تلك المناسبة الخالدة بتكليف الأستاذ بديع عبدالملك (1908 1979) خبير رسم الخط والنقش الفرعوني بالمتحف اليوناني الرومانيبالإسكندرية وأحد مؤسسي جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية، بإعداد لوحة تذكارية تحمل أسماء الآباء البطاركة الخمسين فوق المقبرة التي تحمل رفاتهم بالكنيسة المرقسية الكبري بالإسكندرية. وفعلاً تم هذا العمل الضخم في صورة رائعة تليق بمكانة الكنيسة القبطية. كما أنه في لفتة كريمة من هيئة البريد المصرية أصدرت في هذه المناسبة التاريخية طابعاً بريدياً فئة08 مليماً (خاص بالبريد الجوي) يحمل رسم الكاتدرائية وبجوارها رسم القديس مرقس. وفي هذه الذكري الطيبة نناشد الآباء المطارنة والأساقفة أعضاء المجمع المقدس للكنيسة القبطية أن يتمسكوا بالقوانين والتقاليد الكنسية التي ترسخت في الكنيسة علي مدي عشرين قرناً حتي نرضي الله في حياتنا فتحل بركته علي الكنيسة ويغدق بخيراته علي ربوع مصر ونحيا في سلام، ونجتاز هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها وطننا الغالي في هدوء واستقرار، فالأمين في القليل أمين أيضاً في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضاً في الكثير، وطوبي لمن فضل أن يكون بلا رأس من أن يحيا بلا ضمير.