مازلت أذكر بشجن تلك التحفة السينمائية الرائعة التي شاهدتها لأول مرة وأنا في بواكير صباي.. »أحدهم طار فوق عش الوقواق» إخراج ميلوش فورمان وبطولة جان نيكلسون.. هذا الفيلم المعدود ضمن أفضل وأجمل ما أنتجته ستوديوهات هوليوود في طول تاريخها، حصد في عام عرضه (1975) جوائز الأوسكار الخمس الرئيسية. الفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأمريكي كين كيزي، ويعرض بنعومة حكاية من حكايات القمع الذي يحشر فيه المقموع بين خيارين، فإما أن يتعايش مع القمع، أو يموت. تبدأ الحكاية مع مشهد وصول مريض يدعي »ماكورفي» إلي مستشفي للأمراض العقلية، غير أن المشاهدين سرعان ما يكتشفون أن »ماكورفي» هذا (جاك نيكلسون) ليس مريضا وإنما ادعي الجنون بالكذب للإفلات من عقوبة السجن التي حُكم بها عليه، ومن بعد وصوله وبدء انخراطه في عالم المستشفي تتبدي له غرابته حيث العلاقة بين المرضي من جهة وفريق الممرضين من جهة أخري، مطبوعة بنوع من القمع فريد وغريب ومستقر أيضا. اقتحام »ماكورفي» هذا العالم المغلق يفتح فجأة بابا لاضطرابه وخلخلة دعائم استقراره علي القمع، فالنزيل الجديد يأبي بطبيعته المشاغبة المتمردة الاستسلام للقوانين والأعراف الراسية في المكان، وهو يبدأ علي الفور في زرع بذور التمرد بين زملائه من دون أن يكون له في ذلك أية غاية أو هدف سوي الاستجابة لنزوعه وتعوده علي خرق القوانين وكسر القيود ومخالفة السائد. أما الوسيلة التي يستعملها الرجل في تنفيذ المهمة التي كلف نفسه بها، فهي مد شبكة محكمة من العلاقات الإنسانية مع عدد كبير من المرضي، ويخص بصداقة حميمة مريضا من الهنود الحمر يبدو في الظاهر أنه يعاني من صمم وخرس، لكنه في الحقيقة ليس أصم ولا أخرس ولا هو أصلا مجنون. علاقات »ماكورفي» بزملائه نزلاء المستشفي تظهر نتائجها بسرعة إذ تسود روح جديدة بينهم يميزها الود واللطف بحيث يبدو هؤلاء وهم في حضرة زميلهم الجديد أقرب إلي الصحة لا المرض، وهو أمر يثير حفيظة وغضب السيدة »راتشيد» رئيسة العنبر إذ تستشعر أن هذا النزيل المتطفل يريد أن يحطم النظام ويخرج الوضع كله عن »سجن المألوف» الذي تسهر هي علي بقائه. تمر أحداث الفيلم علي هذا النحو حتي إذا ما وصلنا إلي منتصفه، يشعر ماكورفي أن الحلقة تضيق من حوله خصوصا وقد اكتشف أنه وقع في مأزق خطير قاده إليه هروبه من السجن بادعاء الجنون، فهو يعرف الآن أنه لن يخرج من »سجن المشفي» حتي بعد انتهاء مدة العقوبة المحكوم بها ضده ما لم يحصل علي شهادة بالشفاء تكتبها لجنة من الأطباء، وقد كتبت اللجنة بالفعل تقريرا بهذا المعني، لكن رئيسة العنبر ترفض التقرير وتصر علي أن هذ النزيل مازال مريضا خطيرا، وإمعانا في الانتقام منه تخضعه لصدمات كهربائية قوية وطويلة يخرج ماكورفي من أولي جلساتها منهكا جدا، ويقرر الرد بنقل صراعه مع رئيسة العنبر الطاغية إلي درجة الحسم.. كيف؟! يقنع صديقه الهندي بأن يهربا معا ويحددا موعدا للعملية في نهاية ليلة عيد الميلاد التي ينظم لها حفلا صاخبا شحنه بمظاهر عربدة وفسق وصلت إلي حد أنه أعار صديقته التي تسللت إلي المستشفي لشاب مريض بعقدة جنسية.. وبعد أن انتهت الليلة وفيما الجميع يغطون في نوم عميق تصل رئيسة العنبر وتضبط الشاب المريض مع صديقة ماكورفي، وتصب علي الفتي جام غضبها حتي تدفعه إلي الانتحار. هنا يحاول صاحبنا المتمرد أن يقتل تلك السيدة الطاغية، بيد أنه يفشل ويبدأ في دفع ثمن باهظ تمثل في إخضاعه لجلسات صعق بالكهرباء مكثفة وأشد عنفا، وذات ليلة يخرج من إحداها مضعضعا تماما، وبينما هو راقد علي سريره كخرقة بالية يتسلل إليه صديقه الهندي، غير أن هذا الأخير بدل أن ينقذه ويساعده لكي ينفذا معا خطة الهروب، فإنه يخنقه حتي الموت، ثم يقفز هاربا إلي البراري التي كان أستاذه »ماكورفي» يحلم أن يعبراها معاً إلي الحرية !!