المشروع الأمريكى فى العراق كما سوقه السياسى العراقى أحمد الچلبى كان يعد بنموذج جديد لإدارة مجتمع ذى أغلبية شيعية. دولة ديمقراطية تعددية تطرح بديلا عن الحكم الدينى فى إيران. أما المشروع الإيرانى فاعتبر العراق قطعة البازل التى تمد جسر الهلال الشيعى من طهران إلى سوريا مرورا بلبنان. بعد الغزو، ثبت لأمريكا على الأرض أن أصدقاءها الديمقراطيين بلا قاعدة شعبية حقيقية. بل إن كبيرهم أحمد الچلبى سرعان ما ارتمى فى حضن إيران، وتحالف مع الأحزاب الدينية التى حصلت على الأغلبية فى كل انتخابات منذ الغزو وحتى الآن. ولم يكن ممكنا لأمريكا أن تستسلم لهذه الكارثة السياسية. تقديم العراق لعدوها اللدود، بعد تقشيره من صدام حسين، وتقطيعه إلى ثلاثة أمزجة سياسية طائفية واضحها. إيران وسورية كانتا متضررتين من وجود الجيش الأمريكى على مقربة من حدودهما، وعمدا إلى إشعال الوضع الداخلى للتعجيل بخروجه، والتخلص من نفوذه السياسى. تركيا كانت متضررة من إحياء مشروع دولة كردستان الكبرى. لكن الأهم من ذلك السعودية، التى كانت تخشى من المد الشيعى وتمادى النفوذ الإيرانى. عملى صحفيا فى هذه المنطقة علمنى أن للسعودية ثقلا لا يستهان به. وليس هذا مدحا ولا ذما. هذا أمر واقع. الثراء الفاحش والقدرة على ضخ الأموال، الأهمية الاستراتيجية بسبب البترول، ثم المكانة الطبيعية بسبب المقدسات الدينية، جعلت السعودية لاعبا لا يمكن تجاوزه أو غض الطرف عنه. طهران ودمشق كانتا قادرتين على إشعال الوضع الداخلى. أما السعودية، فبهدوء، وبصمت، استطاعت أن تقلب الطاولة. وأن تقنع أمريكا بأن لا استقرار فى العراق إلا بمشاركة «سنية عربية» فعالة. وأن تقنعها بالجلوس مع قادة عشائر سنية. وأثمرت اللقاءات عن تشكيل ميليشيات «الصحوة» التى سلحتها السعودية. وتعهدت تلك الميليشيات بنبذ «المقاتلين الأجانب» وبالانخراط فى العملية السياسية. ثم دعمت السعودية إياد علاوى، السياسى الشيعى العالمانى المقبول سنيا (أمه ابنة الزعيم اللبنانى السنى رياض الصلح، أول رئيس وزراء للبنان بعد الاستقلال). نجاح السعودية النسبى فى العراق أنقذ الأمريكيين من ورطة كبرى. وأثبت لهم أنهم لم يفهموا المنطقة فهما جيدا. وتأكد ذلك من فوز حماس بالأغلبية فى الانتخابات الفلسطينية. كل هذا ذكّرهم مرة أخرى بمشكلتهم فى البحث عن حليف نموذجى، دولة كبيرة، مؤثرة، وليس فقط دولة قائمة على قناة إعلامية. أمريكا تحتاج إلى «تركيا عربية»، إن أرادت أن لا ترسل أبناءها إلى المنطقة (لم يعد الاعتماد على إسرائيل كافيا). رأينا ما حدث فى العراق، وسورية على ما تعلمين. ولم يبق من العواصم العربية الجمهورية الكبرى سوى القاهرة. لم يكن صدفة أن حزب الإخوان المسلمين سمى نفسه «الحرية والعدالة» على نمط «العدالة والتنمية» التركى. لقد أدركوا الفرصة السانحة. وربما، ربما، استطاعوا تبديد المخاوف الأمريكية منهم، بمساعدة من قطر وجناحها الإعلامى، وتركيا نفسها. لقد كان الثلاثة مجتمعين فى القاهرة قبل أيام. مرة أخرى، أنا لا أتحدث عن نظرية مؤامرة، هذه هى السياسة. بل إنى حتى لا ألوم أيا من الأطراف على هذا السعى. وغرضى الوحيد من تقديم هذه الرواية هو أن نحاول معا التفكير فى السياسة بطريقة «السياسة»، بطريقة اقتناص الفرص السانحة، بطريقة القيادة لا التبعية، سواء للخارج أو للجماهير. والفارق بين الإنصات للجماهير والتبعية لهم كبير. كالفارق بين ونستون تشرشل وزعماء الإخوان المسلمين. لكن الأمر لو كان بالأسماء ماكانش حد غلب. مش كده؟! لدى الإخوان المسلمين تناقضات سرعان ما كشفت عن نفسها، وكشفت عن الفارق بين إسلامجية تركيا ونظرائهم المصريين. وجعلت الأمريكيين يسارعون إلى مساءلة قرار أوباما رفع الدعم عن حليفهم مبارك سريعا. أفتح هنا قوسين لأقول إن أمريكا حين رفعت الدعم فعلت الصواب. تخيلى لو لم تفعل هذا؟! لكنا الآن نشكو أيضا تصرفاتها. المهم أن تناقضات الإخوان المسلمين كشفت عن نفسها فى أزمة «الفيلم المسىء»، لكنها ستكشف عن نفسها أكثر مع موضوع غزة، كما ستكشف عن الفارق بين دقة الوضع المصرى فى مقابل البراح التركى والقطرى حين يأتى الموضوع إلى غزة/فلسطين – وسيناء أيضا، لا تنسى! غدا موعدنا.