«إذا كنا نحن الضباط الأحرار قدمنا رقابنا فداء لوطننا العزيز، فلن نستردها حتي ينال هذا الوطن حريته".. كلمات قالها المشير عبد الحكيم عامر، أحد قادة ثورة 23 يوليو 1952 في إحدي خطبه بعد نجاح الثورة التي كان يلعب فيها دور "الرجل الثاني" لصديق عمره جمال عبد الناصر، إذ التقت أفكارهما ووجهات نظرهما، خصوصاً حول انزعاجهما من التفرقة في المعاملة بين كبار وصغار الضباط، وانعدام الإنسانية في الجيش آنذاك، وخططا معاً لتشكيل رابطة الضباط الأحرار، وبعدما تم إلغاء الملكية في مصر وأعلنت الجمهورية، اتجهت الأنظار نحو عامر ليتولي منصب قائد القوات المسلحة، وسرعان ما أصبح النائب الأول للرئيس. مرت السنوات، وهما معاً، حتي جاءت حرب 1967، النكسة التي أسدلت الستار علي حياة عامر، بعد الخلاف الذي نشب بينه وبين قيادات مجلس الثورة، حول "من يتحمل مسئولية الهزيمة"، حينها خرج ناصر معلناً تنحيه عن الرئاسة لكن رفض الشعب، وتقدم المشير باستقالته في يونيه من هذا العام، ووضع تحت الإقامة الجبرية، وبعد ثلاثة أشهر توفي المشير، وانقسمت الأقوال حول سبب الوفاة بين انتحاره ومقتله. وظلت أسرته 47 عاماً تطالب بالتحقيق في وفاته، وأثبتت عدة تقارير للطب الشرعي أن المشير قُتل مع سبق الإصرار والترصد.. "آخر ساعة" أجرت حوراً مع ابنه السابع من زوجته الأولي صلاح الشاهد، علي الواقعة الأخيرة لاقتحام بيت المشير ونقله إلي فيلا المريوطية، الذي قال إن أسرة عامر في انتظار أن تعلن القوات المسلحة مقتله رسمياً حتي يأخذوا عزاءه.. تفاصيل الحوار في السياق التالي: ٭ في ذكري ثورة يوليو، كيف تري المشير عبد الحكيم عامر؟ - أراه رجلاً عسكرياً استثنائياً، إذ تدرج في مهنته سريعاً، منذ نقله إلي أسوان عام 1940 حيث قابل جمال عبد الناصر، ومشاركته في حرب فلسطين حيث جُرح، وتفوقه في كلية أركان حرب إذ حصل علي المركز الثاني، وتشكيله مع ناصر لرابطة الضباط الأحرار، حيث عقدت الاجتماعات السرية في بيت أبي، وكان هو بمثابة "الدينامو" لعبد الناصر، فلا أحد ينكر أن الأخير هو قائد الثورة ومفكرها، لكن لا يقلل هذا من دور الجميع في التخطيط للثورة، فجميعهم أبطال. وكان عامر المسئول عن تجنيد الضباط وإقناعهم بمبادئ الثورة، وبالفعل نجح في ضم الكثير منهم حتي وصل عددهم إلي 13. وفي ليلة الثورة، تفقد هو وجمال مقر قيادة الجيش، وبعدما علموا أن الحركة انكشف سرها، كان من حُسن حظهم أن بقية الضباط تحركوا لتنفيذ الخطة قبل موعدها المحدد. واقتحم عامر مقر القيادة، وألقي القبض علي قادة الجيش، وأطلقت من سلاحه أول طلقة أصابت جنديا واحدا. وهو من كتب بيان الثورة الذي ألقاه أنور السادات. ٭ رغم دوره المهم في الثورة إلا أنه وعندما يذكر اسمه يتبادر إلي الأذهان وفاته ومسئوليته عن النكسة؟ - صحيح، لأن القيادات حاولت أن تغتال شخصية المشير وانجازاته خلال 47 عاماً، وحملته وحده أسباب الهزيمة في حرب 1967 رغم أن المسئولية سياسية في الأساس، وحاولنا طوال هذه المدة البحث عن حقيقة وفاته بالأدلة، وإثبات أنه لم ينتحر، كما تداولت الألسنة بالأحاديث، والتي أسميها أحاديث الإفك؛ فالمشير كان رجلاً مؤمناً، ومن المستحيل أن يذهب تفكيره إلي الانتحار، ولو أراد الانتحار لكان انتحر بعد النكسة مباشرة، وليس بعد ثلاثة أشهر. ٭ وكيف حاولتم إثبات مقتله؟ - بداية الخيط، كان في أول تقرير للدكتور سليم البشري، الذي قال إن المشير انتحر. حينها جاء البشري إلي عمي حسن، وأخبره أن التقرير أعد تحت ضغط، ومن السهل إثبات مقتل عبد الحكيم عامر، وأوصاه ألا يتحدث إلا عندما يسمح الوقت. وفي عهد أنور السادات تقدمنا بفتح التحقيق في الوفاة، وجاء في تقرير أعده الدكتور علي محمد دياب، الباحث ومدرس التحاليل بالمركز القومي للبحوث، أن " مادة الإيكونتين السامة التي وجدت في تحليل دم المشير تقتل أي إنسان بمجرد اقترابها من فمه"، لكن النائب العام أقر وقتها أن المشير تناول السم يوم 13 سبتمبر 1967 ومات اليوم التالي، وهو ما يتعارض مع التقرير. كما حصلنا علي التقارير التي أعدها مستشفي القوات المسلحة في المعادي، حين تم الهجوم علي أبي وإجباره علي الخضوع للتحليلات، التي أكدت سلامة طبيعة النبض وضغط الدم والرئتين والجهاز الهضمي وعدم وجود أعراض لمغص أو قيء أو إسهال، وأيضاً سلامة القوة العضلية والإحساس، وتفاعل حدقتي العين مع الضوء. ثم هدأ الملف، وأغلق تماما في أواخر عهد السادات وفي عهد محمد حسني مبارك، وبعد ثورة يناير 2011 تقدمنا إلي النائب العام بإعادة التحقيق في وفاة عامر، وأقرت تقارير أشرف عليها الدكتور إحسان كميل، رئيس مصلحة الطب الشرعي السابق، بمقتل المشير، والآن الملف في حوزة النيابة العسكرية، لذلك ننتظر من القوات المسلحة أن تعلن رسمياً مقتل المشير وعدم انتحاره، حتي نأخذ عزاءه. ٭ كنت شاهداً علي واقعة اقتحام عبد المنعم رياض ومحمد فوزي بيت عامر لنقل إقامته إلي المريوطية.. ما الذي حدث ؟ - كان عمري وقتذاك تسع سنوات، ولم أكن أعي جيدا ما يدور حولي، وكنا نسكن في بيتنا في الجيزة، وفجأة اقتحم البيت الفريق أول محمد فوزي - تولي قيادة الجيش خلفاً للمشير - البيت، ومعه الفريق عبد المنعم رياض وعدد من الحرس الجمهوري، في حين كان أبي جالساً في هدوء، وكل من تواجد في هذا الوقت ترقب الموقف، وتناقش أبي معهم، وتشاجرا، وقاموا بحبس شقيقيِّ نصر وجمال في إحدي غرف البيت، وفي وسط هذا الصخب قال عبد المنعم رياض إن أبي تناول السم لينتحر، وهذا ما لم يحدث، لكنها غيرت خطة ذهابهم إلي المريوطية مباشرة، وانتقلوا به إلي مستشفي القوات المسلحة في المعادي، الذي كان يديرها آنذاك الفريق عبد المنعم مرتجي، وأجروا الفحوصات، وفي تمام السادسة مساء من يوم 13 سبتمبر 1967 نقل عبد الحكيم عامر إلي فيلا المريوطية وأسدل الستار علي حياته، ودفن في اليوم التالي بمسقط رأسه في قرية أسطال في محافظة المنيا، وعينت حراسة علي قبره لمدة 45 يومياً، ولم نأخذ من وقتها عزاءه. ٭ ماذا عما أشيع أن المشير حاول الانتحار في جلسة اجتماع قادة الثورة التي عقدت في بيت جمال عبد الناصر؟ - ليس صحيحاً، المشير لم يحاول الانتحار من قبل، وإن حدث لماذا لم ينُقل إلي المستشفي فوراً، كما يحدث مع أي منتحر، وحكايات الانتحار لم تتداول إلا بعد مقتله. وأريد أن أقول إن عبد الحكيم عامر كان بيده أن يضع البلد في أزمة، وأن ينقلب علي جمال عبد الناصر، لكنه لم يفعل ذلك، لأن أخلاقيات البزة العسكرية تمنعه، فالجيش لا يخون ولا ينقلب علي قائده. ٭ لكن السادات كتب في مذكراته إن "انتحار عبد الحكيم أشجع وأنجح قرار اتخذه، فقد حل بهذا القرار مشكلته مع البلد والأمة العربية، وحدد مسئولية النكسة، ووضعه الشاذ مع جمال ومعنا جميعا، وعلي المدي البعيد، سيتضح أنه حل مشاكل كثيرة لأولاده"؟ - لا أعرف، ماذا يقصد السادات بمشاكل عبد الحكيم مع أولاده. ولا أعرف لماذا كتب أنه انتحر، رغم أن في عهده أقرت التقارير بمقتله. وبخصوص النكسة فلا يتحمل مسئوليتها أبي، لأن عبد الناصر هو من أصدر قرارا بإرسال محمد فوزي وعبد المنعم رياض للتأكد من الأنباء التي تردد وجود حشود في سوريا، وأمر برفع قوات الطوارئ الدولية، وغلق خليج العقبة، رغم أن مصر لم تكن في استعداد إلي الدخول في حرب، لأن ثلث الجيش كان يحارب في اليمن. ٭ هل ترك عبد الحكيم عامر مذكرات وأوراقا مكتوبة بخط يده عن حرب 1967؟ - نعم، كتب في أول أيام الإقامة الجبرية، وصية نشرت في مجلة «لايف الأمريكية»، التي كذبها كثيرون، وكتب فيها: "أخشي ما هو مُدبَّر لي، فقد فقدت الثقة في صديقي وأخي جمال، فلم أعد أحس بالأمن من جانبه، وما التهديدات التي أتلقاها إلا لأنني طلبت إجراء محاكمة علنية". كما أنه كتب مذكراته عن أسباب نكسة 67 والمكونة من 13 صفحة، وطبع منها أكثر من نسخة، ووزعها علي عدد من الأشخاص المقربين، كان من ضمنهم صلاح نصر، مدير المخابرات العامة آنذاك، والذي تولت شقيقتي نوال مهمة تسلميها له، إذ كانت صديقتها جارة نصر، وطلب أبي منها أن تدس المذكرات في ملابسها، لأنه من الصعب أن تخضع لتفتيش العساكر، وبالفعل وصلت إليه، لكن لم يتم نشرها، وحصلنا عليها من نجله بعد وفاة نصر، وكان من المستحيل نشر هذه الأوراق طيلة الفترة السابقة، ولم تعرض حتي الآن علي الرأي العام، ومن يشكك في وجودها لم تصل له هذه المعلومات. ٭ ما سبب اتهام صلاح نصر مدير المخابرات آنذاك بقتل المشير؟ - لأن السم الذي قتل به والدي كان من مسئولية مدير المخابرات، لكنه بعدما ترك المنصب سلم كل شيء لأمين هويدي الذي خلفه، لذلك قال صلاح نصر: "أنا لم أقتل المشير، وهو لم ينتحر، ولم يتعاط سما، وهل كنت أعلم أن النكسة ستحدث لأقتله".