معركة فيلم نوح ليست الأولي .. ولن تكون الأخيرة في السادس والعشرين من الشهر الحالي، من المفترض أن يعرض الفيلم الأمريكي "نوح" للمخرج دارين أرنوفسكي في عدد من دور السينما بمصر، وهو من بطولة راسل كرو، وأنتوني هوبكنز، وإيما واتسون، وبين الذي كان مفترضاً، والذي يمكن أن يحدث طريقا طويلا مليئا بالحفر والمطبات!؛ بمجرد أن ظهرت علي اليوتيوب المقدمة الدعائية للفيلم وتاريخ عرضه بمصر، وتناقله عشاق السينما علي مواقع التواصل الاجتماعي، حتي قامت الدنيا ولم تقعد، ولا تعرف بالضبط من المحرك لتلك الموجة العاتية من الهجوم والانتقادات، والتحذيرات التي وصلت الي حد التهديد بالعنف ودعوة إلي حرق دور السينما التي تعرض الفيلم؟ المبرر الذي يسوقه بعض المنتمين لمؤسسة الأزهر الشريف.؛ إن ظهور الأنبياء والرسل، وصحابة رسول الله([) وأهل بيته والخلفاء الراشدين، محرم شرعاً! ودون الدخول في متاهة تفاصيل، وجدل لاطائل منه، وخاصة أن هذا التبرير لايستند إلي أي نص من القرآن الكريم، ولا الأحاديث النبوية، ولكنه اجتهاد شخصي، قد يجانبه الصواب أو الخطأ، غير هذا فإن دعوة المنع تبدو في هذا التوقيت، وكأنها دعوة للعودة للكهف، فعملياً يصعب أو يستحيل منع الناس من مشاهدة عمل فني يرغبون في مشاهدته، لأن وسائل وطرق المشاهدة متعددة، وخاصة في زمن الإنترنت، حيث يمكن لأي شخص أن يشاهد الفيلم بعد أسبوع واحد، من بداية عرضه عالميا، وبالتأكيد أن أعداد من سوف يشاهدونه بهذه الوسيلة يزيد مئات الأضعاف عن أعداد من يذهبون إلي دور السينما في مصر! إذن حكاية المنع أو حتي التلويح به أصبحت أمرا غير ذي بال، وغير قابل للتنفيذ، ولكن لماذا هذه الضجة التي أراها مثل غيري مفتعلة، وخاصة وأنها ليست المرة الأولي التي تستقبل فيها دور العرض في مصر فيلما عن أحد الأنبياء، ولايزال الجمهور يذكر جيدا، ظروف عرض فيلم آلام المسيح إخراج ميل جيبسون، وهو الفيلم الذي قوبل في البداية بحملة شرسة وضعت الرقابة علي المصنفات الفنية في حرج شديد، ولكن بعد أن لجأت شركة التوزيع إلي استخدام حقها في التظلم من قرار الرقابة، جاءت النتيجة بالموافقة علي عرض الفيلم، دون أي حذوفات، وشهد إقبالا منقطع النظير، رغم أن محتواه ومضمونه لايتفق مع ماجاء في القرآن الكريم!! ولكن الجمهور تعامل مع فكرة صلب السيد المسيح بوعي وفهم، حقيقة الاختلاف بين ماذكر في القرآن الكريم، وبين ماجاء في الإنجيل! وكان الاستمتاع بالرؤية الفنية أعلي من تلك الاختلافات التي لم تستوقف أحدا، أو تؤثر في معتقداته، فنحن نتعامل مع كثير من الأمور، بدرجة من النضج وفهم الاختلافات في بعض التفاصيل، التي لاتصل أبدا إلي جوهر العقيدة!؛ أما مشاهدو التليفزيون في العالم العربي، فقد تابعوا في رمضان قبل الماضي، أحداث مسلسل "عمر"، المأخوذ عن بعض فصول من تاريخ حياة الفاروق عمر بن الخطاب، وظهر بالمسلسل شخصيات للخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وقوبل المسلسل بحفاوة شديدة، من الجماهير العربية، وشهدت تترات البداية موافقة من هيئة علماء وشيوخ أجلاء وافقوا علي عرض المسلسل بدون حذوفات، أو محاذير، وهو ما يدحض وينفي فكرة أن هناك إجماعاً من شيوخ الإسلام علي رفض فكرة ظهور صحابة الرسول الكريم([)، علي الشاشة! وطبعا سبق لنفس الجماهير العربية، أن تابعت المسلسل الإيراني الطويل يوسف الصديق الذي يروي حياة سيدنا يوسف وأشقائه ووالده نبي الله يعقوب، في أكثر من ستين حلقة، وتم إعادة عرض المسلسل مرات علي عدة قنوات عربية، تضاعف عدد مشاهديه في كل مرة!؛ في ديسمبر من عام 1961 بدأ عرض فيلم ملك الملوك، بطولة النجم العالمي جيفري هنتر ، وهو أحد الأفلام الكثيرة التي تستعرض مراحل من حياة السيد المسيح، وأعلنت دار العرض بالقاهرة عن استقبال هذا الحدث الفني المهم، وملأت حوائط المدينة أفيشات وملصقات الدعاية للفيلم، ولكن قبل عرضه بساعات تم رفعه من كل دور السينما التي كانت قد أعلنت عن بداية عرضه، وربما تكون هذه المرة الأولي، التي تمارس فيها المؤسسة الدينية ممثلة في الأزهر سلطتها في منع عمل فني، وطبعا منذ ما يزيد علي نصف قرن كانت الدنيا غير الدنيا، ولم يكن ميسرا لأي راغب لمشاهدة الفيلم أن يراه، إلا لو كانت ظروفه تسمح له بالسفر للخارج، ومتابعة الفيلم في أي عاصمة أوروبية أو أي دار عرض أمريكية، حيث لم يكن الفيديو قد شاع وانتشر في هذة الآونة!؛ غير أن التليفزيون المصري، وياللعجب كان قد عرض في إحدي ليالي رأس السنة الميلادية في فترة الستينيات، فيلم سالومي الذي لعبت بطولته ريتا هيوارث، تضمنت الأحداث "طبعا"، حكاية الاميرة اليهودية سالومي مع نبي الله يحيي، أو يوحنا المعمدان، وكيف أنها هامت به عشقا، فلما أعرض عنها، طلبت من الملك أن يمنحها رأس المعمدان علي طبق من فضة، مقابل أن تمنحة رقصة كان يتوق إليها، وقد كان لها ذلك! وشاهد الفيلم ملايين المصريين واستمتعوا به، ويبدو أن بعض الجهات قد تنبهت الي أن نبي الله يحيي يظهر في الفيلم، فطلبت منعه بعد ذلك، في الوقت الذي كانت مشاهد كاملة في فيلم الوصايا العشر، للمخرج سيسيل دي ميل، تتصدر تترات برنامج نادي السينما الذي تقدمه درية شرف الدين، حيث يظهر الممثل شارلز هيوستون وهو يجسد شخصية نبي الله موسي، وهو يمد عصاه فيشق البحر، لينطلق هو وأتباعه وينطلق في أعقابهم فرعون مصر وجنوده!!.. وقد استعان المخرج الراحل أحمد طنطاوي بنفس اللقطات من الفيلم الشهير، في مسلسل محمد والذين معه، ولم يلتفت المعترضون علي تجسيد شخصيات أنبياء الله ورسله علي الشاشة، إلي عرض تلك اللقطات المهمة أسبوعيا من خلال برنامج يتابعة الملايين! - وطبعا يتذكر عشاق السينما، كيف تم منع عرض فيلم الرسالة للمخرج السوري العالمي مصطفي العقاد في مصر بناء علي فتوي من الأزهر، بحجة ظهور حمزة بن عبدالمطلب، وظل ناقة محمد ([)! هذا في الوقت الذي كانت الدنيا كلها تشاهد هذا الفيلم الجميل، الذي يحكي عن بداية ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية! والغريب أن الفيلم عرض بعد ذلك علي جميع القنوات العربية باستثناء مصر، وظل هذا الموقف المتعنت سارياً حتي وقت قريب! وماحدث مع المخرج السوري، تكرر مع المخرج المصري يوسف شاهين، عندما تقدم للرقابة بطلب للموافقة علي سيناريو فيلم عن حياة سيدنا يوسف (عليه السلام)، ولكن قوبل طلبه بالرفض والتعنت، فاضطر للتحايل وعمل بعض التعديلات في السيناريو واستبدال اسم يوسف، برام، مع الاحتفاظ بكل تفاصيل الحكاية وأطلق علي فيلمه اسم المهاجر، وتم تصوير الفيلم من بطولة خالد النبوي ومحمود حميدة، وحنان ترك، ويسرا، ورغم عرضه السينمائي، إلا أن الأزهر منع عرضه التليفزيوني، ومع ذلك لم تلتزم القنوات العربية بقرار المنع!؛ ماكان يمكن أن يحدث من نصف قرن يستحيل حدوثه الآن، ولم تعد فكرة المنع والحظر واردة مع التقدم التكنولوجي الرهيب، ومعركة فيلم نوح، التي يخشي البعض من تفاقمها، أعتقد أنها سوف تخمد ويتم السيطرة عليها، والقضية ليست في هذا الفيلم بالذات، ولكن في كل ماهو آت، فلو لم ينتصر المنطق والتيار التنويري، فهو إيذان للتراجع سنوات للخلف، خاصة أن المعركة خاسرة من البداية، ولاسبيل للمضي فيها أكثر من ذلك، خاصة أن هناك فيلما قادما عن حياة نبي الله موسي (عليه السلام)، قام المخرج الأمريكي ريدلي سكوت بتصويره من بطولة كريستيان بال، وسيجورني ويفر، وبن كينجسلي يحمل اسم الخروج ، وسوف يعرض في نهاية 2014 وطبعا إذا تم منع نوح ، فسوف يتم منع موسي، والعكس صحيح ، ولن تتوقف السينما العالمية عن تقديم قصص وحكايات الأنبياء والرسل، والسؤال الذي لابد له من إجابة، ماذا نحن فاعلون، هل ندير ظهورنا للمنطق للعالم، أم نحترم حق المواطن في اختيار مايشاهده، ونكف عن فرض الوصاية علي عقول الناس وضمائرهم، وخاصة أن دستورنا الجديد ينص علي احترام حرية العقيدة والفكر والإبداع، الذي نقدمه أو يقدمه الآخرون!!؛