هناك عبارة شائعة ومشهورة (لكنها من وجهة نظرى كريهة) يصوغها بطرق مختلفة صناع بعض الأفلام السينمائية فى بلادنا ويطبعونها على أشرطتهم التى تتناول قصصًا واقعية حدثت بالفعل، غير أنهم، هربًا من الرقابة أو بسبب نقص فى الشجاعة، لا يريدون الاعتراف بحقيقة اقتباس هذه القصص.. تلك العبارة ربما تقول مثلا: «أحداث هذا الفيلم وشخصياته قد تتشابه مع وقائع حدثت وشخصيات موجودة فى الواقع، غير أن الأمر كله مجرد مصادفة غير مقصودة». وقد سمعت فى اليومين الماضيين من أصدقاء وزملاء أعزاء مطلعين (أو هكذا فهمت) على ما يجرى فى دهاليز السلطة العليا، حكايات وروايات وتفسيرات شتى لوقائع الانقلاب السلطوى الذى جرى قبل أيام وانتهى بدفن ما تبقى من سلطة ونفوذ قيادات المجلس العسكرى التعبان الذى جرجر البلاد مدى عام نصف العام وبنجاح مدهش إلى فشل شامل وجحيم مروع، فأما خلاصة أهم هذه الحكايات وأكثرها دراماتيكية (بغض النظر عن دقتها) فهى تكاد تقطع بأن ما جرى كان انقلابًا مشطورًا وموزعًا على طرفين اثنين، أولهما الرئيس مرسى وجماعته اللذان حصدا الجزء الأكبر والأخطر من غنائم الانقلاب، إذ صارا يقبضان وحدهما على كل السلطات فى البلد، والطرف الثانى هو مؤسسة الجيش نفسها التى اضطرت إلى التحرك من أجل إنقاذ كيانها والفرار بهيبتها وسمعتها من مستنقع خيبة قوية وإهانة موجعة أسقطتها فيه القيادة القديمة، أى المشير ورئيس أركانه. والحق أنه ليس لدى عبد الله الفقير، كاتب هذه السطور، أية مؤهلات أو معلومات تسمح بتمحيص وتدقيق هذه الحكايات والروايات، ومن ثم لا أستطيع أن أعتبرها حقائق أبنى عليها تنبؤات وإنما أغرتنى وأغوتنى الدراما الإنسانية الفاقعة الراقدة فى ثنايا إحداها (أشدها أحكاما وأكثرها تماسكا ومنطقية) باستدعاء واحدة من أقوى وأشهر حكايات الأدب العالمى، ألا وهى حكاية أو مأساة «الملك لير» تلك التحفة التى أبدعها قبل نحو أربعة قرون أعظم أدباء وشعراء الإنجليز وليام شكسبير مستوحيًّا إياها من وقائع وأحداث حقيقية مرت بتاريخ بلاده. فى السطور المقبلة سأحكى القصة الشكسبيرية بتلخيص مخل جدا، ولكن من دون أن أقول إنها مقطوعة الصلة والعلاقة بحكايات انقلاب مرسى الذى يؤكد بعض الناس أنه لم يكن هو وجماعته منفردين به، وإنما رغبتهما تقاطعت والتقت مع رغبة الجيش فى الخلاص من قيادته «الأبوية» القديمة التى ربما تكابد الآن شيئا من مشاعر الملك لير عندما انقلبت ابنتاه عليه. تبدأ المسرحية بالملك العجوز «لير» وقد أراد أن يقضى ما تبقى من حياته الصاخبة الماجنة متمتعًا بالراحة والهدوء بعيدا عن مسؤوليات الحكم، هكذا يصارح بهلوله (مضحك الملك) الذى سيختفى تمامًا من الفصل الثالث للمسرحية عندما يضحى الملك نفسه مشردا و«بهلولا».. كانت فكرة «لير» أن يوزع ملكه كله فى حياته على بناته الثلاث «جونيريا» و«ريجان» و«كورديليا»، لكنه يرهن فعل ذلك على شرط شديد النرجسية ويناسب طبيعته النزقة، فهو يستدعى بناته الثلاث ويسأل كلا منهن عن مدى الحب الذى تكنه له، فتقول كبراهن إنها تحبه حبا متجددا لا نهاية له تماما مثل زبد البحر وأمواجه، وتقول الثانية إنها تحبه بمقدار يفوق حجم الدنيا كلها، غير أن أصغر بناته «كورديليا» ولأنها أكثرهن صدقا وإخلاصا وطيبة لا تشارك أختيها مباراة النفاق تلك، فتقول لوالدها بمنتهى التواضع إنها تحبه كما يحب كل الناس آباءهم.. أمام هذه الإجابة الصادقة يجن جنون «لير» وتعميه الأنانية والغرور فيقرر طرد «كورديليا» من رحمته ويتركها تتزوج من ملك فرنسا بغير مهر، ويوزع نصيبها فى مملكته على أختيها ويسلم نفسه وملكه لهما تمامًا، لكنهما سرعان ما يعاملانه بعقوق ووحشية حتى إنهما بعد أسبوعين يطردانه من القصر فيضْحَى طريدا فقيرا متشردا يلعن الأرحام ويخاطب الرعد ويصرخ فى السماوات بآلامه وأحزانه من دون مجيب حتى يستقر فى ظلمات الجنون. تعرف «كورديليا» بما جرى للملك فتتحرك من فرنسا إلى إنجلترا على رأس جيش كبير، وفى نيتها إنقاذ أبيها، بيد أن جيشها ينهزم وتقع هى وأبوها أسيرين فى يد أختيها، وفى السجن تموت ويموت «لير» بعدها، وقد استطاع من خلال جنونه أن يدرك حقيقة لم يدركها ولم يفهمها وهو يرفل فى نعيم ملكه وفى تمام عقله.. أدركها الآن فقط، ولكن بعد فوات الأوان.