كنا في جلسة عائلية، وكالعادة دار النقاش حول الأزمات الخانقة التي تحاصرنا وخاصة غلاء الأسعار وانهيار الجنيه الذي ألقي بالطبقة الوسطي إلي قاع المجتمع بجوار محدودي ومعدومي الدخل.. وتطرق الحديث لمشكلات الزراعة وكان رأيي أن حل معضلاتنا الاقتصادية وتعزيز موقف عملتنا أمام الدولار، يبدأ بإنقاذ الزراعة وإنصاف المزارعين.. وعرضتُ بالتفصيل وجهة نظر بهذا الشأن سبق أن كتبتُ عنها مراراً.. وهنا فوجئت بابنتي الكُبري تقول "المفروض يعينوك وزير زراعة يا بابا".. وأضافت بجدية "إذا كانت حلول المشكلات ممكنة ومتاحة بكل هذه البساطة والوضوح فلماذا الإصرار علي اختيار مسئولين فاشلين بلا رؤية أو قرار"؟!!.. وقلتُ إن أصل الأشياء وخاصة في الدول الديمقراطية هو أن يكون الوزير ورئيس الوزراء من السياسيين ذوي الثقافة العامة والرؤية الشاملة وليس بالضرورة أن يكون متخصصاً في مجال عمل وزارته إذ من المفترض أنه سيستعين بالعلماء والمختصين لتنفيذ رؤيته وقراراته.. وما لم يكن المسئول صاحب رؤية وقرار فسيتحول إلي موظف ينتظر الأوامر والتوجيهات العليا ويفقد القدرة علي الإبتكار وطرح أفكار وحلول غير نمطية للمشكلات.. ومنصب وزير الزراعة مثلاً يتطلب فلاحاً بأفق سياسي له معرفة عامة بالأرض والمحاصيل الرئيسية أو الاستراتيجية ومدخلات ومخرجات وأدوات الإنتاج.. والأفضل أن يكون قد مارس الزراعة بشكل مباشر أو غير مباشر وتعامل مع الفلاحين وعايش مشكلاتهم.. وذلك ينسحب علي وزير الصناعة والتجارة والتعليم والصحة وغيرهم.. وسأضرب مثلاً بسيطاً يوضح أهمية ومحورية الزراعة كرافعة لتحسين الأوضاع الاقتصادية ورفع مستوي معيشة أكبر شريحة من المواطنين.. فلو رفعنا أسعار توريد المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والذرة والقطن وقصب السكر إلي المستوي العالمي أو إلي الحد الذي يضمن ربحية مريحة تدفع الفلاحين إلي الإقبال بحماس علي زراعتها، فإن النتائج والمكاسب ستكون هائلة وواسعة وبالغة التأثير.. ولمزيد من الإيضاح والتفصيل أقول إن السعر المقترح من الحكومة حالياً لتوريد طن القصب هو 620 جنيهاً بينما يطالب الفلاحون بزيادته إلي 800 جنيه لتحقيق بعض العدالة والإنصاف.. ولو كنتُ مسئولاً لرفعت السعر فوراً إلي ألف جنيه قابلة للزيادة سنوياً مع توفير مستلزمات الإنتاج بأسعار ثابتة ومدعمة إضافة إلي توفير الإرشاد الزراعي المتطور لمضاعفة إنتاجية الفدان ورفعها من 40 طناً في المتوسط إلي 60 طناً.. فذلك سيغري الفلاح بزيادة المساحة المزروعة مما سيضاعف كميات القصب المُورَد إلي المصانع التي تعمل حالياً بنصف طاقتها رغم أننا نستورد أكثر من 30 % من استهلاكنا بالعملة الصعبة !!.. وعندما تعمل مصانعنا بطاقتها القصوي سيتضاعف إنتاج السكر وغيره من مخرجات هذه الصناعة مثل المولاس والخل والكحول والعسل وغيرها، مما سيرفع الأرباح ويُحسِن أجور وأحوال العاملين.. بقي التأكيد علي ضرورة عودة تبعية مصانع السكر إلي وزارة الصناعة لأن الفساد ولوبي السماسرة والتجار نقلا تبعيتها لوزارة التموين وذلك زواج باطل وغير مُبَرَر !!.. وما ينطبق علي القصب يسري علي القطن كمحصول مرتبط بصناعة عريقة هي "الغزل والنسيج" التي تعيش أسوأ أحوالها منذ نشأتها.. أما القمح والذرة فهما مصدر "العيش" وأساس الأمن الغذائي.. بقي أن يُدرِك دراويش "صندوق النقد" الذين يديرون الاقتصاد أن الاستثمار في دعم الزراعة مضمون الفائدة والربح وسيرفع مستوي معيشة ودخول المزارعين والعمال ويضاعف قدرتهم الشرائية مما يضخ المزيد من الأموال في السوق المتعطشة للرواج والإزدهار.. ولكن يبدو أن لا فائدة من مخاطبة مَن يفتقدون للرؤية السياسية!!..