أعوام طويلة.. ستة وستون عاما مضت، ومازلت، رغم تزاحم الذكريات، اتذكر هذا اليوم وكأنه الأمس، كنت أزور صديقتي، عصمت سالم، وجلسنا نثرثر كعادة الفتيات في عمرنا، ثم توقفت فجأة وقالت: »الله النهارده عيد ميلادك حاتعملي ايه؟» فرددت: »حاعمل ايه يعني.. ولا حاجة يمكن لو نينة افتكرت تعملي كيكة أو يمكن تنسي..». وفجأة دخل علينا أخوها الأكبر قائلا »انتو قاعدين كده ومش عارفين.. الدنيا مقلوبة.. لأ معدولة.. فيه ثورة» ثم فتح الراديو حيث فوجئنا بصوت أنور السادات- كما عرفنا بعد ذلك- يقرأ بيان الثورة. تهللنا فرحا وصحت قائلة: ثورة هدية يوم عيد ميلادي السابع عشر.. خرجنا أنا وصديقتي إلي الشوارع وانضممنا إلي الجماهير المحتفلة والمشاركة في الثورة، وأحسست وقتها بالقيمة الحقيقية لتاريخ ميلادي الذي اصبح يعني لي الكثير فهو ميلاد جديد لبلدي وليس لي فقط. ولم نكن قد عرفنا، بعد، اسماء الضباط الاحرار الذين قاموا بالثورة، فكان الهتاف »تحيا الثورة وتسقط الملكية والفساد». ومن شدة الزحام، تصورت أن بيوت القاهرة خلت من سكانها وان الجميع خرج إلي الشوارع لتأييد الثورة حتي انني تصورت أني قد ألتقي بأمي، ست البيت التي نادرا ما تغادره، في الشارع تحتفل هي ايضا. وعندما عدت إلي البيت لم أجد شقيقيَّ فقد خرجا للانضمام إلي الجماهير المؤيدة للثورة والاحتفال معهم. ورأيت ابي والسعادة تبدو علي محياه وهو يستقبل الاصدقاء والعائلة احتفالا بالثورة ،بينما اختي الصغري تثير ضجة كعادتها، معترضة علي رفض أبي لخروجها للاحتفال خوفا عليها لصغر سنها. ثم دخلت إلي المطبخ ووجدت أمي مشغولة بإعداد وليمة للأهل والاصدقاء المجتمعين احتفالا بالثورة، فاحتضنتها وقلت »شفتي يا نينة.. مصر كلها بتحتفل بيا». وتمر الأيام وتتبعها السنوات، ويصبح عيد ميلادي من التواريخ الهامة، حيث كل عام، أري من حولي انجازات ثورة 23 يوليو سواء علي المستوي السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي. وكلما كبرت عاما، كبرت معي احلامي وحققت توءمتي »الثورة» تلك الاحلام، الاصلاح الزراعي، تأميم القناة، السد العالي، الثورة الصناعية، القومية العربية، ثقل مصر الدولي..الخ. حتي عندما جاءت الكبوة في 1967 لم تستمر طويلا، بل تماسكنا ووقفنا مباشرة وبدأت حرب الاستنزاف التي مهدت للعبور العظيم في اكتوبر 1973. وتستمر ذكرياتي عن الثورة وتتدفق مندفعة كشلال لا يعوقه شيء. والآن، وبعد مرور كل تلك الاعوام، مازلت أري انه لولا الثورة ما كنت سأحقق ماتمنيته لنفسي ولكل من حولي، حيث مهدت الثورة الطريق لي لأصل إلي ما اصبحت عليه أنا وغيري من فتيات الطبقة المتوسطة في بلدي. وحتي اليوم، وفي كل عام، حين يحل عيد ميلادي، مازلت استرجع الاحساس الرائع الذي شعرت به في ذلك اليوم.. أجمل اعياد ميلادي.. عيد ميلادي السابع عشر الذي أهداني فيه الوطن ثورة وحلما.