نعود إلى البدايات: يبدو أن من بين الأمراض العضال التى تصاب بها الدول والمجتمعات حين تتمكن منها الفاشيات أو نظم الحكم الشمولية والسلطوية والنظم المسخ داء بدائية فكر وفعل النخب المسيطرة. وفى السياق المصرى الراهن، لم أنتبه إلى البدائية هذه مبكرا، ربما لأن الظواهر الدالة عليها هى ذاتها المرتبطة بأمراض أخرى كالقمع وانتهاك حقوق الإنسان والانتقاص من الحريات وغياب الرقابة والمساءلة والمحاسبة. أليس بدائيا، على سبيل المثال، أن تعمد النخب المسيطرة اليوم فى مصر إلى فرض القيود على حرية التعبير عن الرأى والحريات الإعلامية وإلى تنميط المحتوى الإعلامى (فى الصحافة وفى القنوات التليفزيونية) انطلاقا من مضامين أحادية هى تأييد ترتيبات ما بعد 3 يوليو 2013، وأولوية «الحرب على الإرهاب»، والتجريم الجماعى للإخوان ومؤيديهم وحلفائهم فى اليمين الديني، وتشويه المدافعين عن حقوق الإنسان والمطالبين بالتحقيق فى الانتهاكات وممارسات الدولة الأمنية؟ ومناط البدائية هنا هو تجاهل حقيقة أن تنوع وتعدد المحتوى الإعلامى غير قابل للإلغاء مع وسائط الإعلام البديل (شبكات التواصل) وإعلام الفرد فضلا عن السياسات التحريرية المتفاوتة للصحف التى تصدر فى الخارج وللقنوات الفضائية التى تبث منه. أليس بدائيا أيضا أن تعمد النخب المسيطرة إلى توظيف ذات الأدوات القمعية العتيقة، من تعذيب واعتقالات استثنائية وتعقب وتضييق فى أماكن العمل والحياة الخاصة؟ ومناط البدائية هنا هو عدم إدراك حقيقة أن كشف وفضح الممارسات المرتبطة بمثل هذه الأدوات ونزع شرعيتها، ولو لدى القطاعات المحدودة من المواطنات والمواطنين التى لم تزل تبحث عن الإنسانية والعدل، أصبح أسهل بكثير مما كان عليه الحال منذ سنوات قليلة خلت. أليس بدائيا أن تطلق علينا النخب المسيطرة مدعى المعرفة والعلم زورا وأبواق المؤسسات العسكرية والأمنية والمتورطين القدامى والجدد فى تشويه وتزييف الوعى العام لكى يعيثوا فى المساحة العامة ترويجا لمقولات تبريرية لانتهاكات حقوق الإنسان والانتقاص من الحريات وغرسا لمقولات الكراهية وتغييبا للمعلومة والحقيقة ونشرا للإفك؟ ومناط البدائية هنا مزدوج، فمن جهة تعيد النخب المسيطرة اليوم تدوير بعض الوجوه التى عول عليها نظام الرئيس مبارك قبل انهياره متجاهلة انعدام مصداقيتها، ومن جهة أخرى لا تصمد محدودية معارف هؤلاء وسطحية وهشاشة فكرهم طويلا أمام التفنيد الجاد المستند إلى الدفاع المبدئى عن الحقوق والحريات وعن الإنسانية التى ترفض الإقصاء والعقاب الجماعى والانزلاق مجددا الى هيمنة المكون العسكرى الأمنى على الدولة والمجتمع ومن ثم الخروج من التاريخ.